الأخرس
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو
أبكم ، انعقد لسانه عن الكلام،عجز عن الكلام خِلْقَة أوعِيًّا أو لسبب آخر.
الأخرس- وزان أفعل- صفة من به الخرس، وهو ذهاب النطق خلقة أو عيّاً،
وفي
الجمهرة : «
انعقاد اللسان عن الكلام».
والأنثى خرساء،
يقال: خرس فلان فلم يتكلّم،
وخرس خرساً فهو أخرس.
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللفظ عن المعنى المذكور.
وهو الأخرس الذي لا يتكلّم،
وقيل: هو الأخرس بالولادة، فكلّ أبكم أخرس، وليس كلّ أخرس أبكم،
وقيل: هو من للسانه نطق، ولا يعقل الجواب أو لا يحسن وجه الكلام.
وربّما قيل للممتنع عن الكلام جهلًا أو تعمّداً أيضاً،
إلّا أنّ
الراغب جعله تشبيهاً بالأبكم،
وقيل: البكم ما جمع عدم النطق والسمع والبصر
بالولادة .
وهكذا يرادف الأخرس
الأبكم بمعناه الأوّل، ويعمّه وغيره بالثاني والخامس، ويباينه بالثالث والرابع.
العيّ: عجز يلحق من تولّى
الأمر والكلام.
يقال: عيّ فلان في منطقه إذا عجز عنه، وحُصِر، ولم يهتدِ لوجهه،
والعييّ كالعيّ معنى.والفرق بينهما وبين الأخرس: أنّ الأخرس يختصّ بالعاجز عن الكلام، والعيّ يعمّه وغيره، والأخرس- في اللغة- يعمّ في العجز عن الكلام العيّ- الذي يحصر، ولا يهتدي لوجه الكلام مع قدرته عليه- وغيره العاجز عن الكلام لخلقةٍ، فبين المعنيين عموم وخصوص من وجه.
هو عروض العجز وعدم القدرة على الكلام،
فهو بمعنى العَيّ إلّا أنّه يختصّ بالكلام دونه، ويفارقه في أنّ سبب العجز فيه بدنيّ، وفي العيّ روحيّ.وحيث كان كذلك فالخرس أعمّ من
اعتقال اللسان؛ لشموله العجز خلقةً.
تتعلّق كثير من عبادات المكلّف وعقوده وإيقاعاته وتصرّفاته نظير الصلاة والحجّ
والبيع ، والنذر
والنكاح والقذف واليمين
والشهادة بأقواله.والأخرس لمّا فرض عجزه عن الكلام فإنّ القواعد العامّة بحقّه تقتضي في التكاليف المنوطة باللفظ سقوط
اعتبار اللفظ فيها أو سقوط
أصل التكليف عنه، وذلك تطبيقاً للقاعدة العقليّة القائلة باستحالة التكليف بغير المقدور، وفي العقود والإيقاعات
بطلانها ؛ لأنّها أسباب للآثار المطلوبة منها، وتأثيرها منوط بوجودها التامّ الجامع لجميع الأجزاء والشرائط بما فيها الألفاظ المعتبرة بناءً على اعتبارها فيها شرعاً وعرفاً، وتأثير الناقص الخالي من بعضها ولو لعذرٍ كالخرس أو تأثير غيره بحاجة إلى دليل، فمع عدمه لا يترتّب الأثر المطلوب وهو معنى البطلان. ولذلك فإنّ فعل الأخرس الخالي من اللفظ فيما اعتبر فيه ينبغي أن يكون باطلًا، ولا بدّ من تولّي الغير- وليّاً أو وكيلًا- له نيابة عنه، إلّا أن يقوم دليل على صحّته خالياً من اللفظ، أو منضمّاً إليه أمر آخر غير اللفظ ممّا يقوم مقامه.ولكنّ المعروف بل المتسالم عليه بين الفقهاء صحّة أفعال الأخرس في أكثر هذه الموارد وقيام إشارته أو هي مع لوك لسانه مقام النطق باللفظ. بل صرّح بعض الفقهاء بقيام
إشارة الأخرس مقام اللفظ في جميع الأبواب.
قال
الشيخ جعفر كاشف الغطاء : «فقد أقام الشارع- وله الحمد- إشارة الأخرس في أقواله في عباداته ومعاملاته وأحكامه ونذوره وعهوده وأقسامه، بل مطلق العاجز عن الكلام مقام الكلام».
وقال
السيد المراغي : «إشارة الأخرس قائمة مقام اللفظ في جميع أبواب
الفقه ، كما في قراءته وتلاوته وذكره في صلاته وفي غيرها وتلبيته، وعقوده وإيقاعاته من
إقرار أو طلاق أو غير ذلك. وبالجملة: كلّ مقام يعتبر فيه اللفظ يقوم في الأخرس الإشارة مقامه».
وهذا الحكم بالصحّة على فعل الأخرس وإشارته، سواء كان عبادة أو
معاملة - عقداً أو إيقاعاً- أو غيرهما يقوم بشكل عام على أساس أحد طريقين:
الأوّل: وقوع فعله وإشارته مصداقاً لعناوين الأفعال المأخوذة في لسان النصوص العامّة أو الخاصّة حقيقةً وعرفاً، بحيث يصدق عليه حقيقة تلك العناوين، ويصدق هذا في المعاملات بالمعنى الأعم كالإقرار والشهادة والبيع
والعتق والطلاق ونظائرها، وقد يصدق في غيرها أيضاً.
الثاني:
استفادة التوسعة من الأدلّة الشرعيّة العامّة أو الخاصّة، وأنّ فعل الأخرس وإشارته أو لوك لسانه يقوم مقام النطق في غير الأخرس، سواء كان لسان هذه التوسعة لسان التنزيل والحكومة أو لسان التعميم
والإلحاق .وفيما يلي نتعرّض لأهمّ ما تعرّض له الفقهاء من الأحكام المتعلّقة بالأخرس:
•
معاملات الأخرس،تقوم إشارة
الأخرس مقام عبارته في معاملاته إذا كانت مفهمة لقصده
وإنشائه ، كما تقوم كتابته المستبينة المرسومة مقام عبارته فيها، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء في الجملة.
•
عبادات الأخرس،وكما تقوم إشارة
الأخرس مقام عبارته في معاملاته كذلك تقوم مقامها في أفعاله العباديّة المتعلّقة باللفظ كالصلاة
والتلبية والأذكار وغيرها، إلّا أنّ اللازم هنا زائداًعلى النطق تحريك اللسان ولوكه.
لا إشكال في صحّة شهادة الأخرس وحجّيتها إذا كانت بإشارة ودلالة مفهمة مستبينة، وكان ممّا يمكن له تحمّلها وحصول العلم له بها؛ لصدق الشهادة على
إفادة ذلك لغة وعرفاً؛ فإنّ اللفظ في باب الشهادة ليس إلّا مجرّد كاشف عن علم الشاهد
واطّلاعه الحسّي على المشهود به.وهذا لا خلاف فيه عند فقهائنا وإن خالف فيه بعض فقهاء الجمهور، قال
الشيخ الطوسي : «وأمّا الأخرس فيصحّ منه التحمّل، بلا خلاف؛ لأنّه يفتقر إلى العلم دون النطق، فأمّا
الأداء فقال قوم:لا يصحّ، وقال آخرون تصحّ شهادته، وهو الذي يقتضيه مذهبنا».
وقال أيضاً: «يصحّ من الأخرس تحمّل الشهادة، بلا خلاف... وعندنا يصحّ منه الأداء».
وقال
العلّامة الحلّي : «وتقبل في ذلك شهادة الأصم والأخرس إذا عرفت إشارته».
ومثلها عبارات سائر الفقهاء.
ومنه يعرف صحّة إقراره بالإشارة المفهمة أيضاً وحجّيته فيما يكون الإقرار حجّة فيه؛ لأنّه متقوّم بالكشف عمّا يشهد به على نفسه.قال العلّامة الحلّي: «ويقبل إقرار الأخرس (في الزنا) إذا أقرّ أربعاً وفهمت إشارته».
ومنه يعرف لزوم تكرار الإشارة في كلّ مورد اعتبر فيه تكرار الشهادة أو الإقرار على القاعدة.
•
لعان الأخرس،إذا قذف الزوج زوجته بالزنا أو نفى عنها المولود على فراشه ثبت حكم
اللعان بينهما، والمشهور عدم الفرق بين كون الزوج صحيحاً أو أخرس إذا كانت له
إشارة مفهومة.
تقدّم فيما سبق البحث عن كيفيّة [[|استحلاف]] الأخرس في الدعاوى والمرافعات وأنّه يكتفى بإشارته، والبحث هنا عن كيفيّة
انعقاد يمين الأخرس ونذره على فعل أو ترك وترتيب الحنث والكفّارة على مخالفته، حيث يشترط في انعقادهما وترتيب تلك الآثار الشرعيّة عليها اللفظ المخصوص- على ما دلّت عليه الروايات الخاصّة- وعدم انعقادهما بغير ذلك، وهي آثار شرعيّة تعبّدية وتأسيسيّة. ومن هنا قد يشكل في انعقادهما بالإشارة.إلّا أنّ المستظهر من إطلاق كلمات الأصحاب- والتي تقدّم جملة منها-
الاكتفاء في يمين الأخرس بالإشارة أيضاً.
بل تقدّم في عبارة المبسوط أنّ القائلين بعدم قبول لعان الأخرس وقذفه أيضاً قالوا بقبول يمينه، وإطلاقه يشمل عقد
النذر أيضاً. نعم، لا بدّ وأن تكون الإشارة إلى اسم من أسماء اللَّه تعالى التي ينعقد بها اليمين، وكذلك في النذر ولو بأن يكتب فيشير إليه الأخرس، فاشتراط اللفظ الخاصّ في اليمين أو النذر لا يمنع عن قيام الإشارة مقامه فيمن لا يتمكّن من النطق باللفظ؛ لأنّ هذه الأمور حقيقتها أفعال قصديّة إنشائيّة والألفاظ ليست إلّا مبرزات لتلك المعاني الإنشائيّة، واعتبار خصوصيّة لفظيّة فيها بالأدلّة الخاصّة إنّما تكون من جهة صراحة الدلالة أو شرافتها لا أكثر، فيمكن أن تقوم الإشارة الصريحة ممّن لا يتمكّن من النطق مقامها على القاعدة. مضافاً إلى بعض ما تقدّم من الأدلّة الأخرى في بحث تصرّفات الأخرس.ثمّ إنّ هنا بحثاً آخر في تحقّق حنث اليمين أو النذر بإشارة الأخرس أو كتابته فيما إذا كان قد نذر أو حلف على عدم التكلّم، وسيأتي تفصيله في بحث مقبل.
يتحقّق
الإسلام من الكافر
بالإذعان قلباً والنطق بالشهادتين لساناً إن كان قادراً على النطق بها، فإن كان عاجزاً عن النطق لخرس فإنّه يكتفى في إسلامه بالإشارة المفهمة.قال الشيخ في المبسوط: «الأخرس إذا كان له إشارة معقولة فوصف الإسلام بها فهل يقتصر على مجرّد ذلك أو يحتاج أن يصلّي؟ منهم من قال: يكفي مجرّد الإشارة، وهو الذي يقتضيه مذهبنا، ومنهم من قال: لا بدّ مع الإشارة من الصلاة».
وقال المحقّق في
الشرائع : «وإذا بلغ المملوك أخرس وأبواه كافران فأسلم بالإشارة حكم بإسلامه وأجزأ».
وقال العلّامة في
القواعد : «ويكفي إسلام الأخرس المتولّد من كافرين بالإشارة بعد بلوغه»،
ومثله عبائر الآخرين.والوجه فيه ما تقدّم أيضاً من أنّ العبارة والنطق في أمثال هذه الموارد إنّما هي
لإبراز القصد أو الاعتقاد والإذعان القلبي،واشتراط لفظ خاصّ فيه- لو ثبت- لا يمنع من
إمكان الإشارة إليه من قِبل من لا يتمكّن من النطق، وهو الأخرس والاكتفاء منه بذلك.
هذا مضافاً إلى ما روي أنّ رجلًا جار إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه جارية أعجميّة أو خرساء فقال: يا رسول اللَّه عليّ عتق رقبة فهل تجزي هذه؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«أين اللَّه؟» فأشارت إلى السماء، ثمّ قال لها: «من أنا؟» فأشارت إلى أنّه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: «اعتقها فإنّها مؤمنة».
نعم، لو كانت الإشارة غير مفهمة فقد اشترط بعضهم
اقترانها بالصلاة لتكون قرينة على
إرادة الدخول في الإسلام،
وأضاف بعضهم أنّ الأولى للأخرس أن يحرّك لسانه أو يضيف الكتابة زائداً على الإشارة.
المعروف بين فقهائنا صحّة تصدّي الأخرس للقضاء إذا كان واجداً لشرائطه، وخالف في ذلك بعض الفقهاء فاشترطوا كمال الخلقة في القاضي، بل صرّح بعضهم باشتراط انتفاء الخرس.قال
الشهيد في
الدروس : «ويشترط في القاضي المنصوب
البلوغ والعقل... وانتفاء الخرس. أمّا الصمم فلا يمنع من القضاء مطلقاً».
إلّا أنّ المشهور بين الفقهاء عدم اشتراط ذلك إذا كان متمكّناً من
القضاء وإنشاء الحكم ولو بالإشارة أو الكتابة؛ تمسّكاً بإطلاق أدلّة القضاء. وتفصيله في موضعه.
المشهور بين قدامى الفقهاء حلّيّة ذبيحة الأخرس إذا كان معتقداً لوجوب التسمية وإن لم يسمّ.قال الشيخ الطوسي: «ولو ذبح الأخرس حلّ أكله وإن لم يذكر اسمه إذا كان معتقداً لوجوب ذلك».
وقال ابن إدريس: «ولا بأس بذباحة الأخرس إذا كان محقّاً».
لكنّ العلّامة الحلّي ومن جاء بعده اشترطوا تحريك لسانه
بالتسمية ، قال:«وكذا تحلّ ذبيحة المرأة... والأخرس...والأخرس يحرّك لسانه».
وقال أيضاً: «والأخرس تجوز ذباحته وإن لم ينطق؛ لأنّ النطق ليس شرطاً. نعم، يجب تحريك لسانه بالتسمية؛ لأنّها شرط عندنا».
وقال الشهيد: «وتحلّ ذبيحة المميِّز...والأخرس».
وقال الشهيد الثاني: «الأخرس إن كان له إشارة مفهمة حلّت ذبيحته، وإلّا فهو كغير القاصد».
وخالف فيه المحقّق النراقي حيث شكّك في قيام إشارة الأخرس مقام التسمية في الذبح، قال- بعد نقله كلام الشهيد الثاني-:«إن عمّم ذكر اسم اللَّه بحيث يشمل التذكّر القلبي لكان ما ذكره حسناً، ولكن لازمه الاكتفاء به في الناطق أيضاً، ولم يقُل به أحد.وإن خصّ باللفظي- كما هو المستفاد من الأخبار، بل هو حقيقة التسمية المأمور بها في الأخبار، بل في بعضها: «ويقول بسم اللَّه على أوّله وآخره»، وفي بعضها:«سمعته يقول» - فلا وجه للاكتفاء بإشارة الأخرس، وقيامها مقام اللفظ في بعض المواضع بدليل لا يثبت الكلّيّة، فالأقوى عدم حلّيّة ذبيحته إلّا أن يثبت عليه إجماع، ولم يثبت بعد».
إلّا أنّه تقدّم أنّ أخذ اللفظ عموماً أو لفظ خاصّ لا يمنع عن قيام الإشارة مقامه في حقّ العاجز عن اللفظ على القاعدة إذا كان اللفظ مأخوذاً بما هو دالّ. هذا مضافاً إلى أدلّة أخرى تقدّمت في بحث تصرّفات الأخرس.
قد يحرم الكلام لوقوعه مصداقاً لبعض الأفعال المحرّمة مثل
الغناء ،
والغيبة ، والكذب، والفحش، والقذف، والهجو، والحنث بالحلف، والنذر، والعهد على عدم الكلام، وغير ذلك.وإذ أثبت الشارع للإشارة وتحريك اللسان والكتابة ما للكلام من الأحكام في العبادات والعقود والإيقاعات فقد يقال بوقوعها مصداقاً لهذه العناوين المحرّمة إذا صدرت من الأخرس بقصدها، وهو ما ذهب إليه بعض الفقهاء.
قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء: «ولو قصد الدعاء المحرّم بتحريكه أو الكلام أو الغناء أو الغيبة أو الكذب أو
الفحش أو
القذف أو نحوها جرى عليه حكمه...».
وقال في موضع آخر: «إشارة الأخرس في أقواله في عباداته ومعاملاته وأحكامه ونذوره وعهوده وأقسامه، بل مطلق العاجز عن الكلام مقام الكلام، فالإشارة في بيعه
ومعاطاته وإجاراته ووقفه وهبته ونكاحه وطلاقه وقذفه وكذبه وغيبته وغنائه وهكذا على نحو واحد... ولو قصد
الرياء في إشارته الآتي بها عوضاً عن الذكر الواجب عليه أو قراءته فلا تأمّل في فساد صلاته».
وقال الشهيد في الدروس: «قاعدة:
التكليم لا يتناول الرمز... وكذا لا يتناول المكاتبة والمراسلة. نعم، في حقّ الأخرس يحتمل نفوذ الإشارة بل
والمكاتبة ، وعليه يتفرّع
بطلان صلاة الأخرس برمزه».
وقال
الفاضل الاصفهاني في من حلف على ترك التكلّم: «واحتمل حنث الأخرس بالإشارة والمكاتبة».
لكن يناقش ما ذكر بأنّ إشارة الأخرس وكتابته ليست كلاماً حقيقةً، فلا تكون مصداقاً لما تعلّق به الحرمة إذا كان متعلّقه الكلام واللفظ. نعم، الإشارة بالقذف والكذب والغيبة والهجو والفحش أو تحريك اللسان بها أو الكتابة ببعضها حرام قطعاً، لكن لا من جهة صدق عنوان الكلام عليها، بل لأنّ هذه العناوين كما تتحقّق بالكلام واللفظ تتحقّق بالإشارة أيضاً، بخلاف الحنث بالنذر والعهد والقسم على عدم الكلام فإنّ موضوعها الكلام لا الإشارة. نعم، لو تعلّق النذر والعهد والقسم بعدم الكلام بمعنى عدم المحاورة
والإفهام والتفهيم فهذا معنى أعم متحقّق بإشارة الأخرس أيضاً، فالمسألة مرتبطة بما يستظهر من متعلّق النذر واليمين، فقد يستظهر خصوص التكلّم كما إذا كان الخرس عارضاً بعد انعقاد اليمين أو النذر، وقد يستظهر الأعم حتّى من الناطق.
نعم، الظاهر في النذر أو اليمين الصادرين من الأخرس في حال خرسه إرادة الأعم؛ لعدم إمكان النطق في حقّه ليحتمل إرادته بالخصوص من متعلّق نذره أو يمينه، إلّا إذا أراد مطلق تحريك اللسان
وإخراج الصوت مثلًا. وعلى كلّ حال فالمسألة مربوطة بما يستظهر من ظاهر عقد النذر واليمين، وهو يختلف باختلاف القرائن والمقامات وإن كان عنوان الكلام ظاهراً لغة وعرفاً في اللفظ.وأمّا الغناء- وهو الصوت المطرب- إذا تحقّق بتحريك لسان الأخرس وإظهار الصوت منه فهو، وإلّا فلا يتحقّق بالإشارة.وهذا واضح.قال المحقّق النجفي: «لا يحنث (الناطق) بالكتابة والإشارة لو حلف (أن) لا يتكلّم قطعاً؛ لعدم تسميتهما كلاماً لغةً ولا عرفاً... بل لا يدخل فيه إشارة الأخرس وإن جرى عليه حكم الكلام في كثير من المقامات».
اتّفق فقهاؤنا على أنّه يصحّ عتق العبد الأخرس في الكفّارات؛
لأنّ المدار في العيب الذي لا يصحّ العتق معه ما أوجب
انعتاق العبد على سيّده قهراً مثل العمى والجذام
والإقعاد والتنكيل فلا يحصل الانعتاق فيها دون غيرها.
نعم، خالف
ابن الجنيد الإسكافي في ذلك فذهب إلى عدم
إجزاء عتق فاقد الجارحة كالأخرس،
وسائر الفقهاء على خلافه؛ لإطلاق الأدلّة. والتفصيل موكول إلى محلّه.
إذا قطع الصحيح لسان الأخرس عمداً لم يقتصّ منه به، بل تثبت
الدية ؛ لاشتراط التساوي في سلامة الأعضاء بين الجاني والمجنيّ عليه في قصاصها، فلا يقطع السليم بالمعيب، ويقطع بمثله، كالأخرس إذا قطع لسان مثله عمداً، والناطق إذا قطع لسان مثله عمداً كذلك. والتفصيل موكول إلى محلّه.
المعروف بين فقهائنا
اختلاف دية العضو الصحيح عن المعيب، فدية المعيب من كلّ عضو ثلث ديته صحيحاً مطلقاً، سواء كان العيب فيه بالخلقة أو عارضاً.وما تقدّم طبّقه الفقهاء في الأخرس فأفتوا بأنّ قطع لسانه فيه ثلث دية لسان الصحيح، ولم يفصّلوا بين ما إذا كان الخرس عارضاً أو عن خلقة.
ودليلهم إطلاق بعض الروايات.
وفي مقابل المشهور فصّل بعض الفقهاء- كابن الجنيد الإسكافي- بين ما إذا كان الخرس عن خلقة أو بعرض لا يزول أثره ففيه ثلث الدية، أو بعارض زائل أو يرجى زواله كالمرض ونحوه ففيه الدية كاملة.
واحتمل فريق ثالث- منهم الأردبيلي والخوانساري- ثبوت الدية كاملة في قطع لسان الأخرس الخلقي، وثلثها في غيره.
ودليلهم عليها بعض الروايات الصحيحة
أيضاً.وتفصيل البحث في كلّ ذلك متروك إلى محلّه.
التسبيب إلى الخرس- وهو المعبّر عنه في كلمات الفقهاء بذهاب النطق- تارة يعرض الناطق الفصيح اللسان فيزيل نطقه، وأخرى يعرض المئوف المعيب فيزيل ما كان قادراً عليه من النطق، والفقهاء بحثوا في كلتا الحالتين حيث أفتوا في الأولى بالدية كاملة،
وفي الثانية اختلفوا بين قائل بتمام الدية، وبين قائل بنقصها بمقدار ما كان يسقط من الحروف، أو بمقدارها ومقدار ما كان يبدله بغيرها إلى غير ذلك.
قد تتعلّق بعض الحقوق والأحكام بعنوان الخرس وزوال النطق كما في ثبوت حكم اللعان على الزوجة التي قذفها زوجها، وتدّعي الخرس مثلًا لنفيه أو في ثبوت الدية لمدّعي الخرس بتسبيب الغير مع
إنكار الغير له وغير ذلك، فيقع الكلام في السبيل إلى
إثباته إذا لم تكن بيّنة.وقد أفتى مشهور قدامى الفقهاء إلى زمان المحقّق الحلّي
باختباره بغرز لسانه
بالإبرة فإن خرج منه الدم أسود صُدّق، وإن خرج أحمر كُذّب،
وهو مضمون رواية
الأصبغ بن نباتة عن
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام،
وفي طريقها ضعف.
وأفتى مشهور من تأخّر عنهم بالرجوع إلى
القسامة ،
وربّما جمع بعض الفقهاء بينهما.
وفي الفقهاء من احتمل الاكتفاء باليمين الواحدة،
كما أنّ فيهم من اعتبرها بعد تعذّر الرجوع إلى المتخصّصين وأهل الخبرة.
والمسألة لا تنحصر بذهاب تمام النطق لتختصّ بالأخرس، بل تعمّ من ذهب بعض نطقه. والتفصيل في موضعه.
الموسوعة الفقهية، ج۷، ص۴۲۰-۴۷۵.