آنية الكفّار
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ومن
المسائل التي يبحث عنها في موضوع
الآنية هي مسألة آنية
الكفار وحكم استعمالها.
المشهور جواز استعمال آنية الكفّار ما لم يعلم
بنجاستها من جهة
ملاقاتها مع نجاسة عينيّة
كالميتة و
الخنزير، أو
مساورة الكافر نفسه
برطوبة بناءً على نجاسته. ويمكن جعل البحث تارة في حكم استعمالها من حيث النجاسة
والطهارة، وأخرى من حيث
حزازة ذاتية في استعمالها.
أمّا من الناحية الأولى فالمشهور- كما ذكرنا- أنّ أوانيهم
طاهرة حتى يعلم بنجاستها بمباشرتهم لها مع الرطوبة- بناءً على
نجاستهم الذاتية- أو بملاقاتها مع ما يباشرونه من
الخمر أو الميتة أو الخنزير- بناءً على طهارتهم ذاتاً- بل ادّعي عليه
الاتفاق أو
الإجماع كما في
كشف اللثام والجواهر. قال في الأخير: «بل الاجماع عليه إن لم تكن الضرورة».
واستدل له بما يلي:
۱- الأصل، ومرادهم به:
الأصل العملي المتمثّل في
قاعدة الطهارة أو
استصحابها كلّ في مجراه.
۲- العمومات؛ فإن كان
المقصود بها عمومات
حلية طعام أهل الكتاب فهو غير ناظر إلى حيثية الطهارة والنجاسة، وإن كان المقصود بها بعض ما يدل على حصر
المحرّمات فيما اوحي إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهذا أيضاً غير ناظر إلى النجاسة والطهارة. على انّ البحث في المقام ليس في احتمال نجاسة أو حرمة آنية أهل الكتاب أو
المشرك ذاتاً
وواقعاً كما إذا علم بعدم ملاقاتها للنجاسة؛ فإنّ هذا غير محتمل
فقهياً، وإنّما البحث في حكم صورة الشك في ملاقاتها مع النجاسة، ولا
مرجع فيها إلّا الأصل العملي
الظاهري، لا
العمومات الدالة على الأحكام الواقعية.
۳- فحوى بعض
الروايات الواردة في جواز استعمال
الثوب المعار
للذمي،
والثياب السابرية التي يعملها
المجوس،
وثوب المجوسي نفسه،
وما يعمله القصّارون
اليهود و
النصارى بلا حاجة إلى
غسلها وتطهيرها.
وهذه
الأخبار وإن كانت واردة في غير الأواني، لكن عدم
القائل بالفرق بين الأواني وغيرها و
اشتمال بعضها على التعليل العام كافٍ في المطلوب.
نعم، ورد في
صحيح محمد بن مسلم «لا تأكلوا في آنيتهم، ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر»
.
إلّا أنّه
محمول على صورة العلم بملاقاتها للنجاسة.
وفي قبال المشهور قد يستظهر من عبارات بعض
المتقدمين الحكم بالنجاسة
كالمفيد في
المقنعة،
و
الشيخ في
النهاية والمبسوط والخلاف.
والمشهور قد حملوا هذه العبارات على صورة العلم بمباشرة
الكافر للاناء مع الرطوبة وانّه
فتوى منهم بنجاسة الكافر كما قد يشهد له استدلالهم
بآية «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ»،
قال في
الرياض: «ولعله لذا أنّ أصحابنا لم ينقلوا عنه {/ الشيخ}
الخلاف في المسألة»،
وفي
الجواهر: «أواني المشركين... طاهرة بلا خلاف أجده فيه إلّا ما توهمه في
الحدائق من خلاف الشيخ، فحكى عنه عدم
جواز استعمالها، مع انّ ما حكاه من العبارة
ظاهرة أو
صريحة في غير ما نحن فيه من البحث مع
العامة في نجاستها بمباشرتهم أو لا بد من نجاسة اخرى غيرها، وإلّا فلا خلاف فيما نحن فيه بيننا»،
أي في
فرض الشك وعدم العلم بمباشرتها
لأجسامهم بالرطوبة ولا للخمر أو الميتة أو الخنزير، لا خلاف فيه بيننا في الحكم بالطهارة كما هو في كل مشكوك الملاقاة مع النجاسة.
وقال
السيد الحكيم: «وأمّا ما في الخلاف... فالظاهر أنّ
مراده الحكم واقعاً بنجاسة الأواني التي باشرها الكافرون برطوبة، لا الحكم بالنجاسة ظاهراً مع الشك في مباشرتهم- كما هو محل الكلام- وإن توهم في الحدائق ذلك. لكنه في غير محلّه
بقرينة استدلاله على
المنع بآية نجاسة المشركين وبالاجماع وبرواية
محمد بن مسلم الدالّة على المنع عن
الأكل من آنيتهم التي يشربون فيها
الخمر؛ إذ لا اقتضاء للآية والرواية للنجاسة الظاهرية مع الشك و
انتفاء الاجماع ظاهر. ولا ينافي ما ذكرنا نقله الخلاف عن
الشافعي؛ إذ الظاهر من النجاسة في كلام الشافعي النجاسة الخارجية، لا نجاسة
أبدانهم. فكأنّه لا خلاف في المسألة».
وهذا الذي أفادوه في
تفسير مراد الشيخ قدس سره وإن كان مناسباً مع استدلاله بالآية الكريمة إلّا أنّ ما في ذيل كلامه من الحكم بتنجيس آنيتهم على طريقة
الاحتياط وكذلك حكمه بعدم جواز استعمال أوانيهم مطلقاً في صدر المسألة في قبال قول الشافعي بجوازه ما لم يعلم فيها بالنجاسة قد يدل على انّه يحكم بالتنجيس حتى في صورة عدم العلم بالملاقاة.
وعليه، فمن
المحتمل قوياً أن يكون مراده الحكم بالنجاسة حتى في صورة عدم العلم بالملاقاة ولكن نجاسة ظاهرية بخلاف صورة العلم بالملاقاة فتكون نجسة واقعاً بالسراية. فالصور ثلاثة: صورة العلم بالملاقاة مع أبدانهم أو عين نجسة اخرى، وصورة عدم العلم بذلك مع احتماله، وصورة العلم بعدم الملاقاة، فحكم في الصورتين الأوليين بالنجاسة بخلاف الثالثة بقرينة قوله: «كل ما باشروه»
المخرج لما لم يباشروه. وقد صرَّح بخروج هذه الصورة عن الحكم بالنجاسة في المبسوط أيضاً
مع الحكم بالنجاسة في صورة العلم بالمباشرة
والسكوت عن حكم صورة
الشك واحتمال المباشرة.
وما استدلّ به من الصحيحة أيضاً قد يكون من أجل
إثبات الحكم بالنجاسة مطلقاً، أي حتى في صورة الشك وعدم العلم، فتكون
مخصصة لقاعدة الطهارة في خصوص أوانيهم وطعامهم، بل قد يتعدّى من ذلك إلى سائر
أمتعتهم، فيحكم بنجاستها ظاهراً حتى مع عدم العلم بملاقاتها للنجاسة باعتبار معرضيّتها للملاقاة مع النجاسة المتمثلة في
ذواتهم- بناءً على نجاستهم- أو فيما يتعاطونه من النجاسات ولا يتطهرون عنها.
وعلى هذا يمكن أن نستخلص في هذه المسألة أقوالًا ثلاثة:
۱- القول بنجاسة آنيتهم مع العلم بمباشرتهم لها مع
الرطوبة وطهارتها ظاهراً مع الشك في ذلك كما هو في سائر موارد الشك في النجاسة والطهارة. وهذا هو قول المشهور القائلين بنجاسة
الكفار. وقد صرّح بعضهم مع ذلك
باستحباب التنزه أو
كراهة استعمالها من دون غسل؛
للاحتياط، وللأخبار
الناهية المطلقة، كما في
المعتبر والمنتهى ومجمع الفائدة والبرهان وغيرها.
۲- القول بطهارة آنيتهم حتى مع العلم بمباشرتهم لها مع الرطوبة ما لم يعلم بملاقاتها مع إحدى النجاسات الاخرى
كالخمر و
الخنزير والميتة. وهذا هو قول من يرى صحة القول المتقدم عن المشهور، ولكنه يرى مع ذلك طهارة الكفار ذاتاً وأنّ النهي عن مؤاكلتهم أو استعمال أوانيهم إنّما هو من جهة النجاسات الاخرى، فهذا القول ينشأ من
الاختلاف في تلك
المسألة بحسب
الحقيقة، وممّن ذهب إلى ذلك
الشهيد الصدر بالنسبة إلى
أهل الكتاب خاصّة.
۳- القول بنجاسة آنيتهم حتى في صورة الشك وعدم العلم بمباشرتهم لها أو ملاقاتها مع
الأعيان النجسة الاخرى؛
لأصالة النجاسة الظاهرية فيها، فلا يجوز استعمالها إلّا في صورة العلم بعدم مباشرتهم لها وعدم استعمالهم لها في الأعيان النجسة، استناداً إلى أصالة الاحتياط، وإلى اطلاق النهي في
صحيح محمد بن مسلم.
وهذا
الاستناد قد نوقش فيه من قبل المشهور صريحاً أو ضمناً بما عرفت من أنّ
مقتضى الأصل العملي هو الطهارة الظاهرية، فلا موجب للاحتياط إلّا تنزهاً.
والصحيحة لا تدل على ما ذكر؛ إمّا لظهور سياقها في ارادة صورة العلم بالمباشرة كما قيل أو
إجمالها من هذه الناحية، أو يحمل على ذلك بقرينة بعض الروايات
المعتبرة الصريحة في عدم حرمة استعمال أوانيهم، من قبيل:
معتبرة
إسماعيل بن جابر قال: قلت
لأبي عبد اللَّه عليه السلام: ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: «لا تأكله»، ثمّ سكت هنيئة، ثمّ قال: «لا تأكله»، ثمّ سكت هنيئة، ثمّ قال: «لا تأكله، ولا تتركه تقول إنّه
حرام، ولكن تتركه تنزّهاً منه {تتنزّه عنه}، إنّ في آنيتهم الخمر
ولحم الخنزير».
وروايات
إعارة الثوب للذمي ونحوها، بل الروايات المستدلّ بها على القول بطهارة أهل الكتاب وجواز
الوضوء أو
الشرب مما باشروه؛ فإنّ هذه الروايات كما تنفي النجاسة الذاتية عنهم كذلك تنفي أصالة النجاسة عنهم وعن أمتعتهم وأوانيهم.
وممّا ذكرناه في المقام يظهر حال آنية من يستعمل بعض النجاسات كالخمر والميتة؛ فإنّ حكمها كحكم آنية الكافر إذا علم بملاقاتها مع النجاسة يحكم بنجاستها، وإلّا فيرجع فيها إلى الأصل العملي، وهو يقتضي الطهارة إذا لم يعلم بسبق نجاستها. إلّا أنّ ظاهر
ابن الجنيد الحكم بالاحتياط في آنية المستعمل للميتة ما لم يتيقن طهارتها.
وأمّا البحث عن
الحزازة في
استعمال آنية الكفّار من غير ناحية النجاسة فهو مبني على القول بعدم نجاسة الكافر ذاتاً ولا ظاهراً، وحمل النواهي الواردة في الروايات عن مؤاكلتهم أو الأكل من آنيتهم أو الوضوء
بالماء الذي مسَّه الكافر على وجود حزازة ذاتية في
سؤره لزوماً أو تنزهاً. إلّا أنّ
استفادة مثل هذه الحزازة من الروايات الناهية عن استعمال اواني الكفار قبل
الغسل بعيد؛ فإنّ نفس الاناء ليس سؤراً، بل التعبير بالغسل ظاهر في
الإرشاد إلى محذور النجاسة والتخلّص منها. نعم، قد يتجه هذا
الاحتمال في الروايات الناهية عن مؤاكلتهم في قصعة واحدة أو الشرب أو الوضوء من الماء الذي شرب منه، لو لا
قرائن اخرى فيها تقتضي حملها على التنزّه بلحاظ احتمال النجاسة
العرضية أيضاً.
الموسوعة الفقهية ج۱، ص۳۹۹-۴۰۷.