عبادات الأخرس
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وكما تقوم إشارة
الأخرس مقام عبارته في معاملاته كذلك تقوم مقامها في أفعاله العباديّة المتعلّقة باللفظ كالصلاة
والتلبية والأذكار وغيرها، إلّا أنّ اللازم هنا زائداًعلى النطق تحريك اللسان ولوكه.والدليل على ذلك- زائداً على نفي الخلاف فيه- بعض الروايات الخاصّة كرواية
السكوني عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام:«تلبية الأخرس وتشهّده
وقراءته القرآن في الصلاة تحريك لسانه وإشارته بإصبعه».
واستدلّ بعضهم على ذلك أيضاً بدليل
العسر والحرج، وأنّه إذا لم تكن إشارته كافية لزم من ذلك العسر الشديد، وهما منتفيان في الشريعة.إلّا أنّ مثل هذه الاستدلالات استحسانيّة وليست فنّية.
ثمّ إنّ تعبيرات الفقهاء اختلفت في اشتراط كون
الإشارة بالإصبع أو يكفي
الإيماء بيده أو يكفي مطلق الإشارة.قال
الشيخ الطوسي : «وقراءة الأخرس وشهادته الشهادتين إيماء بيده مع
الاعتقاد بالقلب».
وقال المحقّق الحلّي: «والأخرس يجزئه تحريك لسانه والإشارة بيده».
وقال العلّامة في
القواعد : «والأخرس يعقد قلبه بمعناها مع الإشارة وتحريك اللسان»
وقال
السيد جواد العاملي معلّقاً على عبارة القواعد المتقدّمة ومتعرّضاً إلى
الاختلاف المذكور: «كما في البيان وجامع المقاصد وفوائد الشرائع والميسيّة
وروض الجنان، لكن في الجميع تقييد الإشارة بالإصبع ما عدا الأخير، فإنّه قال فيه: إنّه أحوط... وفي
المبسوط والتحرير: يكبّر بالإشارة بإصبعه من دون ذكر عقد قلبه وتحريك لسانه، وفي الإرشاد والمدارك: يعقد قلبه ويشير بإصبعه، وفي
التذكرة والذكرى: يحرّك لسانه ويشير بإصبعه، وفي
نهاية الإحكام : يحرّك لسانه ويشير بأصابعه أو شفته ولهاته مع العجز عن تحريك اللسان، وفي الموجز الحاوي وكشف
الالتباس : يحرّك لسانه فشفتيه ولهاته ويشير بإصبعه، فقد اتّفقت هذه الكتب على ذكر الإشارة بالإصبع، وفي
المعتبر والمنتهى:
الاقتصار على نسبة ذلك إلى الشيخ، ويلوح من ذلك التأمّل في ذلك، وفي الشرائع والنافع والتبصرة: يعقد قلبه مع الإشارة، وفي جامع الشرائع: يجزي الأخرس تحريك لسانه وإشارته، وفي
المفاتيح : يأتي بها الأخرس على قدر
الإمكان ، وفي كشف اللثام: يعقد قلبه ويحرّك لسانه وشفته ولهواته، وقد اتّفقت هذه على عدم ذكر الإشارة بالإصبع كالكتاب، وفي كشف اللثام: أحسن المصنّف حيث لم يقيّد الإشارة بالإصبع هاهنا كما قيّدها بها غيره؛ لأنّ
التكبير لا يشار إليه بالإصبع غالباً، وإنّما يشار بها إلى التوحيد انتهى. وفي روض الجنان: لا شاهد على التقييد بالإصبع على الخصوص...»..
وقال
الشيخ جعفر كاشف الغطاء : «والممنوع عن
الإتيان بها (بالتلبية) لنقص فيه أو لغير ذلك يعقدها بقلبه، ويحرّك لسانه، ويشير بيده قاصداً لمعناها، فتلبية الأخرس وتشهّده وقراءته القرآن في الصلاة تحريك لسانه وإشارته بإصبعه».
وقال المحقّق النجفي : «يحتمل
إرادة اليد من الإصبع في الخبر جرياً على غلبة الإشارة من الأخرس بها، بل قلّما يتّفق إشارته بغيرها مستقلّاً عنها، ولعلّ معنى التكبيرة يبرزه بها أيضاً، فلا يكون حينئذٍ ما في الخبر راجعاً إلى التوحيد خاصّة، كما أنّه بذلك يظهر وجه تقييد الأكثر بها تبعاً للنصّ».
...... وحاول بعض آخر جعل المدار في الإشارة بالمعتاد له، وأمّا فيما لا عادة له فإشارته بالإصبع أو خصوص السبّابة؛ لأنّه القدر المتيقّن من الإشارة قال
السيد المراغي : «إنّه يعتبر في الإشارة أن تكون بالإصبع، أو يكفي كونها بأيّ الأعضاء كانت من دون فرق، أو خصوص الأعضاء المعدّة للإشارة؟ ظاهر النصّ في بحث الإشارة في القراءة
وانصراف المطلقات إلى الغالب من كونها بالإصبع، وأصالة عدم تحقّق الأثر في غيره اعتبار الإصبع. وظاهر كلام بعض الأصحاب وعدم ظهور خصوصيّة في الإصبع عدم اشتراطه. والحقّ أن يقال: إنّ الأخرس الذي له عادة بالإشارة باليد أو بالإصبع أو بالأصابع أو باليدين أو بالحاجب أو بالعين أو بالشفتين أو بالرأس أو بالرجل أو بالمركّب من الاثنين أو الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة أو الأزيد أو المجموع، فالعبرة على معتاده كيف كان، ودلالة النصّ على الإصبع إنّما هو مبنيّ على الغالب. وأمّا في الأخرس الذي لا عادة له- كالعرضي ونحو ذلك- فإن ألحقناه بالأخرس فالظاهر فيه اعتبار الإصبع؛ لأنّه
الأصل في الإشارة والمتيقّن في الدلالة. ويحتمل
اعتبار خصوص السبّابة، وإن لم تكن فبغيرها مراعياً للأقرب، فإن لم تكن فبالكفّ، ثمّ بالزند، ثمّ بالمرفق، ونحو ذلك. وبعبارة أخرى: يلاحظ الأقرب إلى ما هو المعتاد في الإشارة».
بل جعل السيد الحكيم الإشارة بالإصبع هو المتعيّن تعبّداً بمضمون الخبر، قال معلّقاً على إطلاق كلام
السيد اليزدي بكفاية الإشارة: «وأمّا عدم تقييد الإشارة بالإصبع في المتن تبعاً لغيره فلعلّ الوجه فيه ما في كشف اللثام: من أنّ الإصبع لا يشار بها إلى التكبير غالباً، وإنّما يشار بها إلى التوحيد. وفيه منع ظاهر كما يشير إليه خبر السكوني. ودعوى أنّ ما في الخبر راجع إلى
التشهّد خاصّة ممنوعة، فالأخذ بظاهره متعيّن».
إلّا أنّ ظاهر بعض الفقهاء- كما تقدّم- عدم كون الخبر قد سيق مساق التعبّد، بل مساق الغالب من كون الإشارة بالإصبع، وإلّا فإنّ مطلق الإشارة المفهمة يكون كافياً.
قال المحقّق النجفي في تشهّد الأخرس بالإشارة بالإصبع وورود النصّ به: «لكنّ الظاهر إرادة المثال منه من كلّ ما يؤدّي به الأخرس مقصوده».
وقال السيد الخوئي: «وأمّا تقييد الإشارة فيها بالإصبع فالظاهر أنّه لأجل غلبة الإشارة بها، لا لتعيّنها عليه بالخصوص فهو منزّل منزلة الغالب، فلا دلالة فيه على عدم
الاجتزاء بغيرها من اليد والرأس ونحوهما، فالظاهر عدم تعيّن الإصبع كما أطلق في المتن. نعم، لا ريب أنّه أحوط، جموداً على ظاهر أخذها في النصّ».
المعروف بين فقهائنا قيام حركة اللسان ولوكه مقام التلفّظ فيما اعتبر اللفظ فيه من أذان وإقامة
وتكبيرة الإحرام وقراءة وذكر في الصلوات وتلبية في الحجّ وغيرها، إمّا مستقلّاً أو منضمّاً مع الإشارة.قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء في
الأذان والإقامة : «إنّ الأخرس يتعمّد الفصول بلوك اللسان والإشارة».
وقال العلّامة الحلّي في تكبيرة الإحرام:«والأخرس يعقد قلبه بمعناها مع الإشارة وتحريك اللسان».
وعلّق عليها السيد جواد العاملي: «كما في البيان
وجامع المقاصد وفوائد الشرائع والميسيّة
وروض الجنان ... وفي التذكرة والذكرى: يحرّك لسانه ويشير بإصبعه، وفي نهاية الإحكام: يحرّك لسانه ويشير بأصابعه أو شفته ولهاته مع العجز عن تحريك اللسان، وفي الموجز الحاوي وكشف الالتباس: يحرّك لسانه فشفتيه ولهاته ويشير بإصبعه... وفي
جامع الشرائع : يجزي الأخرس تحريك لسانه وإشارته، وفي المفاتيح: يأتي بها الأخرس على قدر الإمكان، وفي كشف اللثام: يعقد قلبه ويحرّك لسانه وشفته ولهواته...».
وفي قراءة الصلاة قال العلّامة الحلّي أيضاً: «والأخرس يحرّك لسانه بها، ويعقد قلبه».
وعلّق عليها السيد جواد العاملي: «كما في الشرائع والنافع
والمعتبر والمنتهى
والتحرير والإرشاد والتذكرة والتبصرة وجامع المقاصد وفوائد الشرائع والميسيّة والروض والمسالك ومجمع البرهان وغيرها، ويشير مع ذلك بإصبعه كما في الجعفريّة والميسيّة والروض، وكذا مجمع البرهان، وفي جامع المقاصد وفوائد الشرائع: ورد في ذلك رواية لا بأس بها، وأنّ الحكم ينسحب إلى باقي الأذكار، وفي الذكرى: خبر السكوني يدلّ على اعتبار الإشارة بالإصبع في القراءة كما مرّ في التكبير».
وقال المحقّق الهمداني: «والأخرس يحرّك لسانه بالقراءة، بلا خلاف فيه على الظاهر، والأظهر اعتبار الإشارة بإصبعه أيضاً معه».
لكن خالف في ذلك بعض الفقهاء وقد تقدّمت عبارة
الشيخ الطوسي في النهاية الدالّة على كفاية الاعتقاد بالقلب مع الإيماء باليد في القراءة والشهادتين كما خالف غيره من الفقهاء في بعض المواضع خصوصاً تكبيرة الإحرام.قال السيد جواد العاملي متعرّضاً لمن لم يذكر حركة اللسان ضمن ما يجب على الأخرس فيها: «وفي المبسوط والتحرير:يكبّر بالإشارة بإصبعه من دون ذكر عقد قلبه وتحريك لسانه، وفي الإرشاد
والمدارك : يعقد قلبه ويشير بإصبعه...وفي
الشرائع والنافع والتبصرة: يعقد قلبه مع الإشارة... وفي المفاتيح: يأتي بها الأخرس على قدر الإمكان».
ثمّ إنّ جملة من الفقهاء كالمحقّق الأردبيلي
والسيد العاملي
والمحقّق السبزواري
والمحدّث البحراني
والسيد الطباطبائي
والنراقي
وغيرهم
التزموا بوجوب تحريك اللسان احتياطاً.والمراد باللسان هنا كلّ عضو دخيل في التلفّظ بالألفاظ المعتبرة مثل الشفاه واللهوات والحلقوم والأسنان وغير ذلك.وقد صرّح جملة منهم بهذا
الأمر .قال
الفاضل الاصفهاني : «ولعلّ في اللسان تغليباً على الشفة والثنايا».
وقال المحقّق النجفي: «وكأنّ ذكر اللسان في النصّ والفتوى جرياً على الغالب، فيحرّك الشفة واللهاة معه».
وقال في موضع آخر: «لا يخفى أنّ المراد باللسان في المتن وغيره ما يشمل الشفة ممّا يبرز بها الألفاظ، أو أنّه اقتصر عليه؛ لأنّ غالب
الإبراز به».
وقال
الشيخ الأنصاري : «والأخرس يحرّك مع الصوت لسانه بالمعنى الأعمّ من لهواته وشفتيه بالقراءة».
وقال أيضاً: «والأخرس الذي عرف ألفاظ القراءة أو يمكن أن يعرفها يحرّك مع الصوت لسانه أو لهواته أو شفتيه- ولعلّ في ذكر اللسان تغليباً- بالقراءة».لكن يظهر من العلّامة وابن فهد الحلّيّين خلاف ذلك.قال العلّامة: «حرّك (لأخرس) لسانه وأشار بإصبعه وشفته أو لهاته مع العجز عن حركة اللسان».
وقال ابن فهد: «ويحرّك الأخرس لسانه فشفتيه ولهاته».
فإنّ الترتيب بين حركة اللسان وحركة الشفة واللهاة يكشف عن
إرادة خصوص العضو المعروف.
۱- خبر السكوني المتقدّم عن الصادق عليه السلام أنّه قال: «تلبية الأخرس وتشهّده وقراءته القرآن في الصلاة تحريك لسانه وإشارته بإصبعه»
بعد تعميمه لكلّ ما يعتبر فيه اللفظ؛ وفقاً لما تقدّم في مدرك قاعدة إشارة الأخرس.
۲- إنّ القراءة والذكر والتلبية وغيرها أفعال تشتمل على واجبين: التلفّظ وتحريك اللسان، وسقوط أحدهما بسبب العجز عنه وعدم القدرة عليه لا يستلزم سقوط الآخر، فإنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، فيجب تحريك اللسان وإن سقط التلفّظ.لكن جملة من الفقهاء ناقشوا فيما ذكر بأنّ الرواية ضعيفة السند، وقاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور لم تثبت بدليل معتبر، مع أنّ حركة اللسان ليست واجبة مستقلّاً ولا جزءاً من واجب ليبقى بعد سقوط المتعذّر، وإنّما هي محقّقة للكلام والقراءة واللفظ الذي هو الواجب، والمفروض سقوطه، وإن شئت قلت: إنّ حركة اللسان في غير الأخرس مقدّمة تكوينيّة لتحقّق الواجب وليس بنفسها واجباً شرعيّاً.
قال المحقّق السبزواري: «واحتجّوا على اعتبار تحريك اللسان بأنّه كان واجباً مع القدرة على النطق، فلا يسقط بالعجز عنه؛ إذ لا يسقط الميسور بالمعسور. وفيه نظر؛ لأنّ تحريك اللسان إنّما كان واجباً عند القدرة من باب المقدّمة لا أصالة، وسقوط وجوب ذي المقدّمة مستتبع لسقوط وجوبها، والخبر عند التأمّل الصحيح لا يدلّ إلّا على أنّ سقوط بعض الواجبات بالأصالة لا يستلزم سقوط البعض الآخر؛ لعدم ظهور عمومه بالنسبة إلى أفراد الواجب مطلقاً. و(احتجّوا) على اعتبار الإشارة وتحريك اللسان أيضاً بما رواه السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال:... وفيه نظر؛ لضعف الرواية، وعدم شمولها لمحلّ البحث (أي تكبيرة الإحرام)... ولهذا احتمل بعض الشارحين للشرائع سقوط الفرض للعجز عنه».
وقال الفاضل الاصفهاني بعد ذكر الرواية: «عسى أن يراد تحريك اللسان إن أمكن والإشارة إن لم يمكن، ويعضده الأصل».
إلّا أنّ المشهور على خلاف ذلك، حيث ذهبوا إلى اشتراط الأمرين من تحريك اللسان والإشارة معاً.وقيل في مقام الجواب عمّا ذكر بأنّ
المتبادر من إيجاب أيّ كلام هو وجوب إتيان كلّ مكلّف به بحسب ما يقدر عليه،
وعن الخبر بأنّه منجبر بالشهرة،
مع أنّه لا يراد التعبّد به بحيث لا يخرج عن مورده؛ إذ الظاهر منه عدم
اختصاصه بالموارد المذكورة فيه، بل المقصود الإشارة إلى أنّ الأخرس يؤدّي عباداته القوليّة بما يؤدّي به مراداته ومقاصده بتحريك لسانه والإشارة بإصبعه.
قال
المحقّق النجفي : «وكيف كان، فمستند الحكم خبر السكوني عن الصادق عليه السلام... للقطع بإرادة بدليّة ذلك عن كلّ ذكر يكلّف فيه الأخرس من دون خصوصيّة للمذكورات، خصوصاً بعد ملاحظة فتوى الأصحاب».
وقال الشيخ الأنصاري: «وظاهرها(رواية السكوني) اعتبار
الإشارة بالإصبع مع التحريك... ويؤيّده أنّ الغالب أنّ تفهيم هذا النوع من الأخرس- بل مطلقه- المطالب للغير إنّما هو بتحريك اللسان أو اللهوات أو الشفتين مع حركة اليد، فهما فيه بمنزلة التكلّم في غيره، حيث انّ الصوت الخارج منه لا يتميّز منه الحروف المقصودة بالنطق المضمرة في النفس، فكأنّه يستعين بيده، فاعتبر الشارع في الأذكار اللفظيّة ما جعله الأخرس في حقّ نفسه تكلّماً وعوَّد به نفسه».
وقال السيد الحكيم: «والعمدة فيه خبر السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام..بناءً على فهم عدم الخصوصيّة للموارد الثلاثة المذكورة فيه كما هو غير بعيد،فيكونالمراد أنّ
الأخرس يؤدّي عباداته القوليّة بما يؤدّي به مراداته ومقاصده من تحريك اللسان والإشارة بالإصبع».
ثمّ إنّ كلمات الفقهاء الواردة في تحريك اللسان أغلبها مطلقة، وظاهرها يعمّ الأخرس بجميع أقسامه، وقد تقدّم
إيراد جملة منها ضمن المباحث السابقة.لكنّ بعض أفراد الأخرس كالأصمّ الذي لم يسمع في حياته حرفاً قطّ يتعذّر عليه تحريك لسانه بالألفاظ عادةً؛لجهله بها وعدم معرفته بوجودها، وهو ما دعا بعض الفقهاء إلى
إسقاط التكليف عنه بالتحريك،
وإثباته على خصوص من سمع الألفاظ وتكلّم بها أو عرف بوجودها وإن لم يسمعها؛ إذ تكليفه بتحريك لسانه على طبقها مع عدم معرفته بها ولا بأشكالها هو تكليف بغير المقدور، أو بما هو لغو، فيسقط عنه.قال الفاضل الاصفهاني: «والأخرس الذي يعرف القرآن أو الذكر أو يسمع إذا اسمع أو يعرف معاني أشكال الحروف إذا نظر إليها يحرّك لسانه كما في المبسوط بها- أي بالقراءة- في لهواته؛ لأنّ على غيره التحريك والصوت، ولا يسقط الميسور بالمعسور... وأمّا الأخرس الذي لا يعرف ولا يسمع فلا يمكنه عقد القلب على الألفاظ. نعم، إن كان يعرف أنّ في الوجود ألفاظاً وأنّ المصلّي يأتي بألفاظ أو قرآن...(ف)- هل عليه تحريك اللسان؟الوجه العدم؛ للأصل... وظاهر الذكرى الوجوب؛ لعموم الخبر... ويدفع عموم الخبر أنّه لا قراءة لهذا الأخرس. نعم، إن كان أبكم
أصمّ خلقةً لا يعرف أنّ في الوجود لفظاً أو صوتاً اتّجه أن يكون عليه ما يراه من المصلّين من تحريك الشفة واللسان».
وقال الشيخ الأنصاري: «والأخرس الذي عرف ألفاظ القراءة أو يمكن أن يعرفها يحرّك مع الصوت لسانه أو لهواته وشفتيه... وأمّا من لم يعرف ألفاظ القراءة ولا يمكنه سماعها ومعرفتها فإذا عرف
إجمالًا أنّ في الوجود أصواتاً متميّزة، بأن يكون يسمع مجرّد الصوت المشترك بين جميع الحروف والأصوات، لكن يعلم بقرينة اختلاف أوضاع اللسان والشفتين والأسنان أنّ هنا أصواتاً متمايزة، ويعرف أشكال الحروف مع ذلك فيجب- بعد عرض الفاتحة والسورة وحفظ أشكالها- أن يعرف بالإشارة وجوب تحريك لسانه... وإن لم يعرف ذلك أيضاً فإن أمكن تفهيم معاني الحمد والسورة له فالظاهر وجوب تفهيمه إيّاها، ثمّ أمره بحركة لسانه... وإن لم يمكن
إفهامه المعاني فظاهر الذكرى وجوب تحريك اللسان؛ ولعلّه لأنّه المقدور، ولظاهر الخبر، وفي كليهما نظر، أمّا الأوّل فلأنّ التحريك تابع للقراءة لا جزء منه حتّى لا يسقط بتعذّر الكلّ، وأمّا في الثاني فلأنّ المتبادر منه- سيّما بقرينة ذكر الإشارة بالإصبع- هو من يتمكّن من فهم معاني الحمد أو ألفاظها، وإلّا فلا معنى للإشارة بالإصبع؛ إذ لا مشار إليه في الفرض».
وقال في موضع آخر: «وأمّا الأخرس الذي لا يمكن تفهيمه القراءة أو المعاني- ولو إجمالًا- فالظاهر سقوط تحريك اللسان عنه؛ لعدم الدليل عليه إلّا ما يتوهّم من أنّ التحريك كان واجباً مع القراءة فلا يسقط بسقوطها، وفيه ما لا يخفى.وأمّا رواية السكوني فهي... محمولة على من يمكن تفهيمه شيئاً من القراءة أو المعنى».
لكن بعض من جاء بعدهما من الفقهاء خصوصاً المعاصرين منهم أنكروا سقوط التحريك عمّن ذكروا؛ لكونه لا يزيد على محاكاة حركة لسان الناطق مع قصد المعنى الإجمالي له، وهو سهل.
قال
السيد الحكيم : «إنّ القراءة حكاية للألفاظ المقولة... وعدم
إمكان ذلك في بعض أفراد
الأخرس مثل الأصمّ الذي لم يعقل الألفاظ ولا سمعها ولم يعرف أنّ في الوجود لفظاً ممنوع إن أريد القصد الإجمالي؛ لأنّ قصده ما يفعله الناطق على الوجه الذي يفعله قصد للّفظ إجمالًا، وهو في غاية السهولة».
وقد اعتبره كثير من فقهائنا أوّلهم الشيخ الطوسي في النهاية
- كما تقدّم- وتبعه عليه سائر الفقهاء، وقد تضمّنت بعض العبارات المتقدّمة أسماء عدد من الكتب الفقهيّة المتعرّضة لذكر هذا الشرط.واستدلّ على اعتباره بأنّ الإشارة وتحريك اللسان لا اختصاص لهما بالمطلوب قراءة أو تلبية أو غيرهما إلّا بالنيّة وعقد القلب، فوجبا لذلك.قال المحقّق الحلّي: «ويحرّك الأخرس لسانه بالقراءة، قال الشيخ في المبسوط:وينبغي أن يضيف إلى ذلك عقد قلبه بها؛ لأنّ القراءة معتبرة، فمع تعذّرها لا يكون تحريك اللسان بدلًا إلّا مع النيّة».
ونحوه قول العلّامة الحلّي.
وقال
المحقّق الكركي : «أمّا عقد القلب بمعناها فلأنّ الإشارة والتحريك لا اختصاص لهما بالتكبير، فلا بدّ من مخصّص».
ونحوهما عبارات سائر الفقهاء.
لكنّ الفقهاء اختلفوا في المقصود بعقد القلب، فذكر الشهيد في بعض كتبه ما يدلّ على أنّ المراد به عقده بمعاني الألفاظ، قال: «ويعقد قلبه بمعناها... ولو تعذّر إفهامه جميع معانيها افهم البعض، وحرّك لسانه، وامر بتحريك اللسان بقدر الباقي تقريباً وإن لم يفهم معناه مفصّلًا، وهذه لم أرَ فيها نصّاً».
وخالف فيه أكثر الفقهاء بعده؛ لعدم اشتراط قصد المعاني حتّى في غير
الأخرس فضلًا عنه، ومن هنا حمله بعضهم على إرادة قصد أجزاء العبادة والقراءة، فلا يكفي قصد مطلق القراءة قال
الشهيد الثاني قدس سره : «والأخرس يحرّك لسانه بها ( القراءة) مهما أمكن، ويشير بإصبعه كما مرّ في التكبير، ويعقد قلبه بها بأن ينوي كونها حركة قراءة، وهو المراد من قولهم: يعقد قلبه بمعناها كما تقدّم في التكبير؛ إذ لا يجب على غير الأخرس تعلّم معنى الحمد والسورة فضلًا عنه. وفي الذكرى أنّه لو تعذّر... ومقتضى كلامه وجوب فهم معاني القراءة مفصّلًا، وهو مشكل؛ إذ لا يعلم به قائل، ولا يدلّ عليه دليل في غير الأخرس فضلًا عنه، بل الأولى تفسير عقد القلب بما قلناه، وكذا القول في جميع أذكاره.ويمكن أن يريد بفهم المعاني فهم ما يحصل به التمييز بين ألفاظ الفاتحة ليتحقّق القصد إلى أجزائها جزءاً جزءاً مع الإمكان، فلا يكفي قصد مطلق القراءة للقادر على فهم ما به يتحقّق القصد إلى الأجزاء، وهو حسن».
وقال
المحقّق السبزواري : «والأخرس يحرّك لسانه ويعقد قلبه بها... والظاهر أنّ المراد بعقد القلب قصد كونه قراءة، ويحتمل أن يكون المراد
إحضار الألفاظ على ترتيبها في الذهن. ويفهم من الذكرى أنّ المراد به فهم المعاني، وهو بعيد؛ إذ لا دليل على وجوب ذلك على الأخرس وغيره».
وقال الفاضل الاصفهاني : «والأخرس الذي يعرف
القرآن أو الذكر، أو يسمع إذا اسمع، أو يعرف معاني أشكال الحروف إذا نظر إليها، يحرّك لسانه- كما في المبسوط- بها أي بالقراءة في لهواته؛ لأنّ على غيره التحريك والصوت، ولا يسقط الميسور بالمعسور، ويعقد قلبه بها- كما في كتب المحقّق- أي على ألفاظ ما يعرفه أو يسمعه من القرآن أو الذكر، قال: لأنّ القراءة معتبرة، فمع تعذّرها لا يكون تحريك اللسان بدلًا إلّا مع النيّة.قلت: هذا- كما مرّ- من
إجراء الأفعال على القلب في
الإيماء للركوع والسجود والرفع منهما.ولعلّ الشيخ إنّما أهمله لأنّ التحريك بالقراءة يتضمّنه.وما في كتب الشهيد من عقد القلب بالمعنى
مسامحة يراد به العقد بالألفاظ.على أنّه إنّما ذكر معنى القراءة، وقد يقال: إنّ معناها الألفاظ.وإن أراد معانيها فقد يكون اعتبارها؛ لأنّها لا تنفكّ عن ذهن من يعقد قلبه بالألفاظ إذا عرف معانيها، أو لأنّ الأصل هو المعنى، وإنّما سقط اعتباره عن الناطق بلفظه رخصة، فإذا فقد اللفظ وجب العقد بالمعنى... وأمّا الأخرس الذي لا يعرف ولا يسمع فلا يمكنه عقد القلب على الألفاظ. نعم، إن كان يعرف أنّ في الوجود ألفاظاً، وأنّ المصلّي يأتي بألفاظ أو قرآن أمكنه العقد بما يلفظه أو يقرأه المصلّي جملة».
وقال أيضاً : «والأخرس الذي سمع التكبيرة وأتقن ألفاظها ولا يقدر على التلفّظ بها أصلًا، ومن بحكمه من يمنعه من النطق (مانع) غير الأخرس يعقد قلبه بمعناها أي بإرادتها وقصدها، لا المعنى الذي لها؛ إذ لا يجب
إخطاره بالبال. وأمّا قصد اللفظ فلا بدّ منه مع الإشارة وتحريك اللسان والشفة واللهاة...».
وقال السيد الطباطبائي : «والأخرس الذي سمع التكبيرة، وأتقن ألفاظها، ولا يقدر على التلفّظ بها أصلًا، وكذا من بحكمه كالعاجز عن النطق لعارض ينطق بالممكن منها، ويعقد قلبه بها أي بالتكبيرة ولفظها؛ لأنّها ثناء عليه تعالى، لا معناها المطابقي؛ إذ لا يجب إخطاره بالبال. وأمّا قصد اللفظ فلا بدّ منه مع الإشارة، بلا خلاف في اعتبارها وإن اختلف في اعتبار ما زاد عليها من عقد القلب خاصّة أيضاً كما هنا وفي الشرائع والإرشاد وعن النهاية...».
ولكن ذهب المحقّق النجفي إلى
إرادة المعنى الذي يمكن تفهيمه بالإشارة- كما قال
الشهيد الأوّل قدس سره- ودليله على ذلك أنّ الإشارة التي جعلت بديلًا عن اللفظ في - الأخرس إنّما هي الإشارة المستلزمة لتصوّر المعنى لا مطلق الإشارة، قال في تكبيرة الإحرام بعد تعرّضه لخبر السكوني: «لكنّه كما ترى خالٍ عن ذكر عقد القلب بالمعنى، مضافاً إلى عدم وجوب ذلك على الناطق فضلًا عنه. ومن هنا قال في كشف اللثام: المراد عقد القلب بإرادته الصيغة وقصدها لا المعنى الذي لها؛ إذ لا يجب إخطاره بالبال.
وفيه- مع أنّه خلاف الظاهر-: أنّه إنّما يتمّ في الأخرس الذي سمع التكبيرة وأتقن ألفاظها، ولا يقدر على التلفّظ بها أصلًا؛ ضرورة عدم إمكان ذلك في الخرس الذي يكون منشؤه الصمم خلقة أو عارضاً كالخلقة.كما أنّه كذلك بالنسبة إلى عقد القلب بالمعنى إذا لوحظ إضافته إلى الصيغة، ولعلّهم لا يريدونه، بل المراد المعنى الذي يمكن تفهيمه إيّاه بالإشارة، وكأنّ اعتبارهم له بناءً على أنّ الذي هو بدل عن اللفظ في التفهيم ليس إلّا هذه الإشارة المستلزمة لتصوّر المعنى، بل يمكن دعوى إشعار الإشارة بالإصبع في الخبر المزبور به؛ إذ من المستبعد إرادة التعبّد منها محضاً. كما أنّ من الممتنع إرادة الإشارة بذلك إلى نفس اللفظ الذي هو الدالّ في بعض أفراد الخرس.وعدم
إيجاب إخطار المعنى على الناطق، بل ولا معرفته أصلًا
اعتماداً على اللفظ الدالّ في حدّ ذاته عليه، بخلاف الإشارة التي لا تكون كاللفظ في تفهيم المعنى، إلّا أن يعرف المشير المعنى ويذكر ما يدلّ عليه من الحركات والكيفيّات الفعليّة».
وقال في القراءة بعد تعرّضه للخبر المذكور أيضاً: «وظنّي أنّ المراد من الخبر المزبور ما هو المتعارف في حاله من إبراز مقاصده بتحريك لسانه وإشارته بإصبعه، فلا بدّ حينئذٍ له من معرفة المعنى هنا ولو في الجملة حتّى يتحقّق منه الإشارة، ويكون بها مع التحريك كاللفظ من الصحيح الذي لا يحتاج معه إلى معرفة المعنى؛ لأنّه قد جاء بما يفيده في نفس الأمر. ولعلّه إلى هذا أومأ الشهيد في المحكيّ عن بيانه ودروسه وذكراه، فاعتبر عقد القلب بمعنى القراءة... لكن استشكله في جامع المقاصد بأنّه لا دليل على وجوب ذلك على الأخرس ولا غيره، ولو وجب ذلك لعمّت البلوى أكثر الخلائق...وفيه: أنّه لا تلازم بين وجوبه على الأخرس وبين الوجوب على غيره حتّى تعمّ البلوى أكثر الخلائق، على أنّ الفرق بينهما بصدور اللفظ المستقلّ في
إفادة المعنى- وإن لم يعرفه المتلفّظ به- من الثاني دون الأوّل في غاية الوضوح. كما أنّ الدليل عليه بعد أن عرفت المراد من خبر السكوني وأنّه جارٍ على ما هو المشاهد من إبراز مقاصده كذلك، بل قد يدّعى أنّ
الأصل هو المعنى، وإنّما سقط اعتباره عن الناطق بلفظه رخصة، فإذا فقد اللفظ وجب العقد بالمعنى، على أنّ المعروف من الأخرس الأبكم الأصمّ الذي لم يعقل الألفاظ ولا سمعها، ولا يعرف تلفّظ الناس، بل يظنّ أنّ الخلق جميعاً مثله في إبراز المقاصد، وهذا لا يتصوّر فيه عقد القلب بالقراءة وألفاظها، ولذا قال في كشف اللثام: إنّ عليه ما يراه من المصلّين من تحريك الشفة واللسان، ولم يعتبر فيه عقد القلب بالقراءة؛ لعدم إمكانه، كما صرّح به أيضاً. وعليه يكون حينئذٍ مثله خارجاً عن عبارات الأصحاب، وأنّها إنّما تتمّ في الأخرس الذي يسمع ويعقل ويعرف القرآن والذكر أو يعرف أشكال معاني الحروف إذا نظر إليها، إلّا أنّه لا يستطيع التلفّظ بها لعارض عرض له في لسانه مثلًا، وهو- مع اقتضائه التخصيص من غير مخصص، بل يقتضي
إخراج المعروف من أفراد الخرس- يمكن دعوى عدم وجوب حركة اللسان في مثله، ولا الإشارة بالإصبع، بل يكتفي بتوهّم القراءة توهّماً...».
وقد يجعل للخرسان مراتب تختصّ كلّ واحدة منها بوظيفة تناسبها في كيفيّة عقد القلب.
قال الشيخ الأنصاري في القراءة:«والأخرس يحرّك- مع الصوت- لسانه بالمعنى الأعمّ من لهواته وشفتيه بالقراءة، ويعقد قلبه بها بأن ينوي كونها حركة قراءة؛ لأنّ الحركة بنفسها تصلح لغيرها كما في الروض وجامع المقاصد مفسّرين به كلام كلّ من اشترط عقد القلب بمعناها.وهو حسن بالنسبة إلى من يعرف أنّ في الوجود كلاماً وقراءة ولا يعرف أزيد من ذلك.وأمّا من سمع ألفاظ القراءة وأتقنها بل تكلّم بها مدّة فالظاهر عدم
الاكتفاء بمجرّد نيّة كون الحركة حركة قراءة، بل لا بدّ من تطبيق الحركة على حروف القراءة جزءاً فجزءاً بحيث يكون صوته بمنزلة كلام غير متمايز في الحروف؛ لأنّه المقدور في حقّه من القراءة، بل هي منه قراءة عرفاً.كما أنّ من لا يعرف أنّ في الوجود ألفاظاً وقراءة وصوتاً كما في غالب الأخرس الخلقي، فلا يبعد وجوب عقد قلبه عند تحريك اللسان بمعنى آيات القراءة إذا أمكن إفهامه إيّاها، ولا بُعد في وجوب ذلك عليه وعدم وجوبه على غير الأخرس؛ لأنّ التلفّظ بالألفاظ المستقلّة في الدلالة على المعاني مغنٍ عن عقد القلب بمعناها، بخلاف حركة اللسان التي لا تُعدّ قراءة ولا قدراً ميسوراً منها فيجب القصد تفصيلًا إلى المعنى ليكون حركة لسانه مع هذا القصد بمنزلة تلفّظ غيره، ولا ريب في أنّ هذا منه أقرب إلى القراءة من حركة اللسان ناوياً أنّها القراءة التي لا يعلم أنّها من أيّ مقولة».
وخلاصة كلامه: أنّ الأخرس الذي سمع الألفاظ أو يسمعها إذا اسمع يحاكي بحركة لسانه حركة لسان الناطق ويقصد الألفاظ لفظاً فلفظاً بقلبه ويخرج صوتاً وإن كان غير متمايز.والأخرس الذي لم يسمعها ولكن يعرف بوجودها يحاكي الناطق بحركة لسانه أيضاً ويقصد بها فعله الكلّي من قراءة وتكبيرة وغيرهما.والأخرس الذي لا يسمع الألفاظ ولا يعرف بوجودها يقصد معاني فصول الألفاظ عند تحريك لسانه.فوظيفة الأخرس تختلف بحسب نوعه بين قصد اللفظ أو قصد الفعل أو قصد المعاني الجزئيّة، ومتعلّقه تارة يكون اللفظ وأخرى المعنى وثالثة شيئاً آخر، كلّ ذلك مع تحريك اللسان في الجميع على نحو
المحاكاة ما أمكن.ولكن جملة من الفقهاء بعد الشيخ خالفوا هذا الرأي أيضاً ومنهم تلميذه المحقّق الهمداني، حيث عدّ الوظيفة واحدة ومتعلّق القصد واحداً في الجميع، وهو الصيغة الخاصّة للواجب التلفّظي من تكبيرة أو قراءة أو ذكر أو
تلبية أو غيرها.
ولا فرق بين الأخرس وغيره في عدم وجوب قصد المعنى، فالكلّ يقصد تلك الصيغة، تفصيلًا أو إجمالًا، غير أنّ الفعل المقصود به الصيغة مختلف، ففي الأخرس الإشارة وتحريك اللسان، وفي غيره اللفظ ويقصد به إجمالًا ما ينطق به ويفعله غير الأخرس، وهو ميسور حتّى من الأخرس الأصمّ الذي لم يسمع الكلام أصلًا كما هو واضح. قال المحقّق الهمداني بعد بيان اشتراط عقد القلب والإشارة وتحريك اللسان في الأخرس: «وكيف كان ففي المدارك في تفسير المعنى الذي حكموا بوجوب أن يعقد قلبه بها قال: ليس المراد المعنى المطابقي؛ فإنّ تصوّر ذلك غير واجب على الأخرس، بل يكفي قصد كونه تكبيراً للَّه وثناءً عليه، انتهى. أقول: الأولى تفسيره بالصورة الذهنيّة التي يقصدها اللافظ بلفظه، فإنّ العبرة في مقام امتثال الأمر المتعلّق بالتكبيرة بعقد القلب بها، لا بمعناها الخارج عن حقيقة المأمور به، كما نبّه عليه كاشف اللثام حيث قال: المراد عقد القلب بإرادته الصيغة وقصدها، لا المعنى الذي لها؛ إذ لا يجب إخطاره بالبال.
توضيح المقام: أنّ إشارة الأخرس تقوم مقام لفظه، وقد ثبت بالأدلّة المتقدّمة أنّ ماهيّة تكبيرة
الافتتاح التي اعتبرها الشارع في الصلاة هي صيغة (اللّه أكبر) فحالها حال فاتحة الكتاب التي لصورتها دخل في مطلوبيّتها وجزئيّتها للصلاة، ومن الواضح أنّ عقد القلب بمعاني
فاتحة الكتاب من غير
التفات إلى صورتها- التي هي عبارة عن الصورة الخاصّة المعهودة- غير مجدٍ، وإن توهّمه بعض كما ستعرف. وإنّما المعتبر هو القصد إلى تلك الصورة المعهودة بتحريك لسانه وإشارته، سواء عقل معناها أم لا، كما في العجمي الذي لا يعقل مداليل ألفاظها أصلًا، فلا فرق بين الأخرس وغيره في أنّه يجب عليه
استحضار ماهيّة التكبير والقراءة وغيرها من الأذكار الواجبة أو المسنونة في ذهنه، والقصد إليها بداعي القربة، عدا أنّ الأخرس يقصدها بالإشارة وغيره بألفاظها.
نعم، لو كان المأمور به معانيها المؤدّاة بألفاظها كان الواجب على الأخرس في مقام
إطاعة أوامرها عقد قلبه بالمعاني أي استحضارها في الذهن وتأديتها بالإشارة، كما أنّ الواجب على غيره أيضاً تصوّر تلك المعاني وتأديتها بألفاظها، ولكنّه ليس كذلك. ولا ينافي ذلك ما تقدّم آنفاً من أنّ الأمر تعلّق بها بلحاظ معانيها، فإنّا لم نقصد بذلك كون معانيها متعلّقة للطلب كما نبّهنا عليه فيما سبق، وإنّما أردنا بذلك بيان كونها ملحوظة للآمر في طلبه كي يتمشّى معه قاعدة الميسور عند تعذّر لفظه، وإلّا فمتعلّق الطلب إنّما هو صيغتها الخاصّة من حيث هي، كما في المثال الذي تقدّمت الإشارة إليه، فيجب على الأخرس كغيره أن يتصوّر ما تعلّق به الطلب، وهي الصيغة الخاصّة، ويقصده بالإشارة، كما أنّه يجب على غيره أن يتصوّره، ويقصده باللفظ، فإن أمكنه تصوّره تفصيلًا فهو، وإلّا فيقصده على سبيل
الإجمال بوجه من الوجوه الإجماليّة المتصادقة عليه بتحريك لسانه والإشارة بإصبعه، ولا يجزيه تصوّر معناه من حيث هو، كما هو ظاهر المتن وصريح غيره على الأشبه، إلّا أن يجعله وجهاً من وجوه الماهيّة المأمور بها، فيميّزها بهذا الوجه، واللَّه العالم».
وقال السيد الحكيم : «إنّ القراءة حكاية للألفاظ المقولة، فالمعنى المستعمل فيه لفظ القارئ نفس الألفاظ الخاصّة، أمّا معانيها فأجنبيّة عنها، فكيف يمكن أن يدّعى وجوب قصدها تفصيلًا أو إجمالًا؟! كيف، وتصدق القراءة في حال كون اللفظ المقروء مهملًا لا معنى له أصلًا؟! وعليه، فلا بدّ أن يكون المراد عقد القلب بنفس الألفاظ المحكيّة بالقراءة، وهو ظاهر الخبر أيضاً تنزيلًا لأقواله الصلاتيّة منزلة أقواله العادية في بدليّة تحريك اللسان والإشارة عنها، على اختلاف المحكي من حيث كونه لفظاً تارة كباب الحكاية والقراءة، وغيره أخرى كما في بقيّة موارد الإفهام
والإعلام ، وعدم إمكان ذلك في بعض أفراد الأخرس مثل الأصمّ الذي لم يعقل الألفاظ ولا سمعها، ولم يعرف أنّ في الوجود لفظاً ممنوع، إن اريد القصد الإجمالي؛ لأنّ قصده إلى فعل ما يفعله الناطق على الوجه الذي يفعله قصد للّفظ إجمالًا، وهو في غاية السهولة. ولعلّ ذلك هو مراد جامع المقاصد، فتأمّل جيّداً».
وقال
السيد الخوئي : «العاجز رأساً لمانع ذاتي كالأخرس... المشهور- كما في المتن- أنّه يحرّك لسانه، ويشير بيده على حذو تفهيم سائر مقاصده، بل إنّ هذا في الجملة ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف. وتدلّ عليه موثّقة
السكوني ... وتؤيّده معتبرة مسعدة بن صدقة المتقدّمة.إنّما الكلام في أنّه يشير إلى أيّ شيء، فإنّ المعاني لا يلزم قصدها أو التوجّه إليها حتّى في المختار؛ فإنّ كثيراً من الناس، بل أكثرهم يصلّون ولا يدرون ما يقولون أو لا يلتفتون، فقصد المعنى غير معتبر قطعاً حتّى تجب
الإشارة إليه. وأمّا الألفاظ فقد يقال
بامتناع إشارة الأخرس إليها؛ إذ هو لكونه أصمّ- لملازمة الخرس للصمم- لم يسمع الألفاظ منذ عمره وطيلة حياته، فكيف يشير إليها وهو لا يعرفها؟! فهو بالنسبة إلى الألفاظ كالأعمى بالنسبة إلى الألوان.لكنّ الظاهر أنّه يشير إلى اللفظ؛ إذ هو يعلم- ولو إجمالًا- أنّه يخرج من الناس نوع صوت في مقام تفهيم مقاصدهم لما يراه من تحريك اللسان والشفتين وسائر الملابسات كما يخرج عن نفسه أيضاً، وإن كان من نفسه مهملًا فيشير إلى تلك الأصوات والألفاظ عند القراءة كما في غيرها، فتدبّر جيّداً».
اعتبر
ابن الجنيد وجوب النيابة على الأخرس في التلبية مع قوله بإجزاء تلبيته بالإشارة، على ما نقل عنه العلّامة الحلّي حيث قال: «المشهور أنّ الأخرس يلبّي بتحريك لسانه وإشارته بالإصبع، وبه قال ابن الجنيد فإنّه قال: والأخرس يجزيه تحريك لسانه مع عقده إيّاها بقلبه، ثمّ قال:ويلبّى عن الصبيّ والأخرس وعن المغمى عليه.وهذا الكلام يشعر بعدم وجوب التلبية عليه، وأنّه تجزيه النيابة، والأقرب الأوّل.لنا: أنّه متمكّن من الإتيان بها على الهيئة الواجبة عليه مباشرة، فلا يجوز
الاستنابة فيها».
وقال
الفاضل الهندي بعد تعرّضه لفتوى أبي علي ابن الجنيد، ودليله: «بل الأولى الجمع بين الأمرين».
وقال السيد اليزدي: «والأخرس يشير إليها ( التلبية) بإصبعه مع تحريك لسانه، والأولى أن يجمع بينهما وبين الاستنابة».
ومبنى الحكم بالاستنابة في الأخرس تخييراً مع إشارته أو جمعاً بينهما
احتياطاً هو فحوى خبر
زرارة : أنّ رجلًا قدم حاجّاً لا يحسن أن يلبّي، فاستفتي له أبو عبد اللَّه عليه السلام فأمر له أن يُلبّى عنه.
هذا كلّه مع فرض تمكّن الأخرس من الإشارة وتحريك اللسان وعقد القلب.
وأمّا إذا فرض كون الخرس بحيث لا يتمكّن حتّى من الإشارة أو تحريك اللسان- وإن كان فرضه صعباً- فحينئذٍ تجب النيابة عنه، قال الفاضل الاصفهاني:«يحتمل أن تكون الإشارة للأخرس الذي يعرف التلبية والنيابة عن الأصمّ الأبكم الذي لا يسمعها ولا يعرفها فلا يمكنه الإشارة».
وقال المحقّق النجفي: «قد يقال بمشروعيّة
النيابة عنه ( الأخرس) إذا فرض خرسه على وجه يتعذّر عليه الإشارة؛ لعدم فهم معناها بالصمم ونحوه؛ إذ هو حينئذٍ كالصبي ونحوه ممّن لا تحصل منه الإشارة».
المعروف عدم وجوب
الايتمام على الأخرس في صلاته وإن كان متمكّناً منه، وهذا بخلاف الجاهل العاجز عن التعلّم فإنّه يجب عليه الايتمام.قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء:«ويجب الايتمام على العاجز عن التعلّم لفقد المعلّم أو ضيق الوقت دون الأخرس».
وقال
الميرزا القمّي : «والأخرس يأتي بالممكن، ولا يجب عليه الايتمام، ووجهه ظاهر».
وقال أيضاً: «وهل يجب على
الامّي العاجز عن التعلّم الايتمام بالقارئ المتقِن؟فيه وجهان، والمشهور وجوبه، ودليله غير واضح، وعلّله بعضهم بأنّه يتمكّن حينئذٍ من الصلاة بقراءة صحيحة فتجب عليه.ويشكل بمنع شمول أدلّة القراءة له، إلّا أنّ الاحتياط وحصول اليقين بالبراءة إنّما يكون بذلك... وبما ذكرنا من المنع تنقدح أولويّة عدم الوجوب في الأخرس».
وقال
المحقّق النجفي في وجوب ايتمام الامّي: «ليس هو أعظم من الأخرس المعلوم عدم وجوب الايتمام عليه نصّاً وفتوى».
وقال
السيد اليزدي: «الأخرس لا يجب عليه الايتمام».
وشرحه السيد الحكيم بقوله: «لإطلاق دليل
الاجتزاء بحركة لسانه وإشارته بإصبعه».
الكلام كما يؤخذ وجوده شرطاً أو جزءاً في العبادة فتبطل بعدمه، قد يؤخذ عدمه شرطاً في بعض آخر منها كالصلاة فتبطل بوجوده، وحيث أثبت الشارع للإشارة وتحريك اللسان والكتابة حكم الكلام في الأوّل فقد يقال بثبوت حكمه لها في الثاني كذلك؛ بأن يقال
ببطلان العمل المشترط بعدم كلام الناطق فيه بإشارة الأخرس وحركة لسانه الخارجة عن إفادة مضامين الألفاظ المعتبرة في العمل. وهذا ما أفتى به عدّة من الفقهاء في الصلاة.قال العلّامة الحلّي في مبطلات الصلاة:«عندي في... كلام الأخرس بحركة اللسان تردّد، أقربه
الإبطال به».
وقال الشهيد: «وفي إيماء الأخرس وجه بالإبطال؛ لأنّه كلام مثله، وكذا حركة لسانه بما يفهم، أو بما يجري مجرى التكلّم».
وقال
الشيخ البهائي : «وهل تقوم إشارة الأخرس مقام التكلّم؟ إشكال، أقربه ذلك، فتبطل بالواحدة وإن لم تكن مفهمة؛ لقيامها في حقّه مقام كلمة».
وقال الشيخ جعفر كاشف الغطاء: «لو أشار الأخرس قاصداً لكلام
الآدميين ، أو السلام متعمّداً بطلت صلاته، وساهياً مرّة لزمه سجود واحد، ومرّاتٍ سجودات».
وقال في موضع آخر: «كلّ ما ذكر من راجح الأقوال ومرجوحاتها وواجباتها ومفسداتها تتمشّى في إدارة لسان الأخرس وإشارته مع قصدها، ففي كلّ تحريك حرف مهمل إن قصده، وذو معنى إن قصده، ولو أراد بالتحريك الواحد حروفاً متعدّدة، أو المتعدّد حرفاً واحداً احتمل إجراء الحكم تبعاً للقصد».
لكن جملة آخرين منهم حكموا بعدم البطلان في الإشارة، أو توقّفوا وتردّدوا فيها؛ لعدم صدق الكلام على إشارته حقيقةً وعرفاً وإن قامت مقام الكلام في التفهيم أو في العبادات؛ لأنّ المبطل للصلاة فعل الكلام والنطق وهو غير التفهيم، كما أنّ ما دلّ على الاجتزاء بإشارة الأخرس في المعاملة أو العبادة لا يقتضي تنزيل إشارته منزلة الكلام في المبطليّة تعبّداً وهو واضح، قال العلّامة الحلّي : «والإشارة المفهمة من الأخرس بمنزلة عبارة الناطق في العقود، والأقرب عدم بطلان الصلاة بها».
وقال
ابن فهد الحلي : «ويبطلها... الكلام بحرفين... لا الإشارة المفهمة من الأخرس».
وقال المحقّق الكركي: «وهل تعدّ إشارة الأخرس كلاماً نظراً إلى أنّه لو أشار بالسلام وجب الردّ عليه؛ لأنّه تحيّة، كما في قراءته وأذكاره وعقوده؟ فيه تردّد يلتفت إلى هذا، وإلى أنّ الإشارة لا تعدّ كلاماً، وإلحاقها به في مواضع لدليل لا يقتضي
الإلحاق مطلقاً».
وقال السيد العاملي : «ولا يلحق بالكلام إيماء الأخرس قطعاً؛ لأنّه لا يسمّى كلاماً حقيقةً، وفيه وجه ضعيف بالبطلان؛ لأنّه كلام مثله».
وقال المحقّق السبزواري : «وإشارة الأخرس غير مبطلة؛ لأنّها ليست بكلام. وفيه وجه ضعيف بالبطلان».
وقال المحدّث البحراني : «قد صرّح غير واحد بأنّ إشارة الأخرس ليست بكلام، وفيه وجه ضعيف بالبطلان».
وقال الشيخ الأنصاري : «ولا يقوم مقام التكلّم الإشارة ولو من الأخرس، وإن كانت إشارته بمنزلة كلامه في كثير من العبادات والمعاملات».
قد يجب الجهر بمعنى
إظهار الصوت باللفظ المعتبر في العبادة على المكلّف بها نظير الحمد بقراءة السورتين في صلوات الصبح والمغرب والعشاء، كما قد يجب
الإخفات عليه كما في صلاة الظهرين، فهل يعمّ الوجوب العاجز عن النطق أيضاً كالأخرس فيجب عليه إظهار صوته ولو لم يكن لفظاً أو يختصّ بالقادر عليه وحده؟قد يقال بالتعميم؛ لأنّ الجهر أو الإخفات أحد الامور المعتبرة في العبادة بالنسبة إلى المكلّف بها فرضاً، والأخرس مكلّف بالعبادة وغير عاجز عن إظهار الصوت وإخفاته وإن عجز عن التلفّظ، فيكون مكلّفاً بهما أيضاً، ولهذا الدليل ربّما أفتى بعض الفقهاء بوجوب إظهار صوت لوك اللسان عليه في الصلوات الجهريّة وإخفائه في الإخفاتيّة.قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء:«والعاجز بالمرّة والأخرس يلوكان لسانهما ويشيران. ويحتمل قويّاً وجوب إظهار صوت لوك اللسان في الجهر، وإخفائه في الإخفات».
ويمكن أن يناقش فيه بأنّ الواجب إنّما هو الجهر والإخفات في القراءة لا في الصوت، فإذا لم يصدق على الأصوات الصادرة من الأخرس عنوان القراءة فلا موضوع لوجوب الجهر والإخفات بالنسبة إليه.ودعوى أنّ الجهر أو الإخفات بالصوت هو الميسور من
الجهر والإخفات في القراءة فيجب بمقتضى قاعدة الميسور في الصلاة ممنوعة صغرى وكبرى. وتفصيل ذلك في محلّه من بحوث الصلاة.
لا يصحّ
اقتداء الصحيح العارف بالقراءة بالأخرس في الصلاة في محلّ تحمّل القراءة
إجماعاً ، وكذا في غير محلّ تحمّلها عند المشهور.
وذهب بعض إلى الصحّة.
وفي اقتداء الأمّي غير العارف بالقراءة به خلاف بين الفقهاء، فذهب بعض إلى الصحّة،
وبعض إلى عدمها،
وتوقّف فيها فريق ثالث.
وأمّا اقتداء الأخرس بمثله فصحيح عند المشهور، بل قيل: إنّه لا خلاف فيه،
إلّا أنّ بعض الفقهاء كالسيد الخوئي ذهب إلى عدم الجواز فيه أيضاً؛ لعدم الدليل على إجزاء قراءته بالإشارة عن قراءة غيره ولو كان مثله.
واحتاط بعض الفقهاء وجوباً في ذلك.
ما يقوم به الأخرس من عبادة كفائيّة منوطة باللفظ- كالصلاة على الميّت أو
الأذان والإقامة- وإن كان مجزياً له عن تكليفه، إلّا أنّه لا يجزي عن تكليف الغير، فلا تسقط الصلاة على الميّت عن الآخرين بصلاة الأخرس عليه، كما لا يسقط الأذان والإقامة بإشارته، بل حتّى بتحريك لسانه.نعم، لم يستبعد بعضهم الاكتفاء به في سقوط الأذان والإقامة إذا كان لوك لسانه مميّزاً.قال
الشيخ جعفر كاشف الغطاء:«الظاهر عدم الاجتزاء بأذانه حيث يكون مميّزاً، والقول به غير بعيد».
وقال أيضاً: «وسماع (صوت) لوك الأخرس لسانه لا يلحقه بالحكم (في سقوط الأذان عمّن سمعه من غيره)».
الخرس تارة يكون أصليّاً وأخرى عارضاً، وجميع ما بيّناه لحدّ الآن من الأحكام لا ريب في ثبوته للخرس الأصلي، وأمّا الخرس العارض فقد أثبت كثير من الفقهاء له حكم الخرس الأصلي، بل المعنون في كلمات كثير منهم العاجز عن النطق، وشبّهوا له بالأخرس.قال المحقّق الكركي: «لا فرق بين كون العجز لخرس أصليّ أو لعارض طارئ، وحينئذٍ فتكفي الإشارة كما تكفي في التكبير والأذكار وسائر التصرّفات القوليّة، وكأنّه لا خلاف في ذلك. ولا بدّ من كون الإشارة مفهمة للمراد، دالّة على القصد، وإلّا لم يعتدَّ بها».
لكن قد يقال بالفرق بين الأخرس والعاجز عن النطق لعارض كمرض عضوٍ أو شلله أو
اعتقال لسان أو قطعه أو غير ذلك، فإنّ الأصل في العاجز عن فعلٍ تكليفي سقوطه؛ لأنّ القدرة شرط في التكليفيّات، فتسقط القراءة والتشهّد والتكبير والتلبية وغيرها من التكاليف ممّا اعتبر فيه اللفظ، بخلاف الأخرس فإنّ الأصل وإن كان يقتضي السقوط أيضاً إلّا أنّ ورود النصوص بجعل الإشارة وتحريك......اللسان وقصد المعنى أو هيئته بدلًا عن التلفّظ في حقّه صار مانعاً من الأخذ بالأصل لتقدّمها عليه.إلّا أنّ ذلك يمكن الجواب عنه: بأنّ مناط جعل ذلك في حقّ الأخرس هو عجزه عن النطق، فيسري إلى كلّ عاجز عنه ولو بالعوارض والأسباب الطارئة، وهو ما أشار إليه الفقهاء في بعض كلماتهم.
نعم، يصحّ أن يقال بالفرق بين العاجز عن النطق عرضاً بسبب خلل عضوي أدّى إلى فقدان القدرة على الكلام- سواء كان الخلل العضوي في اللسان نفسه كقطعه أو ورمه أو في الأعصاب والعضلات المحرّكة له أو في المخّ أو في غيرها، وسواء كان منشؤه المرض أو الخوف أو غيرهما- وبين العاجز عنه بسبب مانع خارجي
كالإكراه والنذر والخوف وغيرها، فتجعل الإشارة أو الكتابة بديلًا عن اللفظ في الأوّل دون الثاني؛ لعدم الدليل عليه وعدم تماميّة شيء من الوجوه المتقدّمة في تصرّفات الأخرس فيه كما هو واضح».
قال
الشيخ حسين آل عصفور البحراني : «يصحّ التدبير لمن تعذّر عليه النطق كالأخرس أو لمن اعتقل لسانه بالمرض بالإشارة المفهمة لذلك، وكذا رجوعه، وكذلك بالكتابة عند نصب القرينة كما تقدّم في
العتق . كما يصحّ ذلك في تصرّفاتهم وسائر معاملاتهم؛ لأنّ الإشارة والكتابة قائمتان مقام اللفظ، سواء كان المانع أصليّاً أم عرضيّاً؛ لعموم الأدلّة ولخصوصها أيضاً، وسواء أخرس بعد التدبير فيرجع بالإشارة أم قبله؛ لاشتراك الجميع في المقتضي».
وقال السيد المراغي : «الظاهر أنّ العاجز عن النطق لمرض في العضو أو اعتقال لسان أو قطع أو غير ذلك من العوارض المستمرّة بما يعتدّ به بحيث يوجب سلب قدرة النطق كالأخرس في هذه الأحكام؛ إذ العلّة المستفادة من كلام الشارع هو العجز، وظاهر الأصحاب أيضاً ذلك، ويمكن دعوى عدم الفارق وتنقيح المناط، والتمسّك بلزوم العسر والحرج، وأصالة عدم وجوب التوكيل، ونحو ذلك.نعم، يبقى الإشكال في المكره الممنوع عن التكلّم خوفاً، ففي إلحاقه بالأخرس مطلقاً أو عدمه كذلك، أو الفرق بين طول الزمان الموجب لتفويت الأغراض المقصودة له، وبين قصره الموجب للزوال بسرعة بحيث لا يفوت من الغرض ما يعتدّ به، أو الفرق بين كون الإكراه بحقّ أو بباطل- لو أمكن فرضه- وجوه. الأقوى الإلحاق».
وقال السيد جواد العاملي : «ولا تكفي الإشارة إلّا مع العجز كما في التذكرة، وهو معنى قوله في الشرائع: يقوم مقام اللفظ الإشارة مع العذر. وقوله في الإرشاد: ولو تعذّر النطق كفت الإشارة. وقوله في التحرير: لا تكفي الكتابة ولا الإشارة مع القدرة، وتجزي الأخرس وشبهه الإشارة. وقولهما في اللمعة والروضة: تكفي الإشارة مع العجز عن النطق لخرس وغيره، ولا تكفي مع القدرة... وفي كشف اللثام... لو عجز أشار بما يدلّ على القصد، وهو ممّا قطع به الأصحاب، ولم نجد نصّاً من الأصحاب فيمن عجز لإكراه... وقد طفحت عباراتهم بأنّ العاجز عن النطق لمرض وشبهه كالأخرس».
وقال المحقّق النجفي : «ويقوم مقام اللفظ الإشارة مع العذر من غير تقييد بالعجز عن التوكيل المتيسّر غالباً، ودعوى
اختصاص ذلك في خصوص الأخرس كما ترى؛ ضرورة عدم الفرق بين الجميع كما لا يخفى على من أحاط خبراً بمدرك المسألة، ولذا لم يجعل المصنّف موضوع الحكم (الأخرس) كالقواعد والإرشاد، بل في اللمعة والروضة: تكفي الإشارة مع العجز عن النطق لخرس وغيره، ولا تكفي مع القدرة، وفي محكيّ التحرير: لا تكفي الكتابة ولا الإشارة مع القدرة، وتجزي الأخرس وشبهه الإشارة...».
وقال
الميرزا النائيني : «هل الحكم مختصّ بالأخرس الذي نشأ خرسه من صممه، أو يشمل كلّ من لا يتكلّم ولو لعذر من نذر أو إكراه، أو أخصّ من ذلك وأعمّ من الأوّل فيشمل كلّ من كان عاجزاً خارجاً سواء كان لصممه أو لاعتقال في لسانه أو لمرض مرجوّ الزوال؟ وجوه، الأقوى هو الأوّل، فإنّه الذي يصدق عليه الأخرس يقيناً ثمّ الأخير، وأمّا الخرس لعذرٍ فلا تشمله الأدلّة قطعاً، بل ليس هو خرساً.وبالجملة: وإن قلنا بعموم الأخرس لكلّ من كان عاجزاً عن النطق، وإن لم يكن منشأ خرسه الصمم كما لا يبعد دعواه، ولا وجه للأخذ بالقدر المتيقّن؛ لعدم
إجمال في اللفظ، إلّا أنّ شموله لمن نذر ترك التكلّم ونحوه ممنوع جدّاً».
وقال
السيد الخوئي : «إن قلنا بأنّ الأخرس بمفهومه شامل لمحلّ الكلام (المئوف اللسان)، وأنّه عبارة عن مطلق من لم يتمكّن من التكلّم، وإن كان لجهة عارضيّة فيشمله حكمه؛ لكونه من مصاديقه حينئذٍ، وإلّا- كما لعلّه الأقوى؛ لانصرافه إلى المانع الذاتي كالعمى، فكما أنّ
الأعمى لا يصدق على من لا يبصر فعلًا لعارض موقّت مع قبوله للعلاج فكذا الأخرس، فإنّه ينصرف عمّن طرأ عارض موقّت على لسانه يزول بالعلاج، فالظاهر أيضاً كذلك- فإنّه وإن خرج عنه موضوعاً لكنّه داخل حكماً؛ إذ مناسبة الحكم والموضوع تقضي بأنّ الخرس لا خصوصيّة له، وإنّما اخذ في لسان الدليل باعتبار أنّه لا يتمكّن من التكلّم فهو الموضوع في الحقيقة، والأخرس من أحد مصاديقه فيعمّ الحكم لمثل المقام أيضاً، فالأقوى أنّ وظيفته هي وظيفة الأخرس، لكنّ الأحوط أن يضمّ معها ما في المتن من القراءة في النفس- ولو توهّماً- فيحرّك لسانه بما يتوهّمه؛ لذهاب جماعة إليه».
الموسوعة الفقهية، ج۷، ص۴۴۰-۴۶۳.