يستعمل كثيراً مطلقاً ويراد به سبيل اللَّه.
والنسبة بين الإنفاق والإيثار- بالمعنى اللغوي- هي العموم و الخصوص من وجه؛ لأنّ الإنفاق قد يكون على النفس ، بل وإذا كان على الغير لا يلزم أن يكون من باب الإيثار، كما أنّه ليس كلّ تقديم للغير على النفس مربوطاً بالإنفاق.
إيثار النفس على الغير إذا كان في الامور الدينية و القربية كالعبادات- مثل:
أن يتقدّم للصلاة جماعة في الصفوف الاولى أو يسابق إلى الإنفاق الراجح أو إلى طلب العلم أو غير ذلك- فلا بأس به، بل هو راجح في الجملة ، قال سبحانه وتعالى:
«فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ »،
يستحبّ الإيثار في نفسه- في غير ما تقدّم- ما لم يعرض عليه عنوان آخر يجعله واجباً أو محرّماً أو مكروهاً، وهو من الخصال الأخلاقية الممدوحة التي تعبّر عن نكران الذات وعن معاني التضحية و الوفاء .
وتدلّ على استحبابه الآيات والأخبار: فمن الآيات قوله تعالى: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ».
ووجه الدلالة واضح؛ ضرورة كونها بصدد مدح الذين يفعلون ذلك.
ومن الأخبار رواية سماعة ، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الرجل ليس عنده إلّا قوت يومه، أيعطف من عنده قوت يومه على من ليس عنده شيء؟ ويعطف من عنده قوت شهر على مَن دونه؟ و السنة على نحو ذلك؟ أم ذلك كلّه الكفاف الذي لا يُلام عليه؟ فقال: «هو أمران، أفضلكم فيه أحرصكم على الرغبة و الإثرة على نفسه؛ فإنّ اللَّه عزّوجلّ يقول:
«وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»، و الأمر الآخر لا يلام على الكفاف، و اليدالعليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول».
ورواية جميل - في حديث- أنّه قال لأبي عبد اللَّه عليه السلام : من غُرر أصحابي؟ قال:
«هم البارّون بالإخوان في العسر و اليسر »، ثمّ قال: «يا جميل، أما إنّ صاحب الكثير يهون عليه ذلك، وقد مدح اللَّه في ذلك صاحب القليل، فقال في كتابه : «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ...»».
وكذلك رواية الوليد بن صبيح، قال: كنت عند أبي عبد اللَّه عليه السلام ... ثمّ قال: «إنّ رجلًا لو كان له مالٌ يبلغ... ثمّ شاء أن لا يبقي منها إلّاوضعها في حقٍ لفعل فيبقى لا مال له، فيكون من الثلاثة الذين يُردّ دعاؤهم »، قلت: من هم؟
قال: «أحدهم رجل كان له مال فأنفقه في غير وجهه ، ثمّ قال: يا ربّ، ارزقني، فيقال له: ألم أجعل لك سبيلًا إلى طلب الرزق ؟!».
وقد يستفاد منها عدم مطلوبية الإيثار خصوصاً مع الحاجة الشديدة التي اشير إليها في الآية ؛ ولذلك قد يحتمل نسخ هذا الحكمبادّعاء أنّ الإيثار كان مرغوباً فيه في صدر الإسلام ؛ لكثرة الفقراء ، ولكن نسخ بعد ذلك بهذه الآيات.
فقال: «إنّ ذلك كان مباحاً جائزاً ولم يكونوا نهوا عنه، و ثوابهم منه على اللَّه عزّوجلّ، وذلك أنّ اللَّه أمر في آيات الاقتصاد بخلاف ما عملوا به، فصار أمره ناسخاً لفعلهم، وكان نهي اللَّه تبارك وتعالى عن الإيثار رحمة منه للمؤمنين ونظراً؛ لكي لا يضرّوا بأنفسهم وعيالاتهم ...».
ولأجل شبهة التعارض هذه ذكر العلماء في وجه الجمع بين الآيات والروايات محاولات عديدة، وهي:
۱- إنّ الإيثار إذا كان على نفس الموثر فهو مندوب ، وإذا كان على عياله فلا يستحبّ.
قال الشهيد الأوّل: «والجمع بينهما: أنّ الإيثار على نفسه مستحبّ، بخلافه على عياله».
وقال المحقّق النجفي بعد التعرّض لما يدلّ على الاقتصاد: «لكن لا يخفى عليك رجحان مقام الإيثار الذي أشار إليه ربّ العزّة بقوله: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ...»، وفعله الأولياء ؛ ولعلّه لذا قال في الدروس :
ويكره أن يتصدّق بجميع ماله إلّامع وثوقه بالصبر ولا عيال له.
وكأنّ الرجوع في ذلك كلّه إلى الموازين الشرعيّة- المختلفة باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال- هو المتّجه في ذلك وفي غيره، كالصدقة وعنده عيال محتاجون، أو عليه دين، التي نفى استحبابها في الأوّل في القواعد وعن غيرها، وحكم بكراهتها في الثاني».
و مراده من الموازين هو مجموع القواعد العامّة الأوّلية والثانويّة التي قد تطرأ عليها.
ولعلّ الوجه الأخير هو الصحيح المناسب للقواعد العقلائية و العناوين الحاكمة على جميع الأحكام الأوّلية.
من هذا كلّه يُعلم أنّ بعض العناوين الثانوية الطارئة قد توجب حرمة الإيثار، كما إذا بلغ حدّ الإسراف و تضييع المال والتبذير المحرّم شرعاً، كما أنّه قد توجب وجوبه، كما إذا توقّف حفظ نفس محترمة على الإيثار بطعامه له، فلا اختصاص للموازين الشرعية التي أشار إليها المحقّق النجفي بما ينفي استحباب الإيثار أو يثبت كراهته بالخصوص، بل يعمّ ما قد يوجب حرمته أو وجوبه، وهذا واضح .