بدل الحيلولة (ثبوته وعدمه)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
بدل الحيلولة (توضيح).
اختلف الفقهاء في ثبوت بدل الحيلولة على الغاصب ومن في حكمه وعدم ثبوته، فذهب
الأكثر إلى ثبوته، وذكروا أنّه يملكه المالك بالأخذ بلا
خلاف فيه،
فله التصرّف فيه كيف شاء إلّاأنّه ملك غير مستقرّ، فلو اتّفق وصوله إلى المبدل رجع البدل إلى الضامن.
قال
المحقّق الحلّي : «إذا تعذّر
تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل، ويملكه
المغصوب منه، ولا يملك الغاصب العين المغصوبة، ولو عادت كان لكلّ منهما
الرجوع ».
وقال
الشهيد الأوّل - بعد
تقسيم الضمان إلى ما يكون بالقوّة وما يكون بالفعل-: «والضمان الفعلي تارةً بعد تلف العين، ولا ريب أنّه مبرء لذمّة الضامن، ويكون من باب
المعاملة على ما في الذمم بالأعيان، وهو نوع من
الصلح ، وتارة مع
بقاء العين؛ لتعذّر ردّها، وهو ضمان في مقابلة
فوات اليد والتصرّف، والملك باقٍ على ملك مالكه».
وفي
المسالك إشعار بالاتّفاق عليه حيث نسب
الحكم إليهم إذ قال: «هكذا أطلقوه».
وذهب بعض المحقّقين إلى عدم ثبوته لعدم تمامية ما استدلّ به عليه. نعم، لمّا فوّت الغاصب منافع العين على المالك يكون ضامناً للمنافع.
ومع عدم تمامية الدليل القاعدة الأوّلية تقتضي
ثبوت العين المغصوبة أو ما في حكمها في عهدة الغاصب بجميع خصوصيّاتها الدخيلة في
المالية إلى زمان التمكّن من أدائها، فلو تلفت العين أو التحقت بالتالف انتقل الضمان إلى المثل أو القيمة، فيكون ذلك بدلًا حقيقياً عن العين، وحينئذٍ فتخرج العين عن ملك مالكها وتدخل في ملك الغاصب. وإذا لم تتلف العين لا حقيقة ولا حكماً، ولكن تعذّر الوصول إليها، فحينئذٍ ليس للمالك إلّامطالبة اجرة العين في مدّة الحيلولة من الغاصب، إلّاإذا رضيا بالبدل، فإنّه على هذا يتحقّق
المعاوضة الشرعية بين البدل والمبدل، فيكون
المدفوع بدلًا حقيقياً عن العين.
واستدلّ على لزوم بدل الحيلولة بعدّة وجوه، وهي:
بتقريب أنّ تكليف المالك
بالصبر إلى أن يعود المال إلى يده ضرر عليه. أو أنّ عدم الحكم بضمان البدل ضرر على المالك. أو أنّ
امتناع الضامن عن
أداء البدل ضرر على المالك.
بأنّ
الاستدلال بهذه القاعدة مبني على
الالتزام بأنّ أدلّة نفي الضرر تشمل الأحكام الوجودية والعدمية، أي أنّها كما تنفي الضرر الناشئ عن حكم
الشارع بشيء كذلك تنفي الضرر الناشئ عن عدم حكمه به، وأنّها تقتضي رفع الحكم في الأوّل وجعله في الثاني، في حين أنّ أدلّة نفي الضرر ناظرة إلى نفي الضرر في عالم
التشريع ، أي الضرر الناشئ من تشريع الأحكام، فهي غير ظاهرة في
تدارك الضرر المتوجّه من غير ناحية تشريع الحكم؛ لأنّ ذلك وإن كان
ممكناً إلّاأنّه لا دليل عليه في مرحلة
الإثبات و
الوقوع ، بديهة أنّ أدلّة نفي الضرر قاصرة عن إثباته.
إلّاأنّ هذا
الإشكال مبنائي، مع أنّ بعض الفقهاء أثبت في بحث
قاعدة لا ضرر أنّها تشمل الأحكام العدمية وتقتضي إثبات الحكم لنفي ضرر لولاه.
إنّ هذه القاعدة إنّما تنفي حكم
الموضوع الضرري لا الحكم الضرري كما في
المقام . وبعبارة اخرى: أنّ الاستدلال بهذه القاعدة مبنيّ على كونها شاملة للحكم الذي ينشأ منه الضرر وعدم اختصاصها بالموضوع الضرري
كالوضوء أو
الغسل الناشئ منه الضرر، والضرر في المقام إنّما ينشأ من عدم جعل
الضمان وليس له موضوع ضرري.
وهذا الإشكال ذكره
السيّد الخوئي في
المحاضرات وأنكره في
المصباح . واجيب عن هذا الإشكال بأنّه مبنائي أيضاً، وقد ذهب بعض المحقّقين إلى شمول القاعدة للحكم الذي ينشأ منه الضرر، وليست مختصة بالموضوع الضرري.
إنّ تضرّر المالك بالصبر إلى زمان الوصول إلى ماله معارض بتضرّر الضامن بردّ بدل الحيلولة، فيتساقطان، وعليه فلا يكون مورد بدل الحيلولة مشمولًا لقاعدة نفي الضرر. ودعوى أنّ الضامن قد أقدم بنفسه على الضرر فلا يعارض بضرر المالك فاسدة؛ ضرورة أنّ الضامن لم يقدم إلّاعلى ضمان العين فقط، لا على ضمان سائر الجهات الخارجة عن العين.
لكن اجيب عنه بأنّ هذا
الكلام لا يأتي بشأن الغاصب؛ لأنّ (لا ضرر)
منصرف عنه وعن أيّ شخص يكون إجراؤه بشأنه
تشجيعاً له في
ارتكاب الحرام.
أنّ لازم
التمسّك بلا ضرر لثبوت بدل الحيلولة ثبوته حتى فيما إذا كانت الحيلولة بتبعيد المالك وحبسه في مكان يتعذّر الوصول إليه إلى مدّة يتضرّر بذلك ولم نجد أحداً استدلّ بالقاعدة على ذلك، (ذكر هذا الإشكال السيّد الخوئي في
محاضرات فيالفقه الجعفري وعدّه مؤيّداً لعدم الدليل على ثبوت بدل الحيلولة في
مصباح الفقاهة .)
مع أنّه لا فرق في ذلك بين
حبس المالك عن المال أو حبس المال عن المالك.
وردّ بأنّ الحكم في كلا الموردين سواء، فعلى
الحابس بالدرجة الاولى فكّ ما حبسه- سواء كان
المحبوس مالكاً أو مالًا- وإذا عجز عن رفع الحاجز بين المال والمالك في كلا الموردين، وكان المالك يريد
الاستفادة من بدل المال، كان عليه
تهيئة البدل، والظاهر أنّ
المسألة بهذا الشكل ليست مبحوثة في كلمات الفقهاء حتى يستظهر الاتّفاق على عدم ضمان بدل الحيلولة في فرض حبس المالك وعجزه عن
إرجاعه إلى ماله. ولا نقصد بضمان بدل الحيلولة الضمان بالمعنى المصطلح الذي هو من
الأحكام الوضعية ، بل نقصد به ما يعمّ مجرّد
الوجوب التكليفي لدفع البدل إذا أراد المالك، وقاعدة لا ضرر هنا لا تثبت أكثر من ذلك.
بأنّ
النسبة بين حديث لا ضرر وبين موارد بدل الحيلولة هي
العموم من وجه ، فإنّه قد يتضرّر المالك إذا حيل بينه وبين عين ماله في مدّة قصيرة- كيوم أو يومين أو أقل من ذلك- ولم يلتزموا فيه ببدل الحيلولة، وقد لا يتضرّر المالك بالحيلولة في مدّة طويلة لعدم الحاجة إلى ماله مع أنّهم حكموا هنا بلزوم بدل الحيلولة، وعليه لا يصحّ الاستدلال بلا ضرر.
واجيب عنه بالالتزام بالضمان في الشقّ الأوّل متى ما صدق الضرر، وأمّا بالنسبة للشقّ الثاني فلو قلنا: إنّ عدم
اهتمامه بالمال المحجوز لا يمنع عن صدق الضرر فلا إشكال، ولو قلنا: إنّه يمنع عن صدق الضرر أصبح الدليل أخصّ من المدّعى ولكن لا يبطل
الدليل من أساسه.
وتقريب الاستدلال بها، إمّا بدعوى السلطنة على مطالبة العين
للتوسّل بها إلى مطالبة البدل أو أخذه. أو بدعوى أنّ للعين شؤوناً ثلاثة: من حيث الشخصية ومن حيث
الطبيعة النوعية ومن حيث المالية، وتعذّر مطالبة الاولى لا يمنع عن مطالبة غيرها، فالسلطنة على العين وإن كانت ممنوعة بالتعذّر، إلّاأنّ السلطنة على ماليّتها غير ممنوعة، فيجب على الضامن ردّ البدل؛ حفظاً لسلطنة المالك على ماليّة ماله.
أو بدعوى أنّ السلطنة على
الانتفاع بماله تقتضي جواز المطالبة ببدل ماله لينتفع به. ونوقش في الاستدلال بهذه القاعدة بوجوه:
أنّ النبوي ضعيف سنداً
بالإرسال وغير
منجبر بشيء.
ما ذكره
السيّد اليزدي من أنّ قاعدة السلطنة على فرض دلالتها على جواز مطالبة البدل ساكتة عن كون ذلك على وجه
الغرامة أو
الإجبار على المعاملة، فلا تعيّن جواز الأخذ من باب الغرامة فيمكن أن يقال: غاية ما يستفاد منها جواز مطالبة مالية المال ولو بالمصالحة أو البيع، فيجبر الغاصب على
المصالحة إن أرادها المالك لا أن يأخذ الغرامة ليبقى الإشكال في الجمع بين العوض والمعوّض. ودعوى أنّه إذا جاز أخذ قيمة المال فلا دليل على تعيين كونه بعنوان المعاملة، بل يجوز بعنوان الغرامة أيضاً مدفوعة بأنّ لسان القاعدة إذا صارت
مجملة ساكتة عن الكيفية،
فالقدر المتيقّن هو ما إذا كانت بعنوان أحد المعاملات، مع أنّه يمكن معه التمسّك بعموم قوله تعالى: «لَاتَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ
تِجَارَةً ».
ويؤيّد ذلك أنّه جمع بين حقّي المالك والغاصب؛ إذ مقتضى جواز الأخذ بعنوان الغرامة بقاء العين على ملك مالكها أيضاً، فيلزم دفع الغاصب العوض مع عدم صيرورة المعوّض ملكاً له، وهذا
مستلزم للجمع بين العوض والمعوّض، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ اللازم إجباره على شراء العين أو المصالحة مع المالك. بل يمكن دعوى عدم استفادة أخذ البدل منها أصلًا، فإن أمكن
السعي فعلًا في
تحصيله وجب، وإلّا وجب الصبر إلى أن يحصل، غاية الأمر
لزوم الضرر في بعض الفروض. ويمكن
تداركه بأخذ الاجرة إن كان له اجرة، وإلّا فلا.
واجيب عمّا ذكره قدس سره من
إمكان إجبار الضامن على المصالحة أو
البيع بأنّ دليل السلطنة قاصر عن إثبات ذلك.
ما ذكره المحقّق الأصفهاني بقوله: إنّ الاستدلال بقاعدة السلطنة لا يخلو عن محذور؛ أمّا السلطنة على مطالبة العين للتوسّل إلى
أخذ البدل، فإن اريد منها فيما إذا كان ردّ العين ممكناً بالسعي في مقدّماته، فلازمها جواز إلزام الغاصب بردّ ماله، فيجب عليه تحصيله بالسعي في مقدّماته ولا يجب عليه دفع البدل، وإن اريد منها فيما إذا لم يمكن ردّ العين وتحصيلها، وإن أمكن حصولها فيما بعد، فالسلطنة على مطالبة العين وجواز مطالبتها لغو، حيث لا يتمكّن من ردّها.
وأمّا السلطنة على مطالبة مالية ماله؛ نظراً إلى أنّ عين ماله ذات شؤون ثلاثة من حيث الشخصية ومن حيث الطبيعة النوعية ومن حيث المالية،
فاستحالة مطالبة الاولى لا يمنع عن مطالبة الباقي؛ ففيه أنّ حيثية مالية ماله القائمة به متعذّرة بتعذّره، والمالية القائمة ببدله حصّة اخرى من المالية، فالسلطنة على مطالبتها سلطنة على مطالبة مال الغير لا على مال نفسه.
ففيه:
أوّلًا: أنّ تلك السلطنة الشخصية على
الانتفاع بماله متعذّرة بتعذّره، والسلطنة على الانتفاع بالبدل المدفوع سلطنة اخرى، ليس للمالك مطالبتها إلّابعد
استحقاق البدل وهو أوّل الكلام.
وثانياً: أنّ المراد من السلطنة على الانتفاعات إن كانت السلطنة الشرعيّة المتحقّقة تارة
بالترخيص في التصرّفات، واخرى
بإنفاذها، فهذه سلطنة مجعولة بنفس قاعدة السلطنة، فيكف تعمّ نفسها
؟
ما ذكره السيّد الخوئي من أنّ دليل السلطنة إنّما يثبت السلطنة للمالك فيما يجوز له التصرّف في ماله، وأنّه غير محجور عليها، ولا
دلالة فيه على إثبات السلطنة له في التصرّفات غير السائغة في ماله.
أو قل: غاية مفاده جواز تصرّف المالك في ماله خارجاً أو
اعتباراً وضعاً وتكليفاً، ومن مصاديقه مطالبة الضامن بعين ماله، وأمّا المطالبة بما هو مغاير لماله من البدل فهي أجنبية عنه رأساً.
وعلى هذا يجوز للمالك أن يطالب ماله من الغاصب بمقتضى دليل السلطنة، وأمّا جواز مطالبة بدل الحيلولة مع عدم كونه تالفاً في اعتبار
العقلاء فلا.
مع أنّ النسبة بين دليل السلطنة وموارد البدل هي العموم من وجه، وحينئذٍ فلا يصحّ الاستدلال به على ثبوت بدل الحيلولة في جميع الموارد، بل إنّما يصحّ في بعض الموارد وعلى سبيل
الإيجاب الجزئي.
ما ذكره
السيّد الخميني من الفرق بين ضمان العين التالفة تحت يد الغاصب ونحوه والعين الموجودة كما في الحيلولة، فإنّ الاولى مضمونة عليه يجب
أداء مثلها أو قيمتها وذمّته مشغولة بمال المضمون له، بينما العين في زمان وجودها ليست مضمونة بهذا النحو وإنّما عليه عهدة أدائها، فليس في زمان وجودها مال على ذمّة الضامن يكون موضوعاً لدليل السلطنة، وإنّما موضوعه المال الخارجي، وسلطنته عليه لا تقتضي السلطنة على الغير ولا على ماله، بل لو خرجت العين عن تحت
استيلاء الضامن- بوقوعها تحت يد اخرى، أو وقوعها في البحر- لا يصلح دليل السلطنة لإيجاب ردّها إلى صاحبها؛ لقصوره عن إثباته.
نعم، ما دام كونها تحت يده يصحّ التمسّك بدليلها للإلزام
بإخراجها عن تحت يده؛ لأنّ
إطلاق السلطنة يقتضي دفع المزاحمات لسلطانه. وأمّا لزوم
استرجاعها إلى يد المالك فليس مفاد دليلها.
بدعوى أنّ الغاصب قد فوّت سلطنة المالك على ماله في موارد بدل الحيلولة، فحيث إنّه قادر على
إعادة تلك السلطنة بعينها، فلابدّ له من إعادة مثلها، ومن الواضح أنّ هذا لا يمكن إلّابأداء بدل الحيلولة.
وفيه: أوّلًا: أنّ التمسّك بهذا يقتضي الحكم بلزوم البدل فيما كان تعذّر الوصول إلى المال من جهة حبس المالك ومنعه عن التصرّف فيه، مع أنّ القائلين ببدل الحيلولة لم يلتزموا بذلك. وثانياً: أنّه إن كان
المراد من فوت السلطنة فوت منافع العين فلا شبهة في كونها مضمونة على الغاصب، كما أنّ نفس العين مضمونة عليه، ولكن هذا بعيد عن بدل الحيلولة.
وإن كان المراد من ذلك فوت السلطنة على العين فلا دلالة في القاعدة على كون السلطنة الفائتة مضمونة على الغاصب؛ بداهة أنّ مفاد القاعدة هو أنّ العين التالفة مضمونة على المتلف دون سائر الجهات. يضاف إلى ذلك كلّه أنّ هذه القاعدة ليست بمدلول
آية أو
رواية لكي نتمسّك بإطلاقها، بل هي متصيّدة من أدلّة الضمان الواردة في موارد خاصة، وعليه فلابدّ من
الاقتصار على الموارد المتيقّنة؛ وهي نفس العين التالفة.
كالروايات الواردة في ضمان
الودعي و
المستبضع و
المستعير و
المستأجر ، الدالّة بمفهومها أو منطوقها على ضمان العين إذا لم يتمكّن من ردّها إلى المالك، سواء كان بسبب التلف الحقيقي، أم بعدم الظفر بها، كما إذا أبق العبد أو سرق
المتاع أو ضاعت
الوديعة أو نحوها.
ومن تلك الروايات معتبرة
محمّد بن مسلم عن
أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن
العارية يستعيرها
الإنسان ، فتهلك أو تسرق، فقال: «إن كان
أميناً فلا غرم عليه»،
فإنّ مفهومها الضمان بدون الأمانة، بلا فرق بين التلف الحقيقي المعبّر عنه
بالهلاك وبين الحكمي؛ لتعذّر الوصول إليها لسرقة أو ضياع، كما هو مورد البحث في بدل الحيلولة.
ورواية
محمّد بن علي بن محبوب ، قال: كتب رجل إلى
الفقيه عليه السلام في رجل دفع إلى رجل وديعة، وأمره أن يضعها في منزله أو لم يأمره، فوضعها الرجل في منزل جاره فضاعت، هل يجب عليه إذا خالف أمره أو أخرجها من ملكه؟ فوقّع عليه السلام: «هو ضامن لها إن شاء
اللَّه تعالى».
فإنّها بمنطوقها تدلّ على لزوم بدل الحيلولة، كما في
مفهوم الرواية الاولى.
ونوقش فيه بأنّ هذا الدليل أخص من المدّعى؛ إذ لا يمكن إثبات مدّعى
المشهور بهذه الروايات؛ لأنّ موضوعها الضياع، والضياع هو التلف، فلا يصدق على تعذّر الوصول إلى المال عنوان الضياع، ولا أقل من الشبهة المفهومية حيث نشكّ في صدق عنوان الضياع على المال الذي يتعذّر الوصول إليه. وما أفتى به الفقهاء هو فيما إذا كانت الخشبة المغصوبة موضوعة في جدار
السفينة ، ولا يمكن قلعها ونزعها، فهي تكون مضمونة ببدل الحيلولة قبل الوصول إلى اليابسة، مع أنّ الخشبة غير تالفة. وبتعبير آخر: أنّ الروايات تدلّ على الضمان بالتلف العرفي، ومدّعى المشهور حصول الحيلولة مع العلم بحصول المال بعد مدّة كثيرة أو قليلة أو رجاء حصوله أو نحو ذلك ممّا لا يصدق معه التلف العرفي.
لكن قد يقال: إنّ المذكور فيها التلف والضياع والسرقة فهي لا تختصّ بالتلف.
إنّ في إثبات بدل الحيلولة جمعاً بين الحقّين؛ لأنّ إلزام الضامن بالعين مع تعذّرها ظلم له، كما أنّ حرمان المالك عن ماله ظلم له أيضاً، فالجمع بين الحقّين يقتضي الزام الضامن بدفع البدل مع الحكم برجوعه إليه عند التمكّن من العين كما هو المفروض.
وفيه: أنّ هذا يتوقّف على كون مجرّد وضع اليد على العين مع بقائها موجباً لتعلّق حقّ فعليّ بالبدل للمالك على الغاصب، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد، حتى بناء على القول بأنّ
المدار في القيمي على يوم المخالفة؛ لأنّه ليس معناه فعلية الضمان بالقيمة والعين، بل فعليته بالنسبة إلى القيمة مشروطة بالتلف، غاية
الأمر تلاحظ قيمة يوم المخالفة، وأمّا بدون تلف العين فلا حقّ له إلّاعلى العين.
مع أنّ العين
بالإضافة إلى قيمتها أو مثلها ليست من قبيل الأكثر إلى الأقلّ ليرفع المالك يده عن الزيادة ويطالب بالأقلّ، بل بالإضافة إلى بدلها من المتباينين، ولذا لا يحقّ له المطالبة ببدل العين مع بقائها وتيسّر ردّها.
بتقريب أنّ على اليد يقتضي كون الضامن ضامناً للمأخوذ بجميع خصوصيّاته الشخصية والنوعيّة والمالية والصفات والسلطنة، فإذا كان ماليّته في عهدته فإطلاقه يقتضي عدم الفرق بين أن يكون التعذّر دائمياً أو مؤقّتاً.
وبعبارة اخرى: أنّ
قاعدة على اليد تقتضي لزوم أداء المأخوذ بما له من الخصوصيّات الشخصيّة، فإذا تعذّر ردّ العين وجب ردّ مثلها أو قيمتها، وهذا معنى بدل الحيلولة.
واورد عليه: أوّلًا: أنّ
الحديث ضعيف السند، وغير منجبر بشيء، وهذا الإشكال مبني على أنّ عمل المشهور برواية ضعيفة لا يوجب اعتبارها و
جبران سندها.
ثانياً: أنّه لو جاز التمسّك به لما يفرق فيه بينما كانت مدّة التعذّر قليلة أو طويلة، مع أنّ الفقهاء لم يلتزموا ببدل الحيلولة في الصورة الاولى.
ثالثاً: أنّ قاعدة ضمان اليد تدلّ على ثبوت العين في عهدة الغاصب بجميع خصوصياتها الفردية والصنفية والنوعية التي هي دخيلة في المالية، وعليه فلو كانت العين موجودة لزم ردّها عيناً، وإذا تلفت حقيقة أو صارت بحكم التلف- كالسرقة و
الإباق - انتقل الضمان إلى المثل أو القيمة فيما إذا تعذّر
المثل . وأمّا إذا لم يوجب التعذّر التحاق العين بالتالف، فإنّه حينئذٍ ليس للمالك مطالبة البدل، ولا للغاصب أداء غير العين المغصوبة إلّامع
التراضي .
نعم، يجوز للمالك أن يطالب بالمنافع الفائتة، فيكون المأخوذ بإزاء تلك المنافع، ولا شبهة في أنّ هذا كلّه غير مربوط ببدل الحيلولة، فلا وجه لإثباته بحديث اليد.
وبعبارة اخرى: أنّ على اليد ظاهر في الحكم الوضعي، وأنّه إذا استولى شخص على مال الغير فهو ضامن له، بمعنى أنّ عينه إن كانت موجودة وجب ردّها، وإن تلفت وجب تداركها بأداء المثل أو القيمة، وأمّا دفع بدل الحيلولة مع فرض بقاء العين فلا يستفاد منه.
إلّاأن يقال: إنّه بمناسبة الحكم والموضوع يستفاد عرفاً من الحديث أنّ الآخذ إمّا يجب عليه ردّ المأخوذ بشخصه، وإمّا ما يصدق عليه أنّه أداء له ما لم يتمكّن من ردّ شخصه، ولا يرى العرف فرقاً بين التلف والتعذّر من حيث الدلالة للحديث، فإنّ
استقرار العين في عهدة الضامن يقتضي أن يخرج من تبعات ماليته. نعم، إذا كان زمان التعذّر قصيراً جدّاً فليست هذه المناسبة متحقّقة، كما أنّه لا يصدق الضرر أيضاً.
وربما تقرّر دلالتها بأنّ الظاهر منها بمناسبة غايتها أنّ المأخوذ بنفسه في عهدة ذي اليد، و
العهدة مع وجود العين تكليفية، ومع عدمها مالية، يجب تداركها بحصّة مماثلة لها، وعند تعذّر ردّها وعدم تلفها لا تكون عهدة التكليف ولا عهدة تدارك نفسها، حيث إنّها غير تالفة، فلو لم يجب تداركها من حيث فوات السلطنة على الانتفاعات بها، كان اعتبار عهدتها فعلًا لغواً، فالالتزام بكونها في العهدة فعلًا يقتضي الالتزام
بأثر لها فعلًا.
ونوقش فيه: بأنّ اعتبار العهدة في باب الضمانات لا يكون اعتبارات كثيرة في كلّ حال وآنٍ لها بحسبها غايات وآثار، بل لابدّ وأن لا يكون اعتبار الأمر الوضعي بحسب الجعل القانوني لغواً، وإلّا يلزم سقوط
الدين عن ذمّة المديون لو فرض عدم قدرته على الأداء في برهة من الزمان. مع أنّ الأثر لا يجب أن يكون بدل الحيلولة، بل للعهدة آثار اخر، منها: جواز المصالحة، وجواز أخذ الاجرة، وغير ذلك.
وقرّب
السيّد الإمام الخميني دلالة القاعدة في المقام بنحو آخر، وهو: أنّ دليل اليد مثبت لضمان اليد بالنسبة إلى ما أخذت، ولا ينبغي الإشكال في أنّ موضوع الضمان عند العقلاء ليس
منحصراً بالتلف، بل الموضوع عندهم
إزالة سلطنة المالك عن ماله، بحيث لا يمكنه الوصول إلى ماله، ولذا لو أخذ قاهر مال زيد من يد الغاصب، كان الغاصب ضامناً له، مع عدم
إمكان أخذ ماله من القاهر وإن لم يتلف المال بعد،
فالميزان بنظر العقلاء هو الحيلولة وإزالة سلطنة المالك عن ماله، بحيث لا يمكنه الوصول إليه.
وبهذا التقريب يمكن إثبات ضمان بدل الحيلولة، بل أنّ الضمان في جميع الموارد هو ضمان الحيلولة؛ لعدم خصوصية في
الإتلاف والتلف ونحوهما من العناوين.
ولعلّه إلى هذا يرجع ما ذكره أحد الفقهاء المعاصرين من أنّه يمكن الاستدلال لإثبات بدل الحيلولة
بالارتكاز العقلائي الممضى بعدم
الردع .
الموسوعة الفقهية، ج۲۰، ص۱۴۵-۱۵۷.