الاستبراء من المني
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو طلب
البراءة من المني و
الاجتهاد في
إزالة بقاياه المتخلّفة في المحلّ بالبول أو به وبالاجتهاد المعهود- أي
الخرطات - جمعاً أو تخييراً أو عند تعذّر البول على الخلاف الذي يأتي، واختلف الفقهاء في كيفيّته كما سمعت، وكذا في حكمه التكليفي من حيث الوجوب- وجوباً شرطيّاً أو مقدّمياً أو نفسيّاً- و
الاستحباب ، بل هل
الأمر فيه مولوي أم إرشادي؟ فلا يثبت له الاستحباب فضلًا عن الوجوب- نعم، لا خلاف بينهم في أثره وفائدته- وربّما يرجع كلّ ذلك
الاختلاف إلى الاختلاف اللفظي دون الحقيقي كما ستسمع. هذا مجمل الكلام والتفاصيل تأتي.
اختلف الفقهاء في حكم
الاستبراء من المني على أقوال:
ذهب إليه الشيخ
وأكثر المتقدّمين،
وهو ظاهر الصدوق
والمفيد
وغيرهم
حيث جاء الأمر به في عبائرهم من غير تصريح بالوجوب أو الاستحباب، وربّما يظهر من
الغنية دعوى
الإجماع عليه،
بل نسبه
الشهيد الأوّل و
المحقق الكركي إلى معظم الأصحاب،
واختاره من المتأخّرين
المحدّث البحراني ،
إلّا أنّه اختار ذلك
في خصوص الاستبراء بالبول، مستدلّاً عليه بالروايات الآمرة به والتي يأتي ذكرها محتملًا
اعتماد المتقدّمين عليها، وسوف يأتي حمل المتأخّرين لها على الاستحباب، وأمّا الاستبراء منه بالخرطات فوافق المشهور على القول بالاستحباب معترفاً بعدم الدليل. وقوّاه النراقي،
وعدّه كلّ من الشهيد الأوّل في بعض كتبه
و
الفاضل المقداد والمحقق الكركي
وصاحبي المدارك والذخيرة
أحوط؛ لأنّ فيه محافظة على الغسل من طريان المبطل عليه، وموافقة لقول معظم الأصحاب كما ادّعى بعضهم.
واستدلّ له بما يلي:
الأخبار المتضمّنة لإعادة الغسل مع
الإخلال به إذا رأى المغتسل بللًا مشتبهاً بين البول والمني،
والتي يأتي ذكر بعضها في
أثر الاستبراء وفائدته .
واجيب عنه بأنّه خلاف المدّعى،
بل هو في الدلالة على عدم الوجوب أظهر،
فإنّ وجوب
الإعادة بدون الاستبراء لا دلالة له على وجوب الاستبراء بوجه.
وهي:
أ- صحيحة
البزنطي قال: سألت
أبا الحسن الرضا عليه السلام عن غسل الجنابة؟ فقال: «تغسل يدك اليمنى من المرفقين إلى أصابعك، وتبول إن قدرت على البول، ثمّ تدخل يدك في
الإناء ، ثمّ اغسل ما أصابك منه، ثمّ أفض على رأسك وجسدك، ولا وضوء فيه».
ب- مضمرة
أحمد بن هلال قال: سألته عن رجل اغتسل قبل أن يبول؟ فكتب: «أنّ الغسل بعد البول، إلّا أن يكون ناسياً فلا يعيد منه الغسل».
ج- ما في
الفقه الرضوي : «إذا أردت الغسل من الجنابة فاجتهد أن تبول حتى تخرج فضلة المني من إحليلك، وإن جهدت ولم تقدر على البول فلا شيء عليك...».
وعلى هذه الروايات اعتمد صاحب
الحدائق في تقوية القول بالوجوب؛ إذ قال: الظاهر أنّه على هذه الأخبار اعتمد المتقدّمون فيما صرّحوا به من الوجوب أو ذُكِرَ الأمر بذلك في كلامهم، مدّعياً ظهور عبارة
الفقه الرضوي في الوجوب؛ للأمر بذلك الذي هو حقيقة في الوجوب.
وكذا
صحيحة البزنطي وإن كان الأمر فيها بالجملة الفعليّة؛ لأنّه لا
اختصاص للوجوب بمفاد صيغة الأمر، بل كلّ ما دلّ على الطلب. وبذلك يندفع ما أورده بعضهم على
الاستدلال بالرواية لذلك، وما ربما يورد عليها- من أنّ ورود الأمر بذلك في قرن المستحبّات يؤذن بالاستحباب- فهو مردود؛ بأنّ الأمر حقيقة في الوجوب، وقيام الدليل على خلافه في بعض الأوامر لا يستلزم انسحابه إلى ما لا معارض له ولا دليل على خلافه كما صرّحوا به، وهل هو إلّا من قبيل العامّ المخصوص فإنّه يصير حجّة في الباقي، وبما ذكرنا يظهر قوّة ما ذهب إليه المتقدّمون، ويظهر ضعف ما ذكره في
المختلف من
الاستناد في الاستحباب إلى
الأصل ، فإنّه يجب الخروج عنه بالدليل، والآية أي قوله عزّ وجلّ: «وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا»،
مطلقة يجب تقييدها أيضاً به.
وفي المستند: «وهو (القول بالوجوب) قويّ جدّاً؛ للرضوي المتقدّم.
ويجاب عن ضعفه بانجباره بما مرّ من الشهرة القديمة المحكيّة في
الذكرى والإجماع المحكي».
ولكن نوقش في هذه الروايات بضعف بعضها دلالة كصحيحة البزنطي. وإمكان حملها على الاستحباب أو
الإرشاد ؛ لعدم صراحة الجملة الخبريّة في الوجوب سيّما مع ورودها في سياق الأوامر المستحبّة، مضافاً إلى عدم صلاحيّتها للاستدلال؛ لما في ذيل بعضها من النظر إلى الإرشاد إلى ناقضيّة البلل المشتبه قبل البول.
وكذا مضافاً إلى خلوّ أكثر الأخبار الواردة في بيان الغسل من ذلك، وضعف بعضها سنداً كخبر أحمد بن هلال والرضوي، مضافاً إلى
اشتمال الاولى على التفصيل الذي لم يعلم به قائل، وهو
اعتبار التفرقة بين النسيان وعدمه في إعادة الغسل.
ففي الجواهر- بعد المناقشة في الاستدلال له بروايات إعادة الغسل بأنّها خلاف المدّعى- قال: «والأولى الاستدلال عليه- مضافاً إلى
الشغل اليقيني في وجه وإجماع الغنية- بصحيحة
أحمد ابن محمّد بن أبي نصر ...».
وأجاب عنه بإمكان دعوى الإجماع على صحة الغسل بدونه للاتّفاق على أنّه لو أخلّ به ثمّ وجد بللًا بعد الغسل فإن علم أنّه مني أو اشتبه عليه وجب الغسل، وإن علم أنّه غير مني فلا غسل كما في المختلف
وغيره، فمنه يعلم
إرادة الوجوب التعبّدي في كلام الفقهاء، فيسقط الاستدلال بالشغل.
وقرّره بعض المتأخّرين بقوله: «... وهو (الاستدلال بالاشتغال) يتوقّف على شرطيّة البول في صحّة الغسل، وكون وجوبه شرطيّاً وهو ممنوع، وتفصيل ذلك أنّ وجوب الاستبراء بالبول على تقدير ثبوته يدور بين أن يكون شرطيّاً في صحّة الغسل بحيث يبطل الغسل مع عدمه أو يكون تعبّديّاً، لكن لا سبيل إلى القول الأوّل، بل لعلّه لا قائل به حيث إنّ القائلين بوجوبه لا يقولون ببطلان الغسل عند عدمه مع عدم خروج البلل المشتبهة، بل المصرّح به في كلام غير واحد منهم هو ترتّب
بطلان الغسل عند عدمه إذا خرج بلل مشتبهة الذي يقول به القائل بالندب».
ثمّ ذكر وجه عدم القول بالوجوب الشرطي وهو خلوّ الأخبار البيانيّة عن ذكر البول، وأخبار الإعادة ظاهرة في الإرشاد وغير ذلك قال: «فينحصر وجوبه على تقدير ثبوته بأن يكون تعبّدياً، وعند الشكّ فيه يكون المرجع هو البراءة لا قاعدة
الاشتغال ، مع أنّ القول بكون وجوبه تعبّدياً أيضاً بعيد في الغاية؛ لأنّ المتبادر من الأمر المتعلّق به في الأخبار المتقدّمة- كصحيحة البزنطي وأخواتها التي وردت في
آداب الغسل وكيفيّته- ليس إلّا مطلوبيّته لأجل الغسل لا وجوبه تعبّداً».
كما في الغنية.
لكن في الجواهر- بعد المناقشة في أدلّة القول بالوجوب- قال: «وممّا عرفت يظهر لك ضعف الظنّ بإجماع الغنية، على أنّه منقول على وجوب البول و
الاجتهاد فيه ثمّ الاستبراء من البول،
مع أنّ ما سمعت من عبارات الأصحاب تشهد بخلافه».
بل نفى في
السرائر الإجماع عليه حيث قال- في مقام الاستدلال على عدم الوجوب-: «إنّ الأصل
براءة الذمّة، ولا يعلّق عليها شيء إلّا بدليل قاطع...والإجماع غير منعقد على ذلك».
وربّما يستدلّ للوجوب بالاحتياط، وبمحافظة الغسل عن طريان المزيل عليه، كما لعلّه ظاهر الذكرى حيث قال: «لا بأس بالوجوب؛ محافظة على الغسل من طريان مزيله، ومصيراً إلى قول معظم الأصحاب، وأخذاً بالاحتياط».
لكن في الحدائق: «إن كان المراد منه
اختيار القول بالوجوب كما هو ظاهر كلامه، فهذه الوجوه التي ذكرها لا تصلح دليلًا له كما لا يخفى، وإن أراد أنّ
الاحتياط في ذلك فلا ريب فيه».
بل اعتبر بعض المعاصرين الاستدلال بمحافظة الغسل عن طريان المزيل كالأخبار الدالّة على وجوب الغسل مع وجود البلل المشتبه لو لا الاستبراء عجيباً؛ لعدم وجوب المحافظة على الغسل عن طريان المزيل عليه حتى يجب بوجوبها الاستبراء مقدّمة لوجوبها.
نعم، لو اريد بالاحتياط الحكم بناقضيّة البلل المشتبه للغسل قبل البول ظاهراً فهو أمر صحيح لا نزاع فيه، إلّا أنّ تسمية ذلك بالوجوب مسامحي.
هذا ما استدلّ أو يمكن الاستدلال به على الوجوب، وقد عرفت المناقشة فيه، من هنا نفى كثير من الفقهاء بل أكثر المتأخّرين الوجوب؛ للأصل والعمومات، وخلوّ الأخبار البيانيّة عنه، و
إشعار أخبار إعادة الغسل بعدم المحذور في تركه، مع أنّه لو كان واجباً تعبّدياً كان اللازم
الإنكار عليه، وأمّا الواجب الشرطي فليس محتملًا ولم يقل به أحد.
وقد نصّ بعض الفقهاء على أنّ الاستبراء بالبول قبل الغسل ليس شرطاً في صحّته، وإنّما فائدته عدم وجوب الغسل إذا خرج منه رطوبة مشتبهة بالمني.
والظاهر أنّ هذا متّفقٌ عليه بينهم، وقطع به في المستند، ونفى عنه الخلاف في الجواهر.
قال
الفاضل النراقي في مقام المناقشة في الاستدلال على الوجوب بمضمرة ابن هلال: «... مضافاً إلى أنّ مقتضى حقيقتها
انحصار الغسل بما بعد البول وأنّ قبله ليس غسلًا أو ليس صحيحاً، وليس كذلك قطعاً...». وقال في مقام آخر: «وحمل كلام الموجبين على الوجوب الشرطي بعيد غايته...».
وقال
المحقّق النجفي - بعد الكلام في حكم البلل المشتبه بعد الغسل-: «ثمّ ليعلم أنّا حيث نوجب الإعادة في المقام وغيره من مقامات خروج البلل مرادنا إعادة الغسل خاصّة، فلا يعيد ما وقع منه من صلاة وغيرها قبل خروج البلل؛ وذلك لأنّ الحدث عبارة عن الخروج لا التحرّك عن محلّه، من غير فرق في ذلك بين الأصغر والأكبر، وكذلك الكلام لو حبسه حتى صلّى- مثلًا- بلا خلاف أجده في ذلك بين أصحابنا، بل قد يظهر من بعضهم الإجماع عليه... نعم، نقل في
المنتهى قولًا عن بعض علمائنا بالإعادة، ولم نعرفه».
وقال
السيد اليزدي : «الاستبراء بالبول قبل الغسل ليس شرطاً في صحّته، وإنّما فائدته عدم وجوب الغسل إذا خرج منه رطوبة مشتبهة بالمني، فلو لم يستبرئ واغتسل وصلّى ثمّ خرج منه المني أو الرطوبة المشتبهة لا تبطل صلاته، ويجب عليه الغسل».
ونحوه عبارة
الإمام الخميني والسيّد الخوئي.
واستدلّ له بعدم دلالة الدليل على
الاشتراط ، فالأخبار الواردة في البلل الخارج بعد الغسل ما بين نافٍ للغسل ومثبت له لحدوث جنابة جديدة بالبلل، كصحيح
محمّد بن مسلم قال قال: قال
أبو جعفر عليه السلام : «من اغتسل وهو جنب قبل أن يبول ثمّ وجد بللًا فقد انتقض غسله، وإن كان بال ثمّ اغتسل ثمّ وجد بللًا فليس ينقض غسله ولكن عليه الوضوء؛ لأنّ البول لم يدع شيئاً».
فإنّ التعبير فيه بالانتقاض والتعليل في ذيله صريحان في عدم الاشتراط.
وكذلك مقتضى
إطلاق الأخبار الواردة في كيفيّة الغسل الآمرة بغسل الرأس و
البدن بل وغسل الفرج وسكوتها عن بيان اعتبار البول في صحّته مع كونها واردة في مقام البيان تقتضي عدم اشتراطه به.
نعم، قد يستدلّ على الاشتراط بصحيحة محمّد بن مسلم عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام : عن الرجل يخرج من إحليله بعد ما اغتسل شيء، قال: «يغتسل ويعيد الصلاة، إلّا أن يكون بال قبل أن يغتسل فإنّه لا يعيد غسله».
وفيه: عدم ظهوره في كون الصلاة قبل خروج البلل فيجب تنزيلها وحملها على إرادة ما صلّاها بعد الخروج جمعاً.
وممّا يؤيّد ذلك أنّ راوي هذه الرواية- وهو محمّد بن مسلم- قد روى متّصلًا بهذا الحديث الحديث المتقدّم عن أبي جعفر عليه السلام، والذي ورد فيه التعبير
بالانتقاض ، وهو كالصريح في أنّ غسله قبل أن يبول قد وقع صحيحاً، إلّا أنّه انتقض بحدوث الجنابة الجديدة أعني البلل المشتبه، وبهذا نحمل الأمر بإعادة الصلاة فيها على ما إذا صلّى بعد الخروج.
نسب إلى
السيد المرتضى ،
واختاره ابن إدريس
والمحقق
والعلّامة
والشهيد الأوّل في بعض كتبه
و
الشهيد الثاني،
وغيرهم من المتأخّرين،
بل هو المشهور بينهم كما صرّح بذلك بعضهم.
واستدلّ له
- مضافاً إلى
الاتّفاق ظاهراً على رجحانه،
وما فيه من المحافظة على الغسل من طريان المزيل عليه- بالأمر به في النصوص المتقدّمة، أعني صحيح البزنطي، و
مضمر أحمد بن هلال، والرضوي، المحمول على الاستحباب، بعد ما عرفت من الأدلّة على عدم الوجوب من خلوّ أكثر الأخبار البيانيّة عنه، والاتّفاق على صحّة الغسل بدونه، وعدم دلالة روايات الإعادة مع خروج الرطوبة المشتبهة على الوجوب، وغير ذلك ممّا تقدّم. هذا بالنسبة لحمله على الوجوب الشرطي.
وأمّا حمله على الوجوب التعبّدي فهو خلاف الظاهر جدّاً كما في أمثاله،
كما أنّ المتبادر من الأمر المتعلّق به في بعض الأخبار المسوقة لبيان آداب الغسل وكيفيّته- كصحيحة البزنطي- ليس إلّا مطلوبيّته لأجل الغسل لا الوجوب النفسي كالأمر بغسل اليد و
إدخال اليد في الإناء الغسل، لكن خروجه سبب لانتقاض الغسل لا ينتقل الذهن عند الأمر بالبول- الذي هو سبب عادي لخروج البقيّة- إلّا إلى إرادة تنقية المجرى لئلّا ينتقض الغسل فيما بعد.
فعلى هذا يشكل القول باستحبابه قبل الغسل؛ إذ المفروض عدم كون الأمر المتعلّق به مولويّاً حتى يثبت به الاستحباب الشرعي.
وقريبٌ منه ما في
مصباح الهدى حيث- إنّه بعد أن ناقش في القول بالوجوب واعتبر أنّ الروايات ظاهرة في الإرشاد- قال: «ولذلك يشكل القول باستحبابه مولويّاً أيضاً؛ لعدم الدليل عليه، اللهمّ إلّا أن يتمسّك بالإجماع على رجحانه المردّد بين وجوبه وندبه؛ إذ
الإجماع المركّب منعقد على أحدهما، وهو أيضاً لا يخلو عن المنع، والأولى التمسّك بأدلّة
التسامح لإثبات استحبابه...».
وقال
المحقق العراقي في
شرح التبصرة : «مناسبته للمقدّميّة- للفراغ عن تبعات البلل المشتبه- توهن أمر استحبابه شرعاً، وفي كونه تعبّديّاً في تلك المقدّمة، أو بملاحظة ملازمته للقطع بخلوّ المجرى وجهان، لا يخلو ثانيهما عن قوّة...».
هذا، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى
إمكان دعوى كون النزاع لفظيّاً وأنّ مراد الموجبين إنّما هو اشتراط عدم إعادة الغسل مع خروج البلل المشتبه بالاستبراء بالبول قبل الغسل؛ وذلك لاتّفاق الكلّ على أنّه لو أخلّ به حتى وجد بللًا بعد الغسل فإن علم أنّه مني أو اشتبه عليه وجب الغسل، وإن علم أنّه غير مني فلا غسل عليه، مستشهدين على ذلك باستدلال الشيخ على الوجوب بالأخبار الدالّة على الحكم الزبور.
قال
الفاضل الاصفهاني : «ويمكن
انتفاء النزاع؛ لاتّفاق الكلّ على أنّ الخارج من غير المستبرئ إذا كان منيّاً أو اشتبه به لزمته إعادة الغسل، ولا شبهة في بقاء أجزاءه في المجرى إذا لم يستبرئ، فإذا بال أو ظهر منه بلل تيقّن خروج المني أو ظنّه فوجبت إعادة الغسل، فلعلّه الذي أراده الموجبون، ويرشد إليه عبارة
الاستبصار ؛ لأنّ فيه: (باب وجوب الاستبراء بالبول من الجنابة)، والاحتجاج له أيضاً بأخبار الإعادة إن لم يبل».
وقال المحقّق النجفي: «بل يمكن دعوى أنّ النزاع لفظي، وأنّ مراد الموجبين إنّما هو اشتراط عدم إعادة الغسل مع خروج المشتبه بذلك، كما يشعر به استدلاله عليه في الاستبصار بالأخبار المتضمّنة لهذا الحكم، وتفريع هذا الحكم عليه في
المبسوط و
المراسم والمهذّب والجامع، فتحمل باقي العبارات عليه، ولذا قال في
كشف اللثام ...».
ونقل عبارة كشف اللثام المتقدّمة.
وإلى ذلك يرجع ما ذكره
المقدّس الأردبيلي من عدم
استبعاد أن يكون مراد الشيخ بالوجوب الاستحباب؛ لاستبعاد إرادة الوجوب بكلا نوعية الشرطي والتعبّدي، حيث قال: «... إنّ قول الشيخ بوجوب الاستبراء بعيد؛ لأنّه على تقدير عدم وجدان شيء بعد الغسل لا شكّ عنده أيضاً في صحّة الغسل والصلاة- مثلًا- بعده، ومعلوم أنّ غسل المخرج غير واجب من حيث هو وغير معاقب بتركه بل للصلاة، ويبعد أن يعاقب بترك الاستبراء مع الغسل، والغسل بدونهما كذلك إذا لم يصلّ، فلا يبعد أن يكون مراد الشيخ بالوجوب الاستحباب؛ ولهذا جعل الأخبار الدالّة على الوجوب أو وجوب الإعادة بتركه وشرطيّته- لعدم إعادة الطهارة على تقدير عدم خروج شيء ووجوب الإعادة- دليلًا لقول
الشيخ المفيد : وينبغي لها (المرأة) أن تستبرئ قبل الغسل بالبول، فإن لم يتيسّر لها ذلك لم يكن عليها شيء.
قال (
الشيخ الطوسي ): ويدلّ على ذلك، ونقل الخبرين الدالّين على وجوب إعادة الغسل على الرجل حيث اغتسل قبل أن يبول فخرج منه، والمرأة لا تعيد؛ لأنّ ما يخرج منها ماء الرجل...
وأيضاً قال في الاستبصار: (باب وجوب الاستبراء من الجنابة قبل الغسل)، واستدلّ بالأخبار الدالّة على وجوب إعادة الغسل للجنب الذي اغتسل قبل البول وقبل
الاستنجاء ».
فيكون المستخلص من ذلك كلّه أنّ الأمر به في الروايات وعبارات الفقهاء هو التنبيه على بطلان الغسل بخروج البلل المشتبه بدونه؛ لتفريعهم هذا
الأثر عليه- بلا فرق بين المعبّرين بالوجوب أو الاستحباب- واستدلالهم له بالروايات المتعرّضة لهذا الأثر عند خروج البلل.
ومن الواضح أنّه لا معنى ولا موضوع لذلك مع بطلان الغسل رأساً.
وأمّا
احتمال أن يكون المراد الأمر التكليفي- كما استظهره صاحبي المستند
والجواهر
من كلمات الموجبين- فهو وإن كان لا ينافي تفريع الأثر المزبور عليه، إلّا أنّه بعيد في نفسه وخلاف منصرف عباراتهم- كالروايات- لذكرهم البول عند بيان الغسل وشرائطه.
ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الأمر في هذه الروايات ظاهر في الإرشاد إلى ما هو الأصلح بحال المكلّف صوناً لطهارته عن
الانتقاض ، فلا دلالة فيها حتى على الاستحباب.
ففي مصباح الفقيه- بعد المناقشة في استفادة الوجوب من الروايات- قال: «وبعد أن علم بواسطة القرائن الداخليّة والخارجيّة أنّه ليس للبول- كغسل اليد- مدخليّة في صحّة الغسل يفهم من الرواية (أي صحيحة البزنطي) أنّ له مدخليّة في كماله، إمّا لكون الغسل عقيب البول في حدّ ذاته هو الفرد الأفضل فيكون البول قبل الغسل كغسل اليدين قبله مستحبّاً غيريّاً، أو لكونه موجباً
للاطمئنان ببقاء أثر الغسل وعدم كونه في عرضة الانتقاض فيكون الأمر به إرشاديّاً محضاً.
ولعلّ هذا هو المتبادر منه في مثل المقام؛ لأنّه بعد أن علم أنّ بقاء شيء من المني في المجرى ليس مانعاً من صحّة
وقد يشعر بالاستحباب النبوي: «من ترك البول على أثر الجنابة أو شكّ أن يتردّد بقيّة الماء في بدنه فيورثه الداء الذي لا دواء له».
لكن في
التمسّك بهذا النبوي هنا غير جيّد؛ لأنّه يدلّ على رجحانه بعد الجنابة لا قبل الغسل، فيحصل امتثاله بالبول بعد الغسل إذا اغتسل بعد الجنابة بلا مهلة.
من هنا عدّه
الفقيه الهمداني من سنن
الجنابة لا من سنن الغسل، حيث قال في سياق ذكر مستحبّات غسل الجنابة: «ومنها: البول أمام الغسل إذا كانت الجنابة بالإنزال، كما أنّ من سنن الجنابة بالإنزال البول بعده تحرّزاً عن أن يبقى المني في المجرى فيورث المرض، فإنّه قد روي عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال...» وذكر الحديث.
وعدّ صاحب العروة
من الموارد التي يستحب البول فيها البول بعد خروج المني.
واستدلّ له
السيد الخوئي بالحديث المزبور، وما في الجعفريات
. عن
علي عليه السلام قال: «قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا جامع الرجل فلا يغتسل حتى يبول مخافة أن يتردّد بقيّة المني، فيكون منه داء لا دواء له».
ومن الواضح أنّ مثل هذه الأوامر إرشاد إلى أمر تكويني ومصلحة خارجية، وليست حكماً تكليفياً أو إرشاد إلى أثر شرعي كما هو الحال في الرواية الواردة بالأمر به قبل غسل الجنابة.
وغيرهما من التفاصيل المذكورة في الصحيحة.
•
كيفية الاستبراء من المني ، اختلفت عبارات
الفقهاء في كيفيّة
الاستبراء من المني بين
الاقتصار على البول، والتخيير بينه وبين
الاجتهاد بالخرطات، والجمع بينهما، والتنزّل للثاني مع تعذّر الأوّل، وغير ذلك، فذهب جملة من الفقهاء بل أكثر المتأخّرين إلى الأوّل، وأنّ المراد بالاستبراء هنا هو البول أمام الغسل ليزيل
أثر المني؛ لئلّا ينتقض الغسل بخروج البلل المشتبه كونه منيّاً. وأمّا الاستبراء بالخرطات فهو من
آداب التخلّي، ويترتّب عليه أثره الذي تقدّم ذكره في
الاستبراء من البول .
•
أثر الاستبراء من المني وفائدته ، فائدة
الاستبراء من المني عدم
انتقاض الغسل بالبلل المشتبه المحتمل كونه من بقيّة المني، فلو فعله واغتسل ثمّ خرج منه بلل مشتبه لم يعد الغسل، بخلاف ما لو اغتسل بدونه ثمّ خرج منه البلل المزبور فإنّه يعيد الغسل حينئذٍ؛ لكونه محكوماً عليه بأنّه مني.
المشهور بين الفقهاء
اختصاص الاستبراء بالرجل، فلا استبراء على المرأة، ولا تترتّب فائدته بالنسبة لها، بل ما تجده من البلل المشتبه لا يترتّب عليه حكم، فلا يجب عليها الغسل ولا الوضوء؛ مستدلّين على ذلك بالأصل، و
استصحاب يقين الطهارة، واختصاص الأخبار بالرجل، وانتفاء الفائدة بالنسبة لها؛ لاختلاف المخرجين، وخصوص بعض الأخبار، كما ستسمع.
قال العلّامة في المختلف مستدلّاً على
الاختصاص بعد اختياره: «لأنّ المراد منه
استخراج المتخلّف من بقايا المني في الذكر بالبول، وهذا المعنى غير متحقّق في طرف المرأة؛ لأنّ مخرج البول ليس هو مخرج المني فلا معنى للاستبراء فيها».
وبذلك علّله في
التذكرة أيضاً؛
ولأجله توقّف في المنتهى.
وبه استدلّ في
جامع المقاصد ،
وبه مع الأصل وعدم النص الشهيد الثاني في الروض.
وفي المدارك: «في استحباب الاستبراء للمرأة قولان، أظهرهما العدم، وما تجده من البلل المشتبه فلا يترتّب عليه وضوء ولا غسل؛ لأنّ اليقين لا يرتفع بالشكّ، ولاختصاص الروايات المتضمّنة لإعادة الغسل أو الوضوء بذلك بالرجل».
وفي الحدائق: «الأجود
الاستناد في ذلك إلى عدم الدليل الذي هو دليل على العدم، و
الإلحاق بالرجل قياس مع الفارق، ولأنّ الغرض من الاستبراء- كما يفهم من الأخبار- إنّما هو لعدم إعادة الغسل، ومورد الأخبار المذكورة إنّما هو الرجل، ويعضده أنّ يقين الطهارة لا يرتفع بالشكّ، والرجل قد خرج بالنصوص الصحيحة الصريحة، فتبقى المرأة لعدم الدليل، وحينئذٍ فما تجده
المرأة من البلل المشتبه لا يترتّب عليه حكم».
وفي المستند: «وجوب الغسل أو الوضوء في بعض الصور مخصوص بالرجل، وأمّا المرأة فلا، على المشهور بين الأصحاب؛ للأصل، والاستصحاب؛ لاختصاص أخبار الوجوب بالرجل، مضافاً إلى
التنصيص به في صحيحتي سليمان ومنصور...».
وفي الجواهر: «لا يجب على المرأة بذلك (بخروج الرطوبة المشتبهة) وإن كانت مجنبة بالإنزال؛ استصحاباً ليقين الطهارة، مع ظهور اختصاص أدلّته بالرجل خاصّة، مضافاً إلى ما في صحيح
سليمان ابن خالد من أنّها لا تعيد الغسل له؛ معلّلًا بأنّ ما يخرج منها إنّما هو من ماء الرجل، ومنه مع الأصل يعلم أنّه لا استبراء عليها كما هو المشهور بين الأصحاب؛ لظهور أنّ فائدته ذلك وهي منتفية، وكأنّه لاختلاف المخرجين».
وفي العروة: «الرطوبة المشتبهة الخارجة من المرأة لا حكم لها وإن كانت قبل استبرائها فيحكم عليها بعدم الناقضيّة وعدم النجاسة، إلّا إذا علم أنّها إمّا بول أو مني».
وعلّله في
المستمسك باختصاص النصوص بالرجل، ولصحيح سليمان وخبر منصور، فترجع فيما يخرج منها إلى الاصول.
وفي التنقيح: بأنّ مورد الأخبار- الواردة في أنّ الرطوبة مني موجبة للاغتسال أو بول موجبة للوضوء فيما إذا اغتسل من غير بول أو من غير استبراء بالخرطات- هو الرجل، ولا يمكننا الحكم باشتراك المرأة معه؛ لاحتمال أن يكون للرجل خصوصيّة في ذلك، حيث إنّ خلقته غير خلقة النساء، ولعلّ مخرج البول فيهنّ بحيث لا يتخلّف فيه بقايا البول أو المني، ومعه استصحاب عدم خروج المني هو المحكّم في حقّها.
ومرادهم من صحيح سليمان بن خالد ما رواه عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول فخرج منه شيء؟ قال: «يعيد الغسل»، قلت: فالمرأة يخرج منها شيء بعد الغسل، قال: «لا تعيد»، قلت: فما الفرق بينهما؟ قال: «لأنّ ما يخرج من المرأة إنّما هو من ماء الرجل».
ونحوه خبر منصور.
لكن ناقش السيد الخوئي في الاستدلال بهما على عدم وجوب الغسل على المرأة بخروج البلل المشتبه؛ بأنّهما خارجتان عن محلّ الكلام؛ وذلك لأنّ موردهما بقرينة التعليل ما إذا علمت المرأة أنّ الرطوبة الخارجة منها مني، إلّا أنّها متردّدة في أنّها منها أو من الرجل، فإنّ المرأة تحتلم كالرجل، وقد حكم فيها
الإمام عليه السلام بأنّها من الرجل ولو لأجل غلبة ذلك، ومحلّ الكلام ما إذا لم تعلم أنّ الرطوبة مني منها أو غير مني، ولا دلالة للرواية على أنّ المرأة عند احتمالها لكون الرطوبة منيّاً أو مذياً لا يجب عليها الغسل.
وعلى أيّ حال هذا ما عليه المشهور، لكن يظهر من بعضهم استحباب الاستبراء للمرأة بالبول، ومن بعضهم بالبول والاجتهاد ومن ثالث بالاجتهاد فقط.
ففي
المقنعة : «ينبغي لها أن تستبرئ قبل الغسل بالبول، فإن لم يتيسّر لها ذلك لم يكن عليها شيء».
وفي
النهاية : «إذا أراد الغسل من الجنابة فليستبرئ نفسه بالبول، فإن تعذّر عليه فليجتهد، فإن لم يتأتّ له فليس عليه شيء، وكذلك تفعل المرأة».
فظاهره بل لعلّ صريحه التسوية بين الرجل والمرأة في الاستبراء بالبول أو الاجتهاد.
وفي الغنية: «غسل المرأة من الجنابة كغسل الرجل سواء، ولا يسقط عنها إلّا وجوب الاستبراء بالبول».
فكأنّه يرى ثبوته لها بالاجتهاد.
وقطع الشهيد في
النفليّة بعموم البول واختصاص الاجتهاد بالرجل، حيث قال: «الاستبراء بالبول على الرجال والنساء، والاجتهاد على الرجال».
وظاهره التوقّف في
البيان والذكرى.
وجزم الشهيد الثاني في
الروضة بعدم ثبوته لها بالبول، ونسب ثبوته لها بالاجتهاد إلى القول،
لكنّه جزم بعدم ثبوتهما معاً في
المسالك والروض.
وفي
كشف الغطاء : «ليس على الانثى استبراء، قيل: لأنّ مخرج بولها غير مخرج منيّها، وهذا إنّما ينفي استبراء البول دون الخرطات، ولا يستبعد استحبابه لها بالخرطات والتعصير والتنحنح».
وقد عرفت أنّه لا دليل عليه، لكن قال الشهيد في الذكرى: «لعلّ المخرجين وإن تغايرا يؤثّر خروج البول في خروج ما تخلّف في المخرج الآخر إن كان، وخصوصاً مع الاجتهاد».
وفي
مشارق الشموس : «ما ذكر من أنّه لا فائدة فيه فليس بظاهر؛ إذ يمكن أن يعصر البول عند خروجه مخرج المني فيخرجه، أو يكون القوّة الدافعة عند دفعها للبول تدفع بقايا المني... على أنّ هذا الوجه على تقدير تماميّته إنّما يتأتّى في الاستبراء بالبول فقط...».
لكن في الحدائق: يمكن الجواب بالفرق بين مخرجي الرجل والمرأة؛ لاشتراك مخرجي الرجل في نفس الذكر، ومخرج الجميع من مخرج واحد، بخلاف مخرجي المرأة فإنّهما مفترقان إلى وقت الخروج، فالحكم هنا- بعصر البول عند خروجه لمخرج المني كما ادّعاه القائل المذكور- غير معلوم.
واحتمل
السيد الحكيم الاستناد للقول المزبور إلى قاعدة
الاشتراك ، حيث قال: «لم أقف على مستنده، ولعلّه قاعدة الاشتراك المقتضية لإلحاق المرأة بالرجل التي لا مجال لها بعد ورود النصّ على خلافها».
ثمّ إنّ الظاهر أنّ هذا كلّه في أصل ثبوت الاستبراء لها، أمّا حكمها بعد وجود البلل المشتبه فلم يقل أحد بوجوب الغسل عليها، بل في الجواهر: «لعلّ ما في نهاية الشيخ- من ثبوت الاستبراء لها بالبول، فإن لم يتيسّر فالاجتهاد، والمقنعة من أنّه ينبغي لها أن تستبرئ بالبول، فإن لم يتيسّر فلا شيء عليها- لا يلزم منه
إثبات حكم البلل المشتبه على الخارج منها، بل هو نزاع في أصل ثبوت الاستبراء لها بالبول أو الاجتهاد».
نعم، احتمل الشهيد في الذكرى جريان حكم البلل على الخارج منها مطلقاً أو إذا لم تستبرئ، حيث قال: «... فحينئذٍ لو رأت بللًا بعد الغسل أمكن تنزيله على استبراء الرجل لو قلنا باستبرائها، ولو قلنا بالعدم أمكن أن تكون كرجل لم يستبرئ فتعيد حيث يعيد، وأن تكون كمن استبرأ؛ لأنّ اليقين لا يرفع بالشكّ ولم يصدر منها تفريط...».
لكن في الجواهر: هذا الاحتمال ضعيف لا يلتفت إليه.
من هنا ذهب بعض المتأخّرين إلى ثبوت استحباب الاستبراء لها لأجل
الاستظهار ، لا لترتّب الأثر والفائدة كما في الرجل.
ففي كشف الغطاء مع تصريحه بأنّه ليس على الانثى استبراء قال: «ولا يستبعد استحبابه لها بالخرطات والتعصير و
التنحنح ».
وفي الجواهر بعد ذهابه إلى عدم ثبوت الاستبراء لها قال: «ولعلّ الحكم بالاستحباب للاستظهار- ولأنّ المخرجين وإن تغايرا يؤثّر خروج البول في خروج ما تخلّف إن كان، وخصوصاً مع الاجتهاد- لا يخلو من وجه، أمّا الوجوب فينبغي القطع بعدمه».
والظاهر أنّ مراده من الوجوب وجوب إعادة الغسل بخروج البلل لا وجوب أصل الاستبراء، كما يشهد بذلك سياق كلامه.
ثمّ إنّ حكم المرأة بعد خروج الرطوبة فهو أمّا إذا كانت الرطوبة مشتبهة ولم تعلم أنها مني فلا حكم لها ولا يجب عليها وضوء ولا غسل كما عرفت، وأمّا إذا علمت أنّ الخارج منيّ مشتبه بين منيّها ومنيّ الرجل فقد صرّح بعض الفقهاء
بأنّ الحكم كذلك؛ لجواز أن يكون منيّ الرجل، كما دلّ عليه خبر سليمان بن خالد المتقدّم والذي فيه: «أنّ الذي يخرج منها إنّما هو من منيّ الرجل».
لكن ذهب ابن إدريس
إلى وجوب الغسل عليها في هذه الصورة ولم يعمل بالرواية؛ لعموم (الماء من الماء)،
وفي الذكرى: «كأنّه ( ابن إدريس) نظر إلى
اختلاط المنيّين غالباً».
لكن في الحدائق: «لا يخفى ضعفه؛ فإنّ حديثه عامّ أو مطلق، وهذا خاصّ أو مقيّد، ومقتضى القاعدة تقديم العمل به».
هذا إذا علمت أنّه منيّ ولكن لم تعلم أنّه منيّ الرجل أم منيّها، وأمّا إذا علمت فالحكم واضح، ولذا قال في المستند: «لا يجب الغسل عليها وإن علمت أنّ الخارج منيّ بعد احتمال كونه من الرجل».
وفي المستمسك: «قد لا يجب الغسل عليها، وإن علمت أنّه منيّ إذا احتملت كونه من منيّ الرجل، وقد خرج من الرحم لا من مخرج منيّها».
ومفهوم ذلك أنّها إذا علمت أنّه منيّها وجب عليها الغسل، أمّا إذا كانت الرطوبة مردّدة بين البول والمنيّ منها بأن علمت بأنّها إمّا بول أو منيّ منها فحينئذٍ يجب عليها الجمع بين الغسل والوضوء
فيما إذا كانت حالتها السابقة الطهارة، ولو كانت
الحدث الأصغر يجب عليها الوضوء فقط؛
للعلم الإجمالي بوجوب أحدهما، وتعارض استصحاب عدم خروج المني مع استصحاب عدم خروج البول، كما تقدّم في الصورة الاولى من الصور المتقدّمة في الرجل وهي: ما إذا استبرأ بالبول والخرطات ثمّ خرجت رطوبة مردّدة بين البول والمني، ولا يحتمل غيرهما. ومزيد تفصيل ذلك وما يرتبط به من فروع في محالّه من غسل الجنابة والرطوبة المشتبهة.
لم نعثر على من تعرّض لحكم الخنثى وهل يثبت في حقّها
الاستبراء أم لا، وكذا المنزل من غير المعتاد، إلّا من
الشيخ كاشف الغطاء حيث قال: «استحبابه (الاستبراء) مخصوص بالذكر مع خروجه من مخرج البول المعتاد ولو غير الذكر وخروج البول من مخرجه، ولو اختلف المخرجان لم يتحقّق استبراء...».
وقال بعد ذلك: «الخنثى إذا اتّحد مخرج بولها ومنيّها وكان ذكراً فالظاهر ثبوت
الاستبراء لها، ويقوى ذلك مع العلم بانوثيّتها وإشكالها، ولو اختلف سقط ولو علمت ذكوريّتها».
والمحقق النجفي حيث قال: «وأمّا الخنثى المشكل فلا يبعد إلحاقه بالرجل في الاستبراء والبلل حيث يحصل
الإنزال منه بآلة الذكر مع حصول الجنابة بذلك على تأمّل ونظر، ومن التأمّل فيما تقدّم يعلم الحكم في الرجل المعتاد إنزال المني من غير المعتاد، فإنّ الظاهر عدم جريان الحكم على بلله كعدم ثبوت الاستبراء بالنسبة إليه».
خصّ أكثر الفقهاء الاستبراء بالمجنب بالإنزال، أمّا المجنب بالإيلاج من غير إنزال فلا، وقد صرّح بذلك العلّامة
والشهيدان
والمحقق الثاني
والمحدّث البحراني
والمحقّق النجفي
وغيرهم.
بل قال الأخير: إنّه المتبادر من النصّ، ونسب إلى المشهور؛
مستدلّين على ذلك باختصاص الحكمة من الاستبراء- والتي هي
إخراج بقايا المني المحتمل بقاؤها في المجرى- بصورة الإنزال.
قال العلّامة في المنتهى: «لو جامع ولم ينزل لم يجب عليه الاستبراء، ولو رأى بللًا يعلم أنّه مني وجب عليه الإعادة، أمّا المشتبه فلا؛ لأنّا إنّما حكمنا هناك بكون البلل منيّاً، بناءً على الغالب من
استخلاف الأجزاء بعد الإنزال، وهذا المعنى غير موجود مع الجماع الخالي عن الإنزال».
وقال المحقق النجفي: «إنّ المتبادر من النصّ والفتوى اختصاص استحباب الاستبراء بالمجنب بالإنزال، وبه صرّح جماعة، ونسب إلى المشهور؛ لظهور أنّ الحكمة في الاستبراء المشار إليها في الروايات من إخراج أجزاء المني هي في المنزل خاصّة».
وقال السيد الحكيم: «إنّ المصرّح به في كلام جماعة- بل نسب إلى المشهور- اختصاص استحباب الاستبراء بالبول من المني... لأنّه منصرف النصوص المتقدّمة، ولاختصاص فائدته من إخراج أجزاء المني به، فلا يستحبّ لمن أجنب بالإيلاج».
لكن اعترضهم
المحقق السبزواري في الذخيرة بعموم الروايات ومنع انتفاء الفائدة، حيث قال: «ويرد عليهم عموم الروايات... من غير تفصيل، وانتفاء الفائدة ممنوع؛ إذ عسى أن ينزل ولم يطّلع عليه، أو احتبس شيء في المجاري؛ لكون الجماع مظنّة نزول الماء».
واجيب عنه بعدم
انصراف النصوص لمثل ذلك بعد
تسليم إمكان وقوعه سيّما مع ملاحظة علامات المني.
وبعبارة أوضح: أنّ الروايات وإن كانت مطلقة إلّا أنّ إطلاقها إنّما وقع من حيث معلوميّة الحكم وظهوره، فإنّه لا يخفى على ذي مسكة أنّ المستفاد من الأخبار المذكورة أنّ العلّة في الأمر بالبول هي تنقية المخرج لئلّا يخرج بعد ذلك شيء يوجب إعادة الغسل، ولا يعقل لاستحباب البول بمجرد
الإيلاج سيّما مع تيقّن عدم الإنزال وجهٌ وإن شمله إطلاق الأخبار المذكورة.
وأمّا قوله: (عسى أن ينزل...) ففيه: أنّ الإنزال مقرون بعلامات موجبة للعلم به مثل الشهوة وفتور الجسد والدفق ونحوها، وفرض ما ذكره- مع كونه من النادر الذي لا تبنى عليه الأحكام الشرعيّة- لا يوجب قصر الحكم عليه، فلا يكون ما ذكره من الحكم كلّيّاً، وهو خلاف ظاهر كلامه.
ثمّ إنّ ظاهر النصوص والفتاوى عدم الفرق في ذلك بين ما إذا تيقّن عدم الإنزال أم جوّزه، بل صرّح بذلك بعضهم.
نعم، احتمل الشهيد في الذكرى استحباب الاستبراء مع احتمال خروج المني أخذاً بالاحتياط.
وفي البيان قطع باستحبابه لمن شكّ في الإنزال بعد الجماع.
وفي كشف الغطاء: «لا يبعد استحباب الاستبراء بمجرّد احتمال الإنزال».
وكذا السيد في
الرياض حيث قال: «الاستبراء للمنزل أو محتمله مع تعيّن الغسل أو عدمه».
وعلى أيّ حال فذلك في أصل الحكم لا في ترتّب الفائدة كما صرّح بذلك بعضهم.
قال الشهيد في الذكرى: «... ولو جوّزه ( الإنزال) أمكن استحباب الاستبراء أخذاً بالاحتياط، أمّا وجوب الغسل بالبلل فلا؛ لأنّ اليقين لا يرفع بالشك».
وفي الجواهر: «احتمل في الذكرى استحباب الاستبراء مع احتمال خروج المني أخذاً بالاحتياط. ولا بأس به، لكن لا يجب عليه الغسل بخروج البلل منه قطعاً».
الموسوعة الفقهية، ج۱۰، ص۴۰۱- ۴۵۲.