البئر (اعتصام مائه)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
البئر (توضيح).
البحث في
اعتصام ماء
البئر وعدمه إنّما هو من حيث كونه ماء بئرٍ بما له من المعنى
المقابل للجاري و
الراكد وغيره، قليلًا كان و كثيراً، وأنّ البئريّة والنابعيّة هل لها دخالة في الاعتصام أم لا؟ ولذا حكم بعضهم باعتصامه ولو كان قليلًا، وحكم آخرون بتنجّسه بمجرّد
الملاقاة ولو كان كرّاً كما سيأتي.
و
الحكم فيه أنّه يتنجّس بملاقاة النجس إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة، من
اللون و
الطعم و
الرائحة ، كسائر
المياه المطلقة، وهذا ممّا لا خلاف فيه، بل عليه النصّ و
الإجماع . قال
المحقّق الحلّي : «وأمّا ماء البئر فإنّه ينجس بتغيّره بالنجاسة إجماعاً».
فإنّ الماء
المطلق بجميع أقسامه يتنجّس فيما إذا تغيّر بسبب ملاقاة
النجاسة أحد أوصافه: اللون والطعم والرائحة كما صرّح بذلك بعضهم.
وإنّما الكلام في تنجّسه بمجرّد ملاقاة النجاسة ومن دون تغيّر في الأوصاف، وفيه أقوال ثلاثة:
التنجس مطلقا، أي سواء كان كرّاً أم لا. وهذا القول نسبه
الشيخ الأنصاري إلى أكثر القدماء وبعض المتأخّرين، كالصدوقين والمفيد والسيّد والشيخ و
ابن زهرة و
سلّار و
ابن إدريس الحلّي و
ابن سعيد والمحقّق الحلّي والشهيدين الأوّل والثاني، بل عن
أمالي الصدوق : أنّه من دين
الإمامية .
وفي
الانتصار : أنّه «ممّا انفردت به الإماميّة».
وفي
شرح الجمل دعوى الإجماع
عليه، بل في
كشف الرموز : «ممّا يدلّ على نجاسته فتوى الفقهاء من زمن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا بالنزح».
ودليلهم على ذلك الأخبار
الدالّة على منزوحات البئر؛ فإنّها- رغم
اختلافها في مقدار النزح- تدلّ على تنجّس البئر بملاقاة النجس، سواء كان قليلًا أم كرّاً، وسواء حصل التغيّر فيه أم لا، لظهورها في أنّ الأمر بالنزح
إرشاد إلى نجاسة البئر، وأنّ النزح مقدّمة لتطهيرها.
هذا مضافاً إلى بعض الأخبار الظاهرة في النجاسة، كصحيحة
محمّد بن إسماعيل ابن بزيع ، قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل
أبا الحسن الرضا عليه السلام عن البئر تكون في
المنزل للوضوء، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شيء من عذرةٍ-
البعرة ونحوها- ما الذي يطهّرها حتى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه السلام بخطّه في
كتابي : «ينزح دلاء منها».
و
صحيحة علي بن يقطين عن
أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن البئر تقع فيها
الحمامة و
الدجاجة والفأرة أو الكلب أو الهرّة، فقال: «يجزيك أن تنزح منها دلاء؛ فإنّ ذلك يطهّرها إن شاء
اللَّه تعالى»،
حيث اشتملتا على كلمة (يطهّرها) في كلام
السائل في
الرواية الاولى، وهو يكشف عن أنّ
نجاسة البئر بالملاقاة مفروغ عنها عنده وأقرّه
الإمام على ذلك، حيث بيّن مطهّرها وهو نزح دلاء
يسيرة ، وفي كلام الإمام في الرواية الثانية حيث قال عليه السلام: «فإنّ ذلك يطهّرها»، وهو صريح في النجاسة بوقوع شيء من النجاسات المذكورة فيها، وأنّ
النزح يطهّرها.
وقد اجيب عن هذه الأخبار عموماً بلزوم حملها على
الاستحباب ؛ للأمارات الكثيرة، كما سيأتي. كما اجيب عن خصوص رواية محمّد ابن إسماعيل- مضافاً إلى ذلك- بأنّ دلالتها ليس إلّامن باب
التقرير بضميمة
أصالة عدم
الخوف في الردع
بالكتابة ، وهو
معارض بظهور قوله عليه السلام: «ينزح دلاء» في كفاية مطلق النزح، مع أنّه غير قابل
للالتزام عند القائلين بالنجاسة، فيتعيّن حمل الجملة الخبريّة على الاستحباب.
وعن الأخيرة بأنّها وإن كانت دلالتها أظهر من الاولى لوقوع كلمة (يطهّرها) في
كلام الإمام، إلّاأنّ الأمر فيها بنزح الدلاء أظهر في الاستحباب؛ وذلك لكونه في مقام
البيان ، فيبعد حملها على بيان نوع المطهّر وإحالة
تفصيل الحكم في كلّ واحد من النجاسات المذكورة في الرواية إلى مقام آخر، ولا يمكن الالتزام أيضاً بكفاية مطلق النزح في حصول الطهارة، فالأولى حمل لفظ
التطهير فيه على
إرادة إزالة القذارة و
النفرة الحاصلة من وقوع تلك
الأشياء .
نعم، هناك بعض الأخبار قد يدّعى أنّها تدلّ بمفهومها على
التنجس فيما إذا وقع فيه ما له نفس سائلة، كصحيحة
أبي بصير ، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عمّا يقع في الآبار، فقال: «أمّا الفأرة وأشباهها فينزح منها سبع دلاء... وكلّ شيء وقع في البئر ليس له دم مثل
العقرب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس».
إلّاأنّها معارضة بما هو أقوى منها من
الصحاح الدالّة على عدم
انفعال البئر.كما في قول أبي الحسن الرضا عليه السلام في صحيح محمّد ابن إسماعيل بن بزيع: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّاأن يتغيّر ريحه أو طعمه.»
وصحيحة
علي بن جعفر عن
أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن بئر ماء وقع فيها
زبيل من عذرة رطبة أو يابسة، أو زبيل من سرقين، أيصلح الوضوء منها؟ قال: «لا بأس».
هذا، وقد رجّح الفقهاء الروايات الدالّة على الطهارة وعدم الانفعال لقرائن كثيرة.
قال الشيخ الأنصاري- بعد نقل
الأخبار الدالّة على عدم الانفعال-: «فهذه أخبار اثنا عشر بين صريح في المطلوب (أي عدم
النجاسة ) وظاهر فيه، ولو قُدّرت معارضة ظواهرها بظواهر ما تقدّم من أخبار النجاسة كان الواجب على المنصف ترجيح هذه عليها. هذا كلّه مضافاً إلى مخالفة أخبارنا
الطهارة للعامّة وموافقتها لعمومات طهارة الماء، واستلزام العمل بأخبارهم
النجاسة لطرح أخبار معتبرة كثيرة في مقام
التعارض في مقدار النزح... ثمّ على فرض
التكافؤ فالواجب
الرجوع إلى العمومات، ومع التنّزل فإلى
أصالة الطهارة ...».
ثم إنّ الحمل على الاستحباب في أخبار النزح إنّما يصحّ بناءً على كون
الأمر الوارد فيها أمراً تكليفيّاً غير محمول على
التقيّة ، وأمّا مع عدم أحد الأمرين فلا وجه للحمل على الاستحباب؛ ضرورة أنّ الأمر فيها لو كان
إرشاداً إلى النجاسة فلا معنى لحمله على التكليفي ولو استحباباً. كما أنّ مع الحمل على التقيّة في مقام التعارض- ولو كان ظاهراً في
التكليف - لا وجه للحمل على الاستحباب؛ لأن الأمر
المحمول على التقيّة
مطروح في الحقيقة، وغير قابل
لاستفادة أيّ حكم منها، فالحكم باستحباب النزح بناء على ذلك يحتاج إلى دليل آخر غير هذه الأخبار.
قال
السيّد الخوئي في هذا المجال: «وكيف كان، فهذه الأخبار محمولة على التقيّة، وبهذا يشكل
الإفتاء باستحباب النزح أيضاً؛ إذ بعدما سقطت أخبار وجوب النزح عن
الاعتبار وحملناها على التقيّة لم يبق هناك شيء يدلّ على الاستحباب. وبعبارة اخرى: الأخبار الآمرة بالنزح ظاهرة في الإرشاد إلى نجاسة البئر بالملاقاة، وقد رفعنا
اليد عن ظاهرها بما دّل على
طهارة البئر وعدم انفعالها بشيء، وعليه فحمل تلك الأخبار على خلاف ظاهرها- من الاستحباب أو
الوجوب التعبديّين مع بقاء البئر على طهارتها- يتوقّف على دليل. رنعم، لو كانت ظاهرة في وجوب النزح تعبّداً لحملناها على الاستحباب بعد رفع اليد عن ظواهرها بما دلّ على طهارة البئر وعدم وجوب النزح تعبّداً.
ونظير المقام الأخبار الواردة من طرقنا في أنّ
القيء و
الرعاف ومسّ الذكر و
الفرج والقُبلة يوجب
الوضوء - كما هي كذلك عند العامّة- فإنّها ظاهرة في الإرشاد إلى ناقضيّة الامور المذكورة للوضوء، فإذا رفعنا اليد عن ظواهرها بالأخبار الدالّة على حصر النواقض في ستٍّ وليس منها تلك الامور، وبنينا على أنّ الرعاف و
أخواته لا تنقض الوضوء، فلا يمكن حمل الأخبار المذكورة على استحباب الوضوء بعد الرعاف وأخواته...».
عدم التنجس ما لم تتغيّر ولو كان قليلًا. وهذا القول نسبه الشيخ الأنصاري إلى
العماني و
ابن الغضائري، و
الشيخ الطوسي والعلّامة في أكثر كتبه، والفخر في
الإيضاح ، و
التنقيح و
الموجز و
جامع المقاصد، بل إلى جمهور المتأخّرين عن
الشهيد الثاني ،
وذهب إليه صاحب الجواهر والشيخ الأنصاري وصاحب
العروة والسيّد الخوئي والإمام الخميني والشهيد الصدر وغيرهم.
نعم، قيّده بعضهم بما إذا بلغت مادّته كرّاً
ولو بضميمة ما له
المادة إليها.
ورّده الشهيد الصدر بأنّه مع صدق المادّة لا يحتاج إلى شيء آخر.
ودليلهم على ذلك الأخبار الدالّة على اعتصام ماء البئر مطلقاً ما لم يتغيّر أحد أوصافه، بضميمة عدم وضوح
دلالة الأخبار السابقة على الانفعال، أو لوجوب طرحها وحملها على
التقيّة ؛ لموافقتها للعامّة، أو لمعارضتها بالأخبار الدالّة على الاعتصام و
ترجيح هذه عليها، أو لتساقطهما فتصل
النوبة إلى عمومات الكتاب والسنّة الدالّة على طهارة الماء، أو
أصل الطهارة، وقد مرّ
توضيحها في ردّ أدلّة القائلين بالتنجّس. وهناك وجوه اخرى غير ما ذكر في
الإجابة عن أخبار الانفعال وكيفيّة رفع
التعارض بينها وبين ما دلّ على الاعتصام،
تركنا تفصيلها إلى محلّه.
فيتنجّس الأوّل دون الثاني.
وهذا في الحقيقة
إلغاء لعنوان البئرية، وجعل الحكم دائراً مدار الكرّية وعدمه، فيكون البئر حينئذٍ كالراكد غير
النابع في الأحكام مع زيادة النزح كما سيأتي. وقيل: إنّ هذا التفصيل لازم للعلّامة الحلّي المفصّل في الجاري بين القليل والكثير؛ لعموم
الدليل ، فهنا أولى.
واجيب عنه بعدم
الملازمة ؛ إذ قد يكون للبئر حكم بالخصوص، فإنّ لها أحكاماً كثيرة قد اختصّت بها، سواء كان ماؤها قليلًا أو كثيراً؛ لمكان الأخبار.
قال: «لكن لا يبعد
استظهاره منه في
المنتهى »،
ولعلّ مراده قوله في
الماء الجاري : «
الأقرب اشتراط الكرّية؛ لانفعال الناقص عنها مطلقاً».
ولكن عبارته في
القواعد ظاهرة في عدم قائلٍ به في زمانه فضلًا عن أن يكون هو القائل به، قال: «وإن لاقته من غير تغيير فقولان، أقربهما البقاء على
الطهارة »،
فإنّ قوله: «فقولان» ظاهر في عدم قائل من فقهائنا بالتفصيل إلى زمانه. وكذلك عبارته في نفس المنتهى» في مباحث البئر.
نعم، قيّد الحكم بعدم انفعال ما له مادّة- ومنه البئر- فيما إذا كانت مادّته تبلغ
الكرّ ولو بضميمة ما له المادّة إليها، والظاهر أنّه غير هذا
التفصيل كما هو ظاهر. وكيف كان، فلعلّ دليله بعض الأخبار، كموثّقة عمّار، قال: سُئل أبو عبد اللَّه عليه السلام عن البئر يقع فيها زبيل (الزبيل: القُفّة.)
عذرة
يابسة أو
رطبة ، فقال: «لا بأس إذا كان فيها ماء كثير».
وصحيح محمّد بن إسماعيل عن
الإمام الرضا عليه السلام قال: «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلّاأن يتغيّر ريحه أو طعمه، فينزح...»،
بناءً على ظهور قوله عليه السلام: «كثير» و «واسع» في الكرّية، أو لغلبة الكرّية في البئر الموجب لحمل نصوص الطهارة عليه عند الجمع بينها وبين عموم انفعال القليل، فيكون عموم انفعال القليل بلا
معارض .
ولكن اجيب عنه بعدم ثبوت
اصطلاح للشارع
الأقدس بالنسبة للكثرة والسعة في الكرّية، وممنوعيّة غلبة الكرّية في ماء البئر، فيكون الجمع بين نصوص اعتصام البئر ونصوص انفعال الماء القليل بحمل الثانية على غير ماء البئر؛ لظهور الاولى في خصوصيةٍ لماء البئر قد امتاز بها عن غيره، وإذا بُني على التقييد بالكثرة بمعنى الكرّية فهو إلغاء لخصوصيّة البئريّة، وهو خلاف ظاهر الحديث، مضافاً إلى
استلزامه إلغاء
التعليل الوارد ذيل الرواية بأنّ له مادّة؛ إذ مع
التقييد بالكرّية يكون عدم الانفعال ثابتاً حتى مع عدم المادّة، فهو كاللغو.
بل تكون الرواية بنفسها من أدلّة القول باعتصام البئر مطلقاً؛ لظهور الواسع فيها؛ إمّا في
س عة الحكم- كما صرّح به
السيّد الحكيم والخوئي- وإمّا في سعة الماء سعة عنائيّة لا فعليّة
باعتبار المادّة التي هي مفروضة في نفس عنوان ماء البئر، كما ذكره الشهيد الصدر، مضافاً إلى
الاحتمال الأوّل.
قال: «حيث دلّت (
صحيحة محمّد بن إسماعيل) على أنّ ماء البئر واسع الحكم والاعتصام، وغير مضيّق بما إذا بلغ كرّاً كما في سائر المياه، فلا ينفعل مطلقاً، وهذا معنى قوله عليه السلام: «لا يفسده شيء»، وأمّا قوله (عليه السلام): «لأنّ له مادّة» فهو إمّا علّة لقوله «واسع»، فيدلّ على أنّ اعتصام البئر
مستند إلى أنّ له مادّة، وإمّا علّة لقوله «فيطهر» المستفاد من قوله «فينزح»، أي ينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه، فيطهر؛ لأنّ له مادّة... وعلى الجملة، يستفاد من تلك الصحيحة أنّ ماء البئر
معتصم لا ينفعل بملاقاة النجاسة؛ لمكان مادّته».
ثم إنّ هناك تفصيلًا آخر وهو التفصيل بين ما إذا كان الماء ذراعين في
الأبعاد الثلاثة فلا ينجس بالملاقاة وما لم يكن كذلك فينجس،
ولعلّ مرجع هذا التفصيل إلى التفصيل السابق، وأنّ خلافه في مقدار الكرّ لا في
أصل التفصيل كما احتمله
المحقّق الهمداني .
والتفصيل في ذكر الاقوال و
الطوائف المختلفة من الروايات وكيفيّة
الاستدلال بها متروك إلى محلّه.
الموسوعة الفقهية، ج۲۰، ص۱۳-۲۱.