ولعلّه تفسير بالأخصّ، فإنّ الظاهر من الإعطاء، الإعطاء الفعلي، وهو لا يشمل رفع المنع الذي فسّر به البذل، فيقال- مثلًا- لمن أحيا بئراً : يجب عليه بذل فاضل مائها عن حاجته، و المراد بالبذل هنا التخلية و الإباحة الفعلية.
ولعلّه لذلك جمع الفيّومي بين التفسيرين؛ إذ قال: «بذله بذلًا من باب قتل: سمح به وأعطاه، وبذله: أباحه عن طيب نفس».
ويعتبر فيه الاختيار قطعاً، فلا يقال لمن اخذ منه المال قهراً: إنّه بذل المال. وأمّا طيب النفس بمعنى الرضا القلبي فالظاهر عدم اعتباره ؛ لصدق البذل على كثير من الإعطاءات الاضطرارية، بل الواجبة عرفاً وشرعاً وإن كانت خالية عن طيب النفس والرضا القلبي، كما يقال: يجب على الزوج بذل نفقة الزوجة وغيرها ممّن تجب نفقته ، ويجب على الزوج بذل كفن الزوجة، وهكذا.
فما ذكر في المصباح وغيره
إلّا أنّه يمكن الفرق بينهما بأنّ البذل أعمّ من الهبة، فكلّ هبة بذل، وليس كلّ بذل هبة، فإنّ لها شرائط خاصة مذكورة في محلّها. كما أنّ البذل يتّصف أيضاً بالأحكام الخمسة التكليفية - كما سيأتي- بخلاف الهبة. وتفصيله في محلّه.
وأمّا البذل المكروه فهو كلّ بذل مال اريد به الحصول على فعل مكروه في نفسه، بناء على القول بكراهة مقدّمة المكروه إذا جيء بها بقصد المقدّمية وترتّب عليها المكروه أيضاً، ومصاديق الأفعال المكروهة كثيرة معلومة.
نعم، بذل المال لترويج الفعل المكروه قد يكون حراماً من باب صدق بعض العناوين المحرّمة عليه كالصدّ عن سبيل اللَّه أو طلب الانحراف في الدّين، بل قد يصدق عليه البدعة أيضاً إذا اريد ترويجه بما أنّه من الدين، وكذلك الحال في البذل المباح.
وأمّا البذل المباح فكلّ بذل لم يتعلّق به نهي تحريمي أو تنزيهي ، ولم يجعل مقدّمة لهما أيضاً- بناء على القول بحرمة مقدّمة الحرام وكراهة مقدّمة المكروه، وإلّا فهو مباح حتى إذا صار مقدّمة لأحدهما- وكذلك لم يتعلّق به طلب إلزامي أو ندبي ، ومصاديق البذل المباح كثيرة أيضاً. وللتفصيل فيما ذكر من الأحكام تراجع العناوين الخاصة بها.
وهو بأن يُبذل لأحد نفس الحجّ أو نفقته، بذلًا واجباً- بنذر ونحوه- أو مندوباً، على وجه التمليك أو الإباحة ، وله صور اخرى أيضاً مذكورة في محلّه. ولا كلام في استحباب هذا البذل؛ لأنّه من المعروف ، بل من أفضل مصاديقه .
نعم، وقع الكلام بينهم في حصول الاستطاعة بمجرّد ذلك أو بعد قبوله وعدمه، وفي لزوم قبول هذا البذل وعدمه، وفي اشتراط هذا النوع من الاستطاعة بالرجوع إلى الكفاية وعدمه، وأيضاً بمنع الدين منه وعدمه. وتسمّى هذه الاستطاعة بالاستطاعة البذليّة، وهذا الحجّ بالحجّ البذلي.
قال السيّد اليزدي : «إذا لم يكن له زاد و راحلة ولكن قيل له: حجّ وعليّ نفقتك ونفقة عيالك، وجب عليه، وكذا لو قال: حجّ بهذا المال، وكان كافياً له ذهاباً و إياباً ولعياله، فتحصل الاستطاعة ببذل النفقة كما تحصل بملكها، من غير فرق بين أن يبيحها له أو يملّكها إيّاه، ولا بين أن يبذل عينها أو ثمنها ، ولا بين أن يكون البذل واجباً عليه بنذر أو يمين أو نحوهما أو لا... كلّ ذلك لصدق الاستطاعة، و إطلاقالمستفيضة من الأخبار .
ولو كان له بعض النفقة فبذل له البقيّة وجب أيضاً، ولو بذل له نفقة الذهاب فقط ولم يكن عنده نفقة العود لم يجب...».
ثمّ قال: «لا يمنع الدين من الوجوب في الاستطاعة البذلية. نعم، لو كان حالّاً وكان الديّان مطالباً مع فرض تمكّنه من أدائه لو لم يحجّ- ولو تدريجاً - ففي كونه مانعاً أو لا وجهان».