الإعسار في الدين
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يترتب على
إعسار المدين وعدم
تمكّنه من
أداء دينه أحكام نشير إليها إجمالًا.
يجب على
المدين أن يدفع دينه إذا حلّ وقته وطالبه
الغريم حتى أنّه يجب عليه أن يبيع
أمواله لذلك.
واستثني ما يحتاج إليه من البيت والفراش واللباس، وسائر الأمتعة اللائقة بحاله، والمركوب إذا كان من شأنه، بل وكتب العلم المحتاج إليها؛ للزوم العسر
والحرج من
بيعها ، وحينئذٍ يتحقّق إعساره لو لم يكن عنده مال زائداً على المستثنيات المذكورة.
قال
المحقق النجفي : «لعلّ المدار في ذلك وغيره ممّا تسمعه من ثياب
التجمّل ونحوها عدم الحرج في الدين،
وإرادة اللَّه بنا
اليسر دون العسر، ونحو ذلك ممّا دلّ على هذا الأصل... ولعلّ في قوله (تعالى): «وَإِن كَانَ ذُوعُسرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيسَرَةٍ»
نوع
إيماء إليه، كالتعليل في
صحيح الحلبي ؛
ضرورة حصول العسر والحرج
والمشقّة التي لا تتحمّل في
بيع الضروريّات ولو بحسب الشرف الذي يكون في عدمه نقص
وإذلال لا ترضى به الأنفس العزيزة، بل ربّما كان عليها أشدّ مراعاةً من الضروريّات للمعاش، بل قد يهون عليهم في مقابلة
إزهاقها ، ومن هنا أسقط
الشارع التكاليف له في باب
الوضوء والغسل واستطاعة الحجّ وغير ذلك»، إلى أن قال: «كلّ ذلك مع أنّه يمكن دعوى صدق ذي العسرة على من لم يجد غير ذلك، وأنّه لا يتحقّق صدق الميسرة بها؛ لأنّ المراد بذي العسرة الشدّة
والضيق عليه لو أراد
الوفاء وعكسه الميسرة، ولا ريب في تحقّق الشدّة والضيق عليه لو كلّف ببيع ضروريّاته».
لكن نقل عن ابن الجنيد
جواز إلزامه ببيع داره وخادمه.
ونوقش فيه بأنّ هذا
اجتهاد في مقابل
النص والفتوى والإجماع .
نعم، وقع الخلاف فيما بينهم في بعض المصاديق، وإذا شكّ في تحقّق العسر بالنسبة إلى بعض الامور فقد يحكم
بوجوب بيعها في الدين؛ لأصالة وجوب وفائه حينئذٍ.
يثبت الإعسار بامور:
إقرار المستحقّ - أي المدين
- فإذا أقرّ أنّ مدينه معسر فإنّه يؤخذ بإقراره، وينظر المدين؛ لقوله تعالى: «وَإِن كَانَ ذُوعُسرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ».
هذا إذا كان الغريم واحداً، أمّا إذا كانوا متعدّدين ووافق بعضهم دون بعض، فيثبت في حقّ الموافق. نعم، قال في
المسالك بثبوته مطلقاً إذا كان الموافق متعدّداً عدلًا.
ولعلّ مرجعه إلى إثبات الإعسار بالطريق الثاني الآتي، لا بخصوصية في تعدّد الموافقين.
فإن تناكر
الغريم والمديون في الإعسار وعدمه وكان للمديون مال ظاهر غير المستثنيات لم يقبل دعواه، وأمره
الحاكم بالتسليم ، فإن امتنع فالحاكم
بالخيار بين حبسه حتى يوفي بنفسه لوجوبه عليه، وبيع أمواله وقسمتها بين غرمائه؛ لأنّه وليّ الممتنع.
وإن لم يكن له مال ظاهر وادّعى الإعسار فإن وجد
البيّنة قضى بها، وإن عدمها وكان له أصل مال أو كان أصل الدعوى مالًا حبس حتى يثبت إعساره.
وإذا شهدت البيّنة
بتلف أمواله قضى بها ولم يكلّف
اليمين ولو لم تكن البيّنة مطّلعة على باطن أمره.
أمّا لو شهدت بالإعسار مطلقاً ولم يذكروا سبب إعساره لم يقبل حتى يكونوا مطّلعين على اموره بالصحبة المؤكّدة، وللغرماء
إحلافه دفعاً للاحتمال الخفي.
حصول
العلم للحاكم بالإعسار - من أيّ طريق كان- وحكمه به،
بناءً على إمكان
حكم الحاكم بعلمه في مثل ذلك.
ظاهر النصوص والفتاوى جواز
الاقتراض للمعسر غير المتمكّن من أدائه على
كراهيّة عند المشهور،
وإن لم يكن له مقابل وقدرة على
القضاء لو طولب،
خلافاً
لأبي الصلاح الحلبي حيث حرّمه مع فقد القدرة على قضائه وعدم الضرورة إليه.
هذا، ولكن يستحبّ للمعسر حينئذٍ الخروج من البلد طلباً
للرزق ، كما صرّح به
الشهيد الأول والمحقّق النجفي ؛
وذلك لما رواه
السكوني عن
جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: «قال
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أعسر أحدكم فليخرج ولا يغمّ نفسه
وأهله ».
صرّح
الفقهاء بوجوب
إنظار المعسر، بل المشهور
أنّه لا يجوز
إلزامه ولا
مؤاجرته .
وقد استدلّ
عليه بقوله تعالى: «وَإِن كَانَ ذُوعُسرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ»،
وبالروايات:
منها: ما جاء في
وصية الإمام الصادق عليه السلام لأصحابه: «إيّاكم وإعسار أحد من إخوانكم
المسلمين أن تعسروه بشيء يكون لكم قِبله وهو معسر، فإنّ أبانا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ليس لمسلم أن يعسر مسلماً، ومن أنظر مسلماً أظلّه اللَّه يوم القيامة بظلّه، يوم لا ظلّ إلّا ظلّه».
ومنها: ما رواه
عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... وكما لا يحلّ لغريمك أن يمطلك وهو موسر فكذلك لا يحلّ لك أن تعسره إذا علمت أنّه معسر».
ومنها: ما رواه
حنان بن سدير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «يبعث يوم
القيامة قوم تحت ظلّ العرش وجوههم من نور، ورياشهم من نور، جلوس على كراسي من نور- إلى أن قال:- فينادي منادٍ: هؤلاء قوم كانوا ييسّرون على المؤمنين، وينظرون المعسر حتى ييسر».
ومنها:
خبر معاوية بن عمار قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: من أراد أن يظلّه اللَّه في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه فلينظر معسراً، أو ليدع له من حقّه».
وغيرها من الروايات.
والظاهر من النصوص والفتاوى عدم الفرق بين كون الدين
لطاعة أو
مباح أو
معصية . نعم، قيّد
الشيخ الصدوق وجوب إنظار المعسر بما إذا كان أنفق الدين في الطاعة حيث قال: «وإن كان لك على رجل مال وكان معسراً وأنفق ما أخذه منه في طاعة اللَّه فنظرة إلى ميسرة...
وإن كان أنفق ما أخذه منك في معصية اللَّه فطالبه بحقّك فليس هو من أهل هذه الآية التي قال اللَّه عزّوجلّ: «فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ»».
ومستنده حسب الظاهر خبر
محمد بن سليمان عن رجل من أهل الجزيرة يكنّى أبا محمّد.
والمعروف بينهم بخبر
أبي نجاد .
لكن نوقش فيه
بضعف سند خبر أبي نجاد، حيث يبدو
الإرسال فيه،
واضطراب متنه، بدلالة أوّله على
الإنفاق على
العيال وذيله على أنّه لم يعلم، مضافاً إلى ما قيل من أولويّة
الإنظار بالمنفق في المعصية من المنفق بالطاعة باعتبار عدم حلّية
الزكاة للأوّل دون الثاني.
اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز
حبس المعسر مع ظهور إعساره.
قال
المحقق النجفي : «لا يجوز حبس المعسر مع ظهور إعساره سواء كان
مفلّساً - أي منعه الحاكم من
التصرف فيما يتجدّد من الأموال- أو لا؛ للإنظار المأمور به في
الكتاب والسنّة ، بل
والفتوى ، فإنّي لا أجد خلافاً في ذلك إلّا... من
الصدوق في المعسر بصرف ما استدانه في معصية».
وأمّا مع عدم ثبوت إعساره فيجوز حبسه بمطالبة غريمه، فإن ثبت إعساره بعد ذلك خلّي عنه،
وإلّا بقي في
السجن ؛ لما رواه
غياث ابن إبراهيم عن
جعفر عن أبيه: «أنّ
عليّاً عليه السلام كان يحبس في
الدين ، فإذا تبيّن له
حاجة وإفلاس خلّى سبيله حتى يستفيد مالًا».
يجوز للمعسر
إنكار الدين
والحلف على نفي
الاستحقاق فراراً من الحبس، لكن ينوي
قضاءه مع المكنة ويورّي في الحلف.
قال
أبو الصلاح الحلبي : «وإذا ألحّ المدين على غريمه بالمطالبة وأحضره مجلس الحكم فخاف من الإقرار الحبس، فله الإنكار
واليمين عليه
والتورية فيها بما تخرج به عن
الكذب بشرط
العزم على قضائه متى تمكّن
وإعلامه بذلك قبل اليمين وبعدها».
وقال
الشيخ الطوسي : «من كان عليه دين لا يجد إلى قضائه سبيلًا لإعساره فقدّمه صاحب الدين إلى
حاكم يعلم أنّه متى أقرّ عنده حبسه فأضرّ به وبأهله، جاز له جحده والحلف عليه بعد أن ينوي قضاءه عند التمكّن منه ويورّي في يمينه، ولا
إثم عليه في يمينه ولا
كفّارة ، وإن لم ينو قضاءه كان مأثوماً».
وقال
العلّامة الحلّي : «والمعسر لا يحلّ
مطالبته ولا حبسه، ويجوز له الإنكار والحلف إن خشي الحبس مع
الاعتراف ، ويورّي وينوي القضاء مع
المكنة ».
وقال الشهيد: «وله الإنكار مورّياً ثمّ يقضي مع
اليسار ».
المشهور
بين الفقهاء عدم وجوب التكسّب على المدين حتى بالتقاط
مباح لا يحتاج إلى تكلّف فيكون وجوب
الوفاء عندهم مشروطاً باتّفاق حصول اليسار، ولا يجب عليه تحصيله وإن تمكّن منه.
وقد يستدلّ
عليه بأصالة
براءة الذمة ، وقوله تعالى: «وَإِن كَانَ ذُوعُسرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ»،
وبالروايات
التي تقدّم ذكرها.
قال
الشيخ الطوسي : «إذا أفلس من عليه الدين وكان ما في يده لا يفي بقضاء ديونه لا يؤاجر ليكتسب ويدفع إلى الغرماء... والأصل براءة الذمّة، ولا دليل على وجوب
إجارته وتكسّبه، وأيضاً قوله تعالى: «وَإِن كَانَ ذُوعُسرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ»».
ونحوه كلام
المحقّق الحلّي .
وقال
ابن إدريس - بعد ذكر
رواية السكوني عن جعفر عن أبيه: «أنّ
عليّاً عليه السلام: كان يحبس في الدين ثمّ ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء، وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم:
إصنعوا به ما شئتم، إن شئتم فأجّروه، وإن شئتم استعملوه»
-: «هذا الخبر غير صحيح ولا مستقيم؛ لأنّه مخالف لُاصول مذهبنا ومضادّ لتنزيل
القرآن ، قال تعالى: «وَإِن كَانَ ذُوعُسرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ»،
ولم يذكر (استعملوه)، ولا (فآجروه)».
وقال
الشهيد الثاني : «وأطلق جماعة من أصحابنا أنّه لايجب عليه
الاكتساب أيضاً، ولا قبول
الهبة ولا
الصدقة ولا
الوصية ونحوها». إلّا أنّه قال بعد ذلك:
«ولو قيل بوجوب ما يليق بحاله كان حسناً».
وفصّل
ابن حمزة فقال: «إن كان المستدين معسراً صبر عليه من له
الدين حتى يجد، فإن كان مكتسباً امر بالاكتساب
والإنفاق بالمعروف على نفسه وعياله وصرف الفاضل في وجه دينه، وإن كان غير مكتسب خلّي سبيله حتى يجد».
وقد استجوده العلّامة الحلّي في
المختلف حيث قال: «وقول ابن حمزة جيّد، ونمنع من إعسار المكتسب؛ ولهذا تحرم عليه
الزكاة ».
ونفى عنه البعد
المحقق الأردبيلي وقال:
«نعم، تفصيل ابن حمزة غير بعيد، وهو أنّه إذا ثبت إعساره خلّي سبيله إن لم يكن ذا حرفة فيكسب بها، وإلّا دفعه إليه ليستعمله فيها، وما فضل عن قوته وقوت عياله أخذه بحقّه، ثمّ حمل رواية
السكوني عليه؛ للجمع بين الأدلّة».
وفصّل الشهيد الثاني أيضاً هنا، فبعد أن استقرب القول بوجوب التكسّب عليه قال: «وإنّما يجب عليه التكسّب فيما يليق بحاله عادة ولو بمؤاجرة نفسه، وعليه تحمل الرواية».
وقد ذكر أيضاً هذا التفصيل
المحقق النجفي وناقش في أدلّة المشهور القائلين بعدم وجوب التكسّب عليه ب «أنّ الأصل يقطعه ظهور أمر قضاء الدين في كونه واجباً مطلقاً،
والآية لا تدلّ على كونه مشروطاً؛ ضرورة أنّه يجب
الإنظار إلى الميسرة وإن وجب عليه تحصيلها مع التمكّن منها. وكذا الرواية، بل إن كانت (حتى) فيها تعليليّة اشعرت بالوجوب حينئذٍ- إلى أن قال:- نعم، لا يجب عليه ما كان منه فيه نقص عليه ومنّة؛ ترجيحاً لما دلّ على عدم تحمّل
المؤمن ذلك عليه».
لكنّه قال بعد هذا: «مع أنّه لا يخلو من
إشكال فيما إذا لم يصل إلى حدّ
الحرمة لكون الواجب عليه هنا حقّ مخلوق أيضاً يتضرّر بعدم وصوله إليه».
وفي الأخير ذهب إلى عدم الفرق في وجوب التكسّب عليه بين المكتسب وغيره، بل وبين اللائق به وغيره، وأنّه لا تسلّط للغرماء على
استعماله ومؤاجرته المنافية للإنظار
وتخلية السبيل وإن وجب عليه هو
السعي في
قضاء دينه.
وقال
السيد الحكيم : «لا يحلّ مطالبة المعسر ولا
إلزامه بالتكسّب إذا لم يكن من عادته وكان عسراً عليه».
لو كان
للمالك دين على المعسر جاز للمالك أن يقاصّه ويحتسبه من الزكاة
بلا خلاف فيه.
والمراد من المقاصّة هنا القصد إلى
إسقاط ما في
ذمّة الفقير للمزكّي من أداء الدين.
وذلك لصحيحة
عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت
أبا الحسن الأوّل عليه السلام عن دين لي على قوم قد طال حبسه عندهم لا يقدرون على قضائه وهم مستوجبون للزكاة، هل لي أن أدعه فأحتسب به عليهم من الزكاة؟ قال: «نعم».
ذكر جملة من
الفقهاء فيما يستحبّ فعله من آداب
التجارة إعلام الإخوان بالإعسار؛ ليعينوه، ولو
بالدعاء ،
والكتمان مع الخلوّ عن هذا
القصد أولى؛
لما رواه
حريز عن
أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: «إذا ضاق أحدكم فليعلم أخاه ولا يعن على نفسه».
يلزم على
الحاكم إشهار المعسر ليعرفه الناس فلا يعاملوه، إلّا من رضي بإسقاط دعواه عليه،
وادّعى عليه
الإجماع .
الموسوعة الفقهية، ج۱۵، ص۸۴-۹۲.