الأشهر الحرم
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هي
الأشهر التي حرم
الإبتداء بالقتال فيها وهي
رجب و
ذو القعدة ، و
ذو الحجة ، و
المحرم .
جمع
شهر ، وقد تقدّم معناه في
أشهر الحجّ . والحُرُم: جمع
حرام ، وهو
ضدّ الحلال .
والأشهر الحرم: هي الأشهر التي حرّم
العرب القتال فيها، وهي:
ذو القعدة ، و
ذو الحجّة ، و
المحرّم ، و
رجب ، ثلاثة
سردٌ و
واحدٌ فرد .
وقد استعمله
الفقهاء في
نفس المعنى اللغوي .
أشهر الحجّ هي:
شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، فبين أشهر الحجّ والأشهر الحرم بعض
التداخل ؛ إذ أنّ ذا القعدة وذي الحجّة من أشهر الحجّ والأشهر الحرم، أمّا شوّال فهو من أشهر الحجّ فقط ومحرّم ورجب من الأشهر الحرم فقط.
وأشهر الحج هي
المقرّرة لأداء مناسك الحج و
عمرة التمتع فيها، بينما أشهر الحرم لها
أحكام خاصة أهمّها
حرمة القتل فيها؛ ومن هنا سمّيت بأشهر الحرم.
للأشهر الحرم
فضيلة خاصّة وأحكام خاصّة تترتّب عليها، وهي:
لا إشكال في
فضل هذه الشهور؛ لأنّ
اللَّه تعالى فضّلها على سائر شهور
العام ، وشرّفهنّ على سائر الشهور، فخصّ
الذنب فيهنّ
بالتعظيم ، كما خصّهن
بالتشريف ، حيث قال: «إِنَّ
عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي
كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَ
الْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ».
قال
الشيخ الطوسي : «و
معنى (حُرُم) أنّه يعظم انتهاك
المحارم فيها
أكثر ممّا يعظم في غيرها، وكانت
العرب تعظّمها حتى أنّ
الرجل لو لقي قاتل
أبيه لم يهجه؛ لحرمته، وإنّما جعل اللَّه تعالى بعض الشهور
أعظم حرمة من بعض لما علم في ذلك من
المصلحة في
الكفّ عن
الظلم فيها، فعظّم
منزلتها ، وأنّه ربّما أدّى ذلك إلى
ترك الظلم أصلًا؛
لانطفاء النائرة تلك
المدّة و
انكسار الحمية ، فإنّ
الأشياء تجرّ إلى
أشكالها ».
ولهذه الحرمة و
المكانة لهذه الأشهر من بين سائر الشهور اختصّت بأحكام
تناسب تعظيم هذه الأشهر:
يحرم القتال في الأشهر الحرم ابتداءً إلّا مع من لا يرى لها حرمة أو يرى ولكن
هتك حرمتها واستحلّ القتال فيها، فيحلّ قتاله،
بل ادّعي
عدم الخلاف في ذلك.
وقد استدلّ لحرمة القتال فيها بقوله
سبحانه وتعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ »،
أي ذنب فيه كبير.
وقوله سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُحِلُّوا
شَعَائِرَ اللّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا
الْهَدْىَ وَلَا الْقَلَائِدَ»،
معناه: ولا تستحلّوا الشهر الحرام بقتالكم فيه
أعداءكم من
المشركين .
واستدلّ على جواز قتال من لا يرى لها حرمة أو ابتدأ بالقتال فيها
بالكتاب و
السنّة :
أمّا الكتاب فلقوله تعالى: «الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ
قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»،
فقد ذكر بعض الفقهاء في
سبب نزول هذه
الآية : أنّه كان
أهل مكّة قد منعوا
النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
الدخول إليها عام
الحديبية سنة ستّ من ذي القعدة، وهتكوا الشهر الحرام، فأجاز اللَّه سبحانه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم و
أصحابه أن يدخلوها في سنة سبع من ذي القعدة
لعمرة القضاء مقابلًا لمنعهم في العام الأوّل، ثمّ قال: «وَالحُرُمُاتُ قِصَاصٌ» أي يجوز القصاص في كلّ شيء حتى في هتك حرمة الشهور، ثمّ عمّم الحكم، فقال: «فَمَنِ اعتَدَى عَلَيكُم...».
وأمّا السنّة
فلما رواه
العلاء بن الفضيل ، قال: سألته عن المشركين أيبتدئهم
المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ فقال: «إذا كان المشركون يبتدئونهم باستحلاله ثمّ رأى المسلمون أنّهم يظهرون عليهم فيه، وذلك قول اللَّه عزّوجلّ: «الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ»
و
الروم في هذا بمنزلة المشركين؛ لأنّهم لم يعرفوا للشهر الحرام حرمة ولا
حقّاً ، فهم يبدؤون بالقتال فيه، وكان المشركون يرون له حقّاً وحرمة فاستحلّوه فاستحلّ منهم، وأهل
البغي يبتدئون بالقتال».
واستشكل بعض الفقهاء في
جواز قتال من لا يرى لها حرمة بأنّ دليله غير
ظاهر عندنا.
هذا كلّه في قتال المشركين، وأمّا غير المشركين من
الكفار فيجوز قتالهم في هذه الأشهر ولو ابتداءً.
قال
أبو الصلاح : «يجوز الابتداء بقتال
الكتابيّين و
المرتدّين والمتأوّلين ومن خرج إلى
دار الإسلام من
ضروب الكفّار لكيد أهلها في الأشهر الحرم».
وقال
السيّد الخوئي : «يجوز قتال
الطائفة الباغية في الأشهر الحرم، وهم الذين قاتلوا الطائفة الاخرى ولم يقبلوا
الإصلاح وظلّوا على بغيهم على تلك الطائفة وقتالهم، فإنّ الآية
الدالّة على حرمة القتال في الأشهر الحرم تنصرف عن القتال المذكور، حيث إنّه
لدفع البغي وليس من القتال الابتدائي كي يكون
مشمولًا للآية».
هذا، والظاهر عدم الخلاف في عدم
إلحاق الدفاع بالجهاد في حرمة القتال هنا؛
لتصريحهم بجواز القتال فيها مع ابتداء المشركين به.
نعم، نقل
المحقق النجفي القول بالإلحاق عن بعضهم ثمّ أجاب عنه: أوّلًا: بأنّ
محلّ البحث في
غزوهم لا في دفاعهم، وثانياً: أنّهم ممّن لا يرون حرمةً لهذه الأشهر، فاحتمال الإلحاق في
غاية الضعف .
المعروف بين
العلماء عدم
نسخ حرمة القتال في الأشهر الحرم.
نعم،
نسب القول بالنسخ إلى بعض
الجمهور وأنّ القتال في الشهر الحرام وعند
المسجد الحرام منسوخ بقوله تعالى:
«وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَاتَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى
الظَّالِمِينَ »،
وبقوله سبحانه وتعالى: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ».
قال
الشيخ - بعد نقله ما ذكره بعض الجمهور-: «وروى أصحابنا: أنّه على
التحريم في من يرى لهذه الأشهر حرمة، فإنّهم لا يبتدئون فيه بالقتال، وكذلك في الحرم، وإنّما أباح تعالى للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قتال أهل مكّة
وقت الفتح ، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ اللَّه أحلّها في هذه
الساعة ، ولا يحلّها
لأحد بعدي إلى يوم
القيامة ، ومن لا يرىذلك فقد نسخ في
جهته وجاز قتاله أيّ وقت كان».
وقال الشيخ في
المبسوط - بعد بيان حرمة القتال في الأشهر الحُرم والحَرَم في
زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -: «... ثمّ نسخ ذلك وأجاز القتال في سائر الأوقات وجميع
الأماكن ؛ لقوله تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ»،
وقاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هوازن في شوّال، وبعث
خالد بن الوليد إلى
الطائف في ذي القعدة، ثبت بذلك أنّه منسوخ»، ثمّ قال: «وقد روى أصحابنا أنّ حكم ذلك
ثابت في من يرى لهذه الأشهر حرمة، فأمّا من لا يرى ذلك فإنّه يبدأ فيه بالقتال».
ويظهر من
كلامه في
التبيان والمبسوط القول بنسخهما؛ لأنّه نسب عدم النسخ إلى
الرواية لا إلى الأصحاب.
النّسيء في اللغة بمعنى تأخّر الشيء ودفعه عن وقته،
واستعمل في
الاصطلاح فيما فعله العرب في
الجاهلية من
تأخير بعض أشهر الحرم، وذلك لأنّهم لمّا كانوا أصحاب
غارات و
حروب وكان يصعب عليهم
إيقاف القتال ثلاثة أشهر
متّصلة ، كانوا يؤخّرون تحريم المحرّم إلى
صفر ، فيحرّمونه ويستحلّون المحرّم، وهو الذي كانوا يعبّرون عنه بالنسيء، وهو ما حرّمه الإسلام في قوله سبحانه وتعالى: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَاحَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ
سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»
فاعتبره زيادةً في الكفر.
تكلّم الفقهاء عن
تغليظ عقوبة القاتل في الأشهر الحرم من جهتين:
يجب
صوم شهرين متتابعين
كفّارةً عن قتل
المؤمن في الأشهر الحرم، وفي
كيفيّة صوم الشهرين ثلاثة أقوال:
الأوّل: يجب أن يصوم شهرين متتابعين في الأشهر الحرم ولا يضرّه
تخلّل عيد الأضحى و
أيّام التشريق حيث يحرم الصوم فيها؛ لأنّه إن كان
بمنى فيترك صوم
العيد وأيّام التشريق معاً ويبدلها متّصلًا بأيّام اخرى، وإن كان في غير منى فمن حيث لا يحرم عليه صوم أيّام التشريق يترك صوم العيد فقط ويبدله بيوم آخر متّصلًا.
هذا هو
المشهور بين فقهائنا؛
جمعاً بين
العمومات الدالّة على حرمة صوم العيدين وأيّام التشريق لمن كان بمنى، وبين ما دلّ على وجوب صوم شهرين متتابعين من الأشهر الحرم على من قتل مؤمناً فيها،
فمقتضى الجمع بينهما صوم شهرين من الأشهر الحرم
باستثناء صوم يوم العيد وأيّام التشريق.
القول الثاني: يجب صوم شهرين من الأشهر الحرم بما فيهما من عيد أو أيّام التشريق، فيجب صوم هذه الأيّام أيضاً، ذهب إليه
جماعة من الفقهاء؛
استناداً إلى بعض الأخبار: منها: ما رواه
زرارة قال: قلت
لأبي جعفر عليه السلام : رجل قتل رجلًا في الحرم؟ قال: «عليه
دية وثلث، ويصوم شهرين متتابعين من أشهر الحرم، ويعتق
رقبة ، ويطعم ستّين
مسكيناً »، قال: قلت: يدخل في هذا شيء؟ قال: «وما يدخل» ؟ قلت: العيدان وأيّام التشريق، قال: «يصوم فإنّه حقّ لزمه».
القول الثالث: عدم جواز
الإتيان بهذا الصوم مع تخلّل العيد؛ لضعف
المستند .
صرّح الفقهاء بأنّ دية القتل في الأشهر الحرم
عمداً أو
خطأً ديةٌ
كاملة وثلثها؛ تغليظاً في عقوبة القاتل، بل لا خلاف فيه بينهم،
بل
الإجماع ،
بقسميه عليه؛
وذلك لانتهاكه حرمة هذه الأشهر.
منها: ما رواه
كليب الأسدي ، قال: سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الرجل يقتل في الشهر الحرام ما ديته؟ قال: «دية وثلث».
ومنها:
خبره الآخر، قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: «من قتل في شهر حرام فعليه دية وثلث».
هذا، والتغليظ مختصٌ
بتلف النفس دون
الأطراف كما صرّح به بعضهم.
ذهب بعض الفقهاء إلى
استحباب صوم يوم
الخميس و
الجمعة و
السبت من كلّ شهر من الأشهر الحرم.
لخبر
أنس بن مالك المروي في
المقنعة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: «من صام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كتب اللَّه له
عبادة تسعمئة سنة».
و
نظراً لضعف سند الخبر
بالإرسال فيبنى الاستحباب على قاعدة
التسامح في أدلّة السنن أو يؤتى بالصوم برجاء
المطلوبية .
الموسوعة الفقهية، ج۱۳، ص۲۸۵-۲۹۱.