الأمر والنهي (شروطهما)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (توضيح).
ذكر
الفقهاء عدّة شروط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أضاف إلى ما تعارف منها
الشيخ جعفر كاشف الغطاء شروطاً اخرى لا تختصّ بالمقام، بل ترجع إمّا إلى حقيقة
الواجب الكفائي المشروط بعدم قيام الغير به، أو عدم تقدّم خطاب منه أو من غيره يظن تأثيره، أو إلى مطلق ما يتوقّف على
التفاهم كفهم المأمور مراد الآمر وغيرها.
ولهذا نترك هذه الشروط ونركّز على الشروط المعروفة بينهم والخاصة بالأمر والنهي هنا، وهي:
يشترط في وجوب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يحتمل الآمر أو الناهي تأثير أمره ونهيه في المأمور أو المنهي،
فلو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب وتسقط وظيفة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد نفى المحقّق النجفي الخلاف عنه،
بل في ظاهر كلمات
العلّامة الحلّي الإجماع عليه؛
لأنّ الغرض من
إيجاب الأمر والنهي وقوع المعروف و
ارتفاع المنكر، فمع العلم بعدم حصولهما فالأمر والنهي لغو، فكأنّ ذلك بمثابة مقيّد لبّي لإطلاقات النصوص يستفاد من مناسبات الحكم والموضوع.
بل قد يستفاد من قوله سبحانه وتعالى: «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»،
فإنّها تشير إلى كفاية
احتمال التقوى و
الاتّعاظ مع قلّته لوجود المؤشّرات على نزول العذاب عليهم.
واستدلّ له أيضاً بالروايات:
منها: رواية
مسعدة بن صدقة عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلًا...».
قال مسعدة: وسمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول:- وسُئل عن الحديث الذي جاء عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «أنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند
إمام جائر»، ما معناه؟ قال-: «هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه، وإلّا فلا».
وتقريب
الاستدلال بها بثلاث عبارات:
الاولى: قوله عليه السلام: «إنّما هو على القويّ المطاع»، فإنّ (إنّما) أداة حصر تدلّ على
انحصار الوجوب بالمطاع، الدالّة بالمفهوم على انتفائه عند
انتفاء المطاعية، والمطاعية تعبير آخر عن حصول التأثير.
الثانية: قوله عليه السلام: «هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه»، فإنّها بمفهوم الشرط تدلّ على أنّه لو كان لا يقبل أمره فلا وجوب.
الثالثة: قوله عليه السلام: «وإلّا فلا»، فإنّه صرّح بانتفاء وجوب الأمر لو انتفت المعرفة.
هذا، ولكن نوقش في الاستدلال بهذا الخبر من ناحية مسعدة حيث لم تثبت وثاقته.
ومنها: خبر
يحيى الطويل صاحب المقري قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «إنّما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ، أو جاهل فيتعلّم، فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا».
فإنّه مع حصر وجوب الأمر والنهي بالمؤمن والجاهل مرتّباً الغرض من أمرهما ونهيهما على الاتّعاظ والتعلّم الدالّ بإطلاقه على عدم ترتّب غرض آخر غيرهما فيما يخصّ
المؤمن والجاهل، ومع عدم مأمور غيرهما يعلم انحصار الأمر والنهي بتحقّق الغرضين المذكورين، فمع انتفائهما لا يجب أمر ولا نهي. ونوقش في سند الحديث بعدم ثبوت وثاقة يحيى الطويل نفسه.
هذا، وقد اختلف القائلون باشتراط احتمال
التأثير في ما يثبت به الشرط المذكور، فقد ذكر جماعة منهم- بل ربّما نسب إلى الأكثر
- السقوط أيضاً بغلبة الظنّ بعدم التأثير،
فلا يجب حينئذٍ الأمر والنهي.
وذهب جماعة منهم إلى
الاكتفاء بالتجويز
الذي معناه
الإمكان الذي يخرج عنه صورة
الامتناع خاصّة؛
وعلّلوا ذلك بأنّ الأوامر مطلقة غير مشترطة بظنّ التأثير، وإثباته شرطاً يقتضي
إثبات ما لا دليل عليه، ويؤدّي إلى تقييد مطلق الوجوب بغير حجّة، فإنّا علمنا وجوب الجهاد مع قوّة الظن بأنّ الجهاد لا يؤمن.
قال: «نعم يمكن حمل عبارة... - (أو غلب عليه الظنّ) في كلمات بعض الفقهاء- على أنّ المراد بغلبة الظنّ
الطمأنينة العادية التي لا يراعى معها الاحتمال؛ لكونه من الأوهام فيها، لا أنّ المراد عدم وجوبه مع الاحتمال المعتدّ به عند العقلاء... خصوصاً بعد تصريح غير واحد بأنّ الساقط مع العلم بعدم التأثير الوجوب دون الجواز، بل عن بعض الأصحاب استحبابه، واللَّه العالم».
من هنا عبّر بعضهم بكفاية مطلق احتمال التأثير،
بل قال
السيّد الخميني : «لو قامت البيّنة العادلة على عدم التأثير فالظاهر عدم السقوط مع احتماله».
ونسب
الشيخ الطوسي إلى بعضٍ القول بسقوط الوجوب حتّى مع صورة الشكّ في التأثير.
ثمّ إنّه هل يكون احتمال التأثير شرطاً في جميع مراتب
الإنكار أو لا؟
قال: «وقد جعله أصحابنا شرطاً على
الإطلاق . والأولى أن يكون شرطاً لما يكون باليد واللسان دون القلب».
وتبعه
المحقّق النجفي ، حيث قال: لكن قد يشكل بالنسبة إلى المرتبة الاولى منه، وهو الإنكار القلبي الذي هو واجب على الإطلاق؛ لأنّ ذلك من شرائط
الإيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولابدّ من تحقّقه، سواء احتمل التأثير أم لا. اللّهمّ إلّاأن يقال: إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعقل كونهما بالقلب وحده، فلابدّ من
اعتبار أمر آخر في المرتبة الاولى به تعدّ في الأمر والنهي، وهو
إظهار عدم الرضا بضرب من
الإعراض و
إظهار الكراهة ونحو ذلك.
وصرّح
المحقّق الأردبيلي بأنّ ذلك لا يختصّ بهذا الشرط، بل يعمّ جميع الشروط.
وهذا هو المرجّح لسريان الأدلّة على تمام المراتب بلا
استثناء وعدم الرضا القلبي لوحده بدون أيّ مبرز لا يعلم
اندراجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو- لو ثبت- واجب مستقلّ، كما سوف تأتي
الإشارة إليه عند الحديث عن مراتب الأمر والنهي.
ثمّ إنّه قد يترتّب على شرطية احتمال التأثير فروع، وهي:
لو ارتكب شخص حرامين أو ترك واجبين وعلم أنّ الأمر بالنسبة إليهما معاً لا يؤثّر واحتمل التأثير بالنسبة إلى أحدهما بعينه وجب بالنسبة إليه دون الآخر. ولو احتمل التأثير في أحدهما لا بعينه تجب ملاحظة الأهم، فلو كان تاركاً للصلاة والصوم وعلم أنّ أمره بالصلاة لا يؤثّر واحتمل التأثير في الصوم وجب؛
لاجتماع شرائط وجوب الأمر والنهي فيه دون الآخر لانتفاء شرط احتمال التأثير.
ولو احتمل التأثير بالنسبة إلى أحدهما يجب الأمر بالصلاة؛ لأنّ المسألة تدخل في باب
التزاحم الذي يكون
بالإتيان بأحد الواجبين المتزاحمين ويراعى فيها الأهم. وأمّا لو لم يكن أحدهما أهم يتخيّر بينهما، بل له أن يأمر بأحدهما بنحو
الإجمال مع احتمال التأثير كذلك؛ لأنّ اللغوية إنّما تثبت مع العلم بعدم الوقوع مطلقاً لا في أوّل أمر أو نهي.
لو علم أو احتمل أنّ أمره أو نهيه يؤثّر مع التكرار، فهل يجب التكرار أم لا؟ ذهب السيّد الخميني إلى وجوبه؛
ولعلّه لعدم ظهور الأدلّة الآخذة لاحتمال التأثير شرطاً في وجوب الأمر والنهي في
اختصاصها باحتمال التأثير لأوّل أمر ونهي، بل مطلقاً.
أمّا دليل الفرض فواضح؛ لأنّ اللغوية إنّما تثبت مع العلم بعدم الوقوع مطلقاً لا في أوّل أمر أو نهي، وكذا الروايات؛ إذ الظاهر أنّ المراد بالقبول في رواية مسعدة والاتّعاظ في خبر يحيى الطويل حصولهما ولو بالتكرار، و
القدر المتيقّن من
الإجماع عدم التأثير مطلقاً. وكذا يجب لو توقّف على أن يكون الإنكار في حضور جمع؛ لنفس ما تقدّم، ما لم يستلزم مفسدة اخرى
كإشاعة المنكر إن كان متستّراً، فإنّه يرجع إلى فروع شرط عدم ترتّب المفسدة الآتي، وهو ما نبّه عليه الإمام الخميني أيضاً.
ومثلهما ما لو احتمل التأثير في المستقبل وإن علم عدم التأثير في الحال.
لو علم أنّ أمره أو نهيه بالنسبة إلى تارك المعروف وفاعل المنكر لا يؤثّر، لكن يؤثّر بالنسبة إلى غيره بشرط عدم توجّه الخطاب إليه وجب توجّهه إلى الشخص الأوّل بداعي تأثيره في غيره، وهو واضح بناءً على طريقية الأمر والنهي المحضة؛ إذ المدار على تحقّق المعروف وترك المنكر، فهما الواجبان
بالأصالة ، والأمر والنهي إنّما وجبا مقدّمة.
وأمّا بناءً على الموضوعية فيجبان بنفسيهما قطعاً، وإن علم عدم التأثير في المأمور أو المنهي لعدم العلم بملاك الوجوب فيتعبّد به. ولأحد هذين الوجهين اختار الإمام الخميني الوجوب في مفروض المسألة.
ويمكن ترجيح الطريقية بملاحظة الغرض ومناسبات الحكم والموضوع.
وأمّا لو فرض
الأثر المترتّب على الأمر والنهي غير وقوع المعروف وارتفاع المنكر، سواء من المأمور والمنهي أم من غيره كتعلّم الحكم الشرعي وغيره فعلى الموضوعية يجب، وعلى الطريقية لا، ولذا نفى
السيّد الگلبايگاني العلم بالوجوب في هذا الفرض ما لم يعدّ السكوت
إمضاء لتوهين فاعل المنكر وتارك المعروف بحكم اللَّه فقد لا يؤثّر أحياناً النهي عن المنكر في الشخص حسب ما تدلّ عليه القرائن، لكن يمكن أن يلتفت الآخرون الحاضرون، فيذكّرهم الناهي بهذا الحكم وأنّه حكم اللَّه، مثلًا: قد يدير سائق الحافلة
الموسيقى ، والنهي لا يؤثّر فيه، لكن بالنهي يتجدّد في أذهان المسافرين أنّ الموسيقى في
الإسلام حرام.
وفي هذه الحالة لا يحرز الوجوب إلّا إذا كان ذلك
استهانة بحكم اللَّه عرفاً، وكان السكوت إمضاء له وموافقة على فعله، ففي هذه الحال يجب
الإعلام وتبرئة النفس.
لم يتعرّض الفقهاء صراحة لحالة ما إذا أدّى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى تقليل المعصية دون قلعها، لكنّ الإمام الخميني أوجب صراحة
الأمر والنهي ولو احتمل تأثيرهما في تقليل
المعصية ،
فالمكثر لشرب الخمر يجب عنده نهيه عن شربها إذا علم بعدم انتهائه واحتمل تأثير النهي في تقليل شربه لها.
وقد يكون الدليل على ذلك هو
انحلال الكثرة إلى تعدّد صدور المعصية منه، فالتقليل منها يرجع إلى تأثير النهي إجمالًا في عدم وقوع بعضها، أو يفهم من أدلّة وجوب الأمر والنهي كفاية احتمال ترتّب مثل هذا الأثر أيضاً كما هو غير بعيد.
ممّا يترتّب على موضوعية الأمر والنهي وجوب شخصيهما، فلو علم حصول التأثير بغير ذلك لما وجب، وأمّا على الطريقية فالواجب وقوع المعروف وارتفاع المنكر من أيّ طريق مشروع حصلا، فلو علم توقّف تأثير ذلك على
تبديل الأمر بالنهي أو العكس أو على أمر شخص خاص، وجب التبديل في الأوّل وأمر الشخص ذي الأمر المؤثّر بالأمر مع عدم محذور آخر.
لكن يمكن على الفرض الأخير أمر الشخص الخاصّ بالأمر حتى على القول بالموضوعية باعتباره تاركاً للمعروف، أي الأمر أو النهي الواجبين، إلّاأنّه إنّما يثبت الإنكار عليه في صورة علمه بوقوع المنكر وارتفاع المعروف و إحرازه تأثير أمره دون غيره. ووجوب إعلامه بهما بحاجة إلى دليل، وللكلام تتمّة تأتي في مراتب الإنكار.
ظاهر كلمات الفقهاء ورودها في معلوم المعروفية أو المنكرية تفصيلًا، وأمّا معلوم المعروفية أو المنكرية إجمالًا فغير متناول في كلماتهم عدا ما في كلمات
الإمام الخميني حيث أوجب الأمر أو النهي لو احتمل تأثيره في ترك المخالفة القطعية لأطراف
العلم الإجمالي دون الموافقة القطعية،
وفي ترك المعلوم الحرمة تفصيلًا و
ارتكاب بعض
أطراف المعلوم الحرمة إجمالًا مكانه، واستثنى من الصورة الثانية ما إذا كان المعلوم بالإجمال من
الأهمّية بمثابة لا يرضى المولى بحصوله مطلقاً دون المعلوم بالتفصيل.
واستشكل في المعلوم التفصيلي مطلق الأهمّية.
والظاهر من كلامه أنّ العلم الإجمالي حيث إنّه منجّز عقلًا وشرعاً فتكون مخالفته الاحتمالية أيضاً منكراً وموافقته القطعية معروفاً لا محالة.
لا يشترط في احتمال التأثير المعتبر شرطاً في وجوب الأمر والنهي حصوله من أحد على وجه التفصيل، فلو علم شخصان إجمالًا بتأثير إنكار أحدهما دون الآخر وجب الإنكار على كلّ منهما، فإن أنكر أحدهما فأثّر سقط الوجوب عن الآخر، وإلّا وجب عليه أيضاً، فإنّه حكمٌ عُلِم بتحقّق موضوعه، فيكون منجّزاً وإن كان المكلّف به شخصاً لا بعينه. وأمّا لو علما إجمالًا أنّ إنكار أحدهما مؤثّر والآخر مؤثّر في
الإصرار على الذنب لم يجب؛ لعدم
إحراز شرط احتمال التأثير، ومعه لا فعلية للحكم كما ذكره بعض الفقهاء.
لكن لقائل أن يقول: إنّ إنكار أحدهما المؤثّر في ارتفاع الذنب لو كان بحيث يؤثّر في ارتفاعه ولو مع سبق الإنكار الآخر المؤثّر في الإصرار وجب الإنكار عليهما أيضاً لمعلومية التأثير بالنتيجة؛ لأنّ إنكار أحدهما إن أثّر في ارتفاع الذنب فهو وإلّا أثّر الإنكار الآخر، فشرط الوجوب محرز على أيّة حال، ومعه يتنجز الوجوب. نعم، لو فرض المكلّف شخصاً بعينه لا بنحو الإجمال واحتمل في إنكاره الأمرين، نعني التأثير في ارتفاع الذنب، والتأثير بخلافه لم يجب؛ لعدم إحراز الشرط، وهو ما صرّح به الإمام الخميني.
احتمال التأثير المأخوذ شرطاً في وجوب الأمر والنهي هو التأثير في ارتفاع المنكر ووقوع المعروف، وأمّا تأخيرهما فلم يأت عليه أحد بذكرٍ غير الإمام الخميني حيث أوجبه جازماً به مع احتماله عدم تمكّن المأمور من ارتكابه مستقبلًا، وغير مستبعد له مع عدم الاحتمال المذكور.
ودليل الأوّل واضح؛ لأنّ احتمال عدم التمكّن مردّه إلى احتمال التأثير في عدم الوقوع منه مستقبلًا ولو لمانع المحقّق لغرض الشارع من إيجاب الأمر والنهي.
وأمّا الثاني فمجرّد التأخير مع العلم بوقوع المعصية منه بعد ذلك لا يحقّق شرط احتمال التأثير المذكور ما لم يدّع بأنّ المستفاد من الأدلّة كفاية مثل ذلك في فعلية الوجوب،
وليس بالبعيد.
إذا علم أو احتمل أنّ إنكاره في حضور جمع مؤثّر دون غيره ولم يكن الفاعل متجاهراً لم يجز الإنكار على تقييد الوجوب بمطلق المفسدة، وأمّا على تقييدها بالمفسدة الأهم أو على القول بالتزاحم فيراعى الأهم ملاكاً، فيجب الإنكار إن كان ملاكه أهم وإلّا فلا، بل ربما حرم.
لو توقّف تأثير أمره على إجازته له بترك واجب آخر أو ارتكاب حرام آخر، فمع أهمّية مورد الإجازة من المعروف المتروك والمنكر المرتكب، لم تجز
الإجازة ويسقط الوجوب على القولين من التزاحم والتقييد. وأمّا مع كون مورد الأمر والنهي أهم فالأمر على القول بالتقييد بأدلّة عدم المفسدة كذلك، ما لم تكن الأهمّية بدرجة يعلم معها بعدم رضا الشارع بتركها بحال ممّا يعني إطلاقها، كقتل النفس المحترمة فتجب إجازته.
وأمّا على القول بالتزاحم فتجوز الإجازة، بل قد تجب في مطلق ما إذا كان مورد الأمر أو النهي أهم من مورد الإجازة. وقد تعرّض الإمام الخميني لهذه المسألة واستوجه الإجازة.
ومثله ما لو توقّف تأثير الأمر أو النهي على ارتكاب محرّم أو ترك واجب، أو على تبديل الأمر بالمهم.
ومن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن لا يكون في الإنكار ضرر أو مفسدة، كما نبّه على ذلك غير واحدٍ من الفقهاء،
بل صرّح بعضهم بعدم الخلاف فيه.
والمراد بالمفسدة مطلق الضرر الأعم من الضرر بالنفس أو بالمال أو بالعرض، في نفسه أو في غيره، في الحال أو المستقبل، فلو علم أو ظنّ توجّه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى عرضه أو إلى أحد من المسلمين في العاجل أو الآجل، سقط الوجوب.
قال الإمام الخميني: «لو خاف على ماله- بل علم توجّه الضرر المالي عليه- فإن لم يبلغ إلى الحرج والشدّة عليه فالظاهر عدم حرمته، ومع إيجابه ذلك فلا تبعد الحرمة».
بل إنّ عنوان المفسدة أعم من عنوان الضرر هنا؛ ولهذا نلاحظ تعبير بعض الفقهاء بالمفسدة كالحلبي؛
إذ قد تكون المفسدة راجعةً إلى الإسلام نفسه وحيثيته ومكانته، فلا تنحصر المفسدة بمفهوم الضرر الشخصي، بل تستوعب المفاسد الاجتماعية والعامة؛ ومن هنا قدّم الفقهاء اموراً اخرى على الأمر والنهي نتيجة تزاحم المصالح والمفاسد بالمعنى الأعم.
وقد يستدلّ على هذا الشرط- بعد الإجماع المردود باحتمال المدركية.
بالاولويّة من إظهار الكفر الذي جوّزته الآية الكريمة: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ• مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكرِهَ وَقَلْبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»
بالإكراه .
وبنفي الضرر والضرار والحرج في الدين، وسهولة الملّة وسماحتها، و
إرادة اللّه اليسر دون العسر.
وهذا الدليل مبنيّ على نظرية المشهور في قاعدة نفي الضرر من أنّ مفاده نفي الحكم الضرري.
وبقبح ذلك؛ لأنّ
الإضرار بالنفس أو بالغير- نفساً أو مالًا أو عرضاً- قبيح ودفع القبيح بالقبيح قبيح.
منها: ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول- وسُئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الامة جميعاً؟ فقال-: «لا»، فقيل له: ولم؟ قال: «إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلًا إلى أيّ من أيّ يقول من الحقّ إلى
الباطل ، والدليل على ذلك كتاب اللَّه عزّوجلّ قوله: «وَلْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»،
فهذا خاص غير عام، كما قال اللَّه عزّوجلّ: «وَمِن قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»،
ولم يقل: على موسى ولا على كلّ قومه، وهم يومئذٍ امم مختلفة، والامّة واحد فصاعداً، كما قال اللَّه عزّوجلّ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً»،
يقول: مطيعاً للَّهعزّوجل، وليس على من يعلم ذلك في هذه
الهدنة من حرج إذا كان لا قوّة له ولا عدد ولا طاعة».
وقد يناقش فيها من حيث عدم القدرة على تحقيق الغرض من الأمر والنهي للعجز، لا من حيث الضرر اللاحق على الآمر والناهي.
ومنها: ما رواه
يحيى الطويل صاحب المقري قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «إنّما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ، أو جاهل فيتعلّم، فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا».
وقد يناقش فيها بأنّها واردة في مورد عدم احتمال التأثير لا احتمال الضرر، بقرينة المؤمن الذي يتّعظ والجاهل الذي يتعلّم، ولا أقلّ من الإجمال، فيكون عنوان صاحب السوط كناية عن شدّة قسوة القلب بحيث لا يحتمل تأثّره.
ومنها: خبر
الأعمش عن
الإمام الصادق عليه السلام - في حديث
شرائع الدين - قال: «والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك، ولم يخف على نفسه ولا على أصحابه».
ومنها: قوله عليه السلام أيضاً في خبر
مفضّل ابن يزيد ، قال: قال لي: «يا مفضّل، من تعرّض لسلطان جائر فأصابته بليّة لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر عليها».
وغير ذلك من النصوص. وقد يناقش- بغضّ النظر عن مناقشة بعض الفقهاء في أسانيد بعض هذه الروايات
- في هذه الأدلّة بأنّ التعارض بينها وبين ما دلّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجه.
واجيب عنها:
أوّلًا: بأنّ مورد جملة منها هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يمكن خروجه عنها.
نعم، هو كذلك بالنسبة إلى نحو قوله تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»،
وقول أبي عبد اللَّه عليه السلام في خبر
عقبة بن خالد : «لا ضرر ولا ضرار»،
ونحوهما.
وثانياً: بأنّ من التخصيص في السابقة يعلم الرجحان حينئذٍ في هذه العمومات، خصوصاً بعد ملاحظة غير المقام من التكاليف التي تسقط مع الضرر كالصوم ونحوه.
وثالثاً: بأنّ مثل هذه الأدلّة حاكمة على الإطلاقات والعمومات، فلا وجه لتوهّم التعارض، ثمّ ملاحظة الترجيح بينهما.
هذا، ولكن لو كان الموضوع ممّا يهتمّ به الشارع كحفظ نواميس
المسلمين أو محو آثار الإسلام ومحو حجّته بما يوجب ضلالة المسلمين أو
إمحاء بعض شعائر الإسلام كبيت اللَّه الحرام وأمثال ذلك، فإنّه لابدّ من ملاحظة الأهمّية، ولا يكون مطلق الضرر ولو النفسي موجباً لرفع التكليف؛ لأنّ أهمّية تلك الامور عند الشارع بمثابة لا يرفع بالحرج والضرر.
وكذا لا يلاحظ الضرر والحرج لو وقعت بدعة مضلّة في الإسلام، بل يجب إنكارها، وإقامة الحجّة على
بطلانها ؛ لأنّه لا منكر أعظم في نظر الشارع من هتك حرمة الإسلام وتضعيف عقائد المسلمين، فيجب على علماء الدين الإنكار بأيّة وسيلة ممكنة.
ومن هنا ذهب عدّة من الفقهاء إلى جعل المقام من باب المزاحمة وأدخل الضرر ونحوه مع الأمر والنهي مدخل التزاحم، فيجب تقدّم الأهم وإن كان فيه ضرراً.
واستدلّوا له:
بأنّه ليس الغرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحصيل المثوبة مثلًا، بل هما شرعاً مفهوم وسيع
لإصلاح المجتمع وقطع جذور المنكر والفساد.
ومقتضى رعاية ملاكات الأحكام ومصالحها، و
اختلاف مراتب الضرر، ومراتب المنكر أن يعامل الدليلين معاملة التزاحم فيقدم الأهم منهما ملاكاً، فلربما يريد أحد قتل واحد أو جماعة أو التجاوز على
امرأة مسلمة محترمة- مثلًا- ويكون نهيه وردعه موجباً لخسارة ما على الناهي، فهل يمكن القول بعدم وجوب النهي عن المنكر حينئذٍ؟! وربما يكون المنكر منكراً فظيعاً يتجاهر به ويكون في معرض السراية إلى المجتمع وربما يفسد المجتمع بسببه، أو يكون المرتكب له ذا شخصية اجتماعية أو دينية يقتدي به الناس طبعاً، أو يكون عمله موجباً لهدم أساس الدين، أو يريد بعمله تغيير قانون من قوانين الإسلام أو تحريفه، أو يريد
إقامة السلطة الظالمة الغاصبة على شؤون المسلمين وسياستهم واقتصادهم وثقافتهم، ونحو ذلك من الامور المهمّة التي لا يجوز السكوت في قبالها، وكان الناهي ممّن يقبل قوله، أو يوجب إقدامه ونهيه لا محالة وحشة المرتكب أو خفّته أو التزلزل في وضعه الاجتماعي، فهل لا يجب النهي والردع بظن ضرر مالي أو حبس أو تضييق أو نحو ذلك؟! يشكل جدّاً الالتزام بذلك. وبهذا يجمع بين ما تقدّم وبين أدلّة نفي
الإكراه والضرر والحرج.
هذا، مضافاً إلى دلالة روايات كثيرة على وجوب
الإقدام والقيام في قبال المنكر والفساد ولو ترتّب عليه ضرر أو شدة، ومنها:
قال: «يكون في
آخر الزمان قوم يُتَّبع فيهم قوم مراؤون يتقرّؤون ويتنسّكون، حدثاء سفهاء لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلّاإذا أمِنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرُخص والمعاذير، يَتَّبعون زلّات العلماء وفساد عملهم، يَقبلون على
الصلاة و
الصيام وما لا يَكْلِمُهُم في نفس ولا مال، ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها... فأنكروا بقلوبكم وألفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في اللَّه لومة لائم».
وخبره الآخر عنه عليه السلام أيضاً قال: «من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى اللَّه ووعظه وخوّفه كان له مثل
أجر الثقلين:
الجن و
الإنس ، ومثل أعمالهم».
وواضح أنّ تخويف السلطان الجائر يلازم غالباً ردّ الفعل والتضييق.
قال: «... وإنّما عاب اللَّه ذلك عليهم لأنّهم كانوا يرون من الظلمة المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك؛ رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة ممّا يحذرون، واللَّه يقول: «فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ»..».
قال: «... وأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل ولا ينقّصان من رزق، وأفضل من ذلك كلمة عدل عند إمام جائر».
وعنه عليه السلام أيضاً: «... ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة اللَّه العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق، ونوّر في قلبه اليقين».
قال: «قال
أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ اللَّه لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة إذا عملت الخاصّة بالمنكر سرّاً من غير أن تعلم العامّة، فإذا عملت الخاصّة بالمنكر جهاراً فلم تغيّر ذلك العامّة استوجب الفريقان العقوبة من اللَّه عزّوجلّ».
وهذا يؤيّد ما ذكر من التزاحم بين الدليلين و
اختيار الأهم منهما في المقام. والقول بأنّ الحديث الأوّل وأمثاله محمول على اناس مخصوصين موصوفين بهذه الصفات، أو على إرادة فوات النفع من الضرر،
أو على وجوب تحمّل الضرر اليسير، أو على
استحباب تحمّل الضرر العظيم،
خلاف الظاهر. نعم، هو ضعيف السند
بالإرسال .
هذا، وأمّا الأخبار التي استدلّوا بها على
الاشتراط ، فمضافاً إلى ضعف أكثرها سنداً تحمل- كما ألمحنا سابقاً- على صورة عدم القوّة والقدرة، وهي شرط عقلي، أو تحمل على صورة عدم
إعداد المقدّمات بحيث يقع عمله لغواً، لا يترتّب عليه أثر إلّا هلاك نفسه أو على كون المورد جزئياً لا يجوز بسببه
إيقاع النفس في المهالك أو نحو ذلك من المحامل جمعاً بين النصوص والأدلّة.
وبالجملة، فالواجب في المقام
إجراء باب التزاحم، وتقديم ما هو الأهم ملاكاً، وهكذا كانت سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم و
الأئمّة عليهم السلام الملتزمين بالموازين الشرعية أمثال:
أبي ذر، و
ميثم التمّار ، و
حجر بن عدي، و
رشيد الهجري، و
مسلم ، و
هاني ، و
قيس بن مسهر ،و
زيد بن علي، و
حسين بن علي شهيد فخ، وقد استشهدوا في طريق الدفاع عن الحقّ.
هذا، وكلمات القوم متّفقة على أنّ المدار في الشرط أمر عدمي هو انتفاء المفسدة والضرر ممّا يستلزم توقّف ثبوت وجوب الأمر والنهي على إحرازه، فيكفي لانتفاء الوجوب الظن بالمفسدة، أو احتمال وجودها احتمالًا مقيّداً به،
ولا يبعد استفادته من بعض الروايات الخاصة، وأمّا سائر الأدلّة فربما لا يستفاد منها ذلك، خصوصاً الروايات الواردة من طريق الجمهور.
ومن هنا قوّى المحقّق النجفي
إلحاق خوف الضرر باليقين والظن عند العقلاء،
وردّه المحقّق العراقي باحتياجه إلى دليل متيقّن، قال: «ثمّ إنّ في إلحاق خوف الضرر بصورة اليقين به، حتى في المال إشكال. نعم، لا يبعد الإلحاق في النفسي والعرضي؛ لأنّه يجب حفظ نفسه عن المضار المزبورة، ومع الشكّ فيه فقاعدة
الاشتغال تقتضي وجوب الحفظ.
نعم، لو قلنا بأنّ الهتك حرام لا يبعد المصير إلى
البراءة ، ولكن في الجواهر: أنّ ظاهر الأصحاب إلحاق الظن بالضرر باليقين، وقوّى إلحاق مطلق الخوف واستبعد عدم مساعدة العقل عليه كما توهّم. وعليه فيحتاج إثباته إلى دليل متيقّن، فإن كان في البين إجماع- ولو بتسرية مناط خوف الضرر من باب الوضوء والصوم وأمثالهما إلى المقام- فهو، وإلّا فللنظر فيه مجال».
الموسوعة الفقهية، ج۱۷، ص۱۹۹-۲۱۵.