الإيمان (حقيقته)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الإيمان (توضيح).
وقع بحث في أنّ الإيمان من
مقولة الاعتقاد وفعل
القلب فقط ولا
دخالة للإقرار اللساني فيه وإنّما هو
كاشف، أو أنّ حقيقته الاعتقاد مع
الإقرار اللساني، أو يضاف إليهما عمل
الجوارح أيضاً. وظهرت أقوال، فذهب بعضهم إلى
اعتبار الإقرار اللساني، وبعضهم إلى اعتبار
العمل أيضاً، ونفاهما آخرون.
فهو صريح
الصدوق في
الهداية والمحقّق
نصير الدين الطوسي و
المحقّق الكركي، ونسبه
الشهيد الثاني إلى
جماعة من المتأخّرين.
قال: «والإيمان:
التصديق بالقلب واللسان، ولا يكفي الأوّل؛ لقوله تعالى: «وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ»
ونحوه، ولا الثاني؛ لقوله: «قُل لَمْ تُؤْمِنُوا»».
واستدلّ
للاعتبار بقوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ
ظُلْماً وَعُلُوّاً»،
حيث إنّ الآية قد أثبتت
الكفر و
الجحود مع
استيقان النفس. ولكن يجاب بأنّ الإيمان المعرَّف في الروايات وكلمات الفقهاء هو الاعتقاد وعقد القلب والتصديق القلبي، وهذا لا يجتمع مع الجحود، بخلاف الاستيقان المذكور في الآية، الذي هو
ظهور الشيء ووضوحه في النفس والعلم به، فالإيمان شيء زائد على العلم واليقين، وقد صرّح به بعض
المحشّين على
الكافي .
قال: «وأمّا الإيمان، وهو التصديق بالقلب والإقرار باللسان
بالأصول الخمسة على وجه يعدّ إماميّاً...».
ولكن
المستفاد من
الشيخ المفيد الذي فرّق بين
الإسلام والإيمان باللسان، عدم اعتباره في الإيمان.
وكذلك المستفاد من ظاهر
السيّد المرتضى، فإنّه بعدما مرّ من عبارته في
تفسير الإيمان قال: «و... فيهم
المرجئة من ذهب إلى أنّ الإيمان: هو التصديق باللسان خاصّة... ومنهم من ذهب إلى أنّ الإيمان: هو التصديق بالقلب واللسان معاً... وقالت
المعتزلة : الإيمان:
اسم للطاعات».
وظاهر هذا
الكلام - بل صريحه- أنّه غير قائل بهذه الأقوال الثلاثة، فالإيمان عنده هو التصديق القلبي خاصّة بحيث لا دخل للإقرار اللساني فيه. وبمثله عبارة الشيخ الطوسي في
الاقتصاد .
وظاهر تعريف عدّة منهم له بالتصديق القلبي من غير
تقييده بالإقرار اللساني، عدم الاعتبار أيضاً، كابن إدريس
فيما مرّ من عبارته في الإيمان و
ابن زهرة والمحقّق الحلّي
وغيرهم.
على أنّ البحث في ثبوت الإيمان وعدم
اشتراط اللفظ فيه، لا في
إضرار الإنكار والجحود اللساني به إذا كان علوّاً وعناداً لا
تقيّةً ، قال
العلّامة المجلسي في جواب
الاستدلال بالآية على اعتبار الإقرار اللساني: «دلالة الآيات على اعتبار الإقرار ممنوعة، وقد بيّنا ذلك سابقاً أنّ
تكفيرهم إنّما هو لجحدهم الإقرار، وهو أخصّ من عدم الإقرار، فتكفيرهم بالجحد لا يستلزم تكفيرهم بمطلق عدم الإقرار ليكون الإقرار اللساني معتبراً. نعم، اللازم من الآيات اعتبار عدم الجحد مع التصديق (القلبي ) وهو أعم من الإقرار (اللساني)، واعتبار الأعم لا يستلزم اعتبار الأخص، وهو ظاهر».
وكيف كان، فليس المراد من الاستيقان الوارد في الآية
اليقين المشار إليه في الروايات، الذي هو
أفضل درجات الإيمان أو منها، قال
الشيخ الطبرسي في ذيل الآية: «والعلوّ:
الكبر و
الترفّع عن الإيمان بما جاء به
موسى ، كقوله: «وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ• فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ»،
والمعنى جحدوا بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم»،
وكذا في تفسير
الفيض ،
فالآية إنّما تدلّ على إضرار الجحود اللساني
عناداً و
استكباراً بالإيمان، ولا تدلّ على اشتراطه بالإقرار اللساني فيمن قلبه
مطمئنٌ بالإيمان.
وأمّا الأخبار فليس فيها أيضاً ما يستدلّ به لاعتبار الإقرار اللساني في الإيمان المقابل للإسلام؛ فإنّها خالية عن هذا القيد، وليس في ضمّ الأخبار الواردة في أنّ الإسلام هو شهادة أن لا إله إلّااللَّه، وأنّ محمّداً رسول اللَّه، والأخبار الواردة في
اشتمال الإيمان على الإسلام دون العكس أيضاً دلالة على اشتراط الإيمان باللفظ والإقرار اللساني؛ لأنّ في نفس تلك الأخبار دلالة واضحة على أنّ المراد اشتمال الإيمان على
آثار الإسلام وفضله، وأنّ في الإيمان زيادة
فضل ، لا لزوم اشتماله على الألفاظ المعتبرة في
أصل الإسلام، فمنها: رواية
سماعة ، قال: قلت
لأبي عبد اللَّه عليه السلام : أخبرني عن الإسلام والإيمان، أهما
مختلفان ؟ فقال: «إنّ الإيمان يشارك الإسلام، والإسلام لا يشارك الإيمان»، فقلت: فصفهما لي، فقال: «الإسلام:
شهادة أن لا إله إلّااللَّه، والتصديق برسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، به حقنت
الدماء ، وعليه جرت
المناكح و
المواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس، والإيمان:
الهدى وما يثبت في القلوب من
صفة الإسلام وما ظهر من العمل به، والإيمان
أرفع من الإسلام بدرجة...».
ومنها: رواية
سفيان بن السمط عنه عليه السلام أيضاً: «... الإسلام: هو
الظاهر الذي عليه الناس: شهادة أن... و... الإيمان: معرفة هذا
الأمر مع هذا، فإن أقرّ بها ولم يعرف هذا الأمر كان
مسلماً وكان ضالّاً».
وأمّا رواية
محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «الإيمان: إقرار وعمل، والإسلام: إقرار بلا عمل»،
فلا
دلالة فيها أيضاً على أنّ المراد من الإقرار هو الإقرار اللساني؛ لصدقه على
الإقرار القلبي أيضاً.
وفي رواية
فضيل بن يسار ، قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: «إنّ الإيمان: ما وقر في القلوب، والإسلام: ما عليه المناكح...»،
وعليه يكون الإقرار اللساني كاشفاً عن الإيمان لا جزءه، كما صرّح به بعض.
مضافاً إلى أنّ الإيمان لغة وعرفاً هو
التصديق والاطمئنان القلبي- كما مرّ في المعنى اللغوي- فتحمل عليه الآيات والأخبار، ولا وجه للعدول عنه بعد عدم دلالةٍ واضحة على
التقييد شرعاً. نعم، ثبت ذلك بالنسبة للإسلام وحكم علماؤنا باعتباره فيه من حيث
ترتيب الآثار عليه على
مستوى الأحكام الشرعية. نعم، سيجيء إطلاق الإيمان بعضاً على خصوص الإسلام أو ما يعمّه، وبهذا المعنى يشترط فيه ما يشترط في الإسلام أيضاً كما هو واضح، ولكن الكلام في الإيمان المقابل للإسلام، وفي
لزوم الإقرار اللساني حتى في ما زاد على الشهادتين
كالولاية وغيرها ممّا يجب
الاعتقاد به.
وهو اعتبار العمل في الإيمان
إضافةً إلى الأوّلين بحيث يكون
المرتكب للكبيرة خارجاً عن الإيمان، ولا تشمله الأحكام الخاصة بالمؤمنين، فنسبه
الشهيد الثاني إلى المحدّثين،
بل في مرآة العقول انعقاد اصطلاح المحدّثين عليه،
ونسبه المحدّث البحراني
إلى جملة من متقدّمي أصحابنا كالصدوق والمفيد.
ولعلّه استفاد ذلك من مثل عبارة
الشيخ الصدوق : «الإيمان: هو إقرار باللسان وعقد بالقلب وعمل بالجوارح، وأنّه يزيد بالأعمال وينقص بتركها، وكلّ مؤمن مسلم، وليس كلّ مسلم مؤمناً».
وعبارة
الشيخ المفيد في باب
الوقوف والصدقات: «إن وقفه على المؤمنين كان على مجتنبي الكبائر من
الشيعة الإماميّة خاصة دون فسّاقهم وغيرهم من كافّة الناس وسائر
أهل الإسلام».
وأمّا غير الصدوق من المحدّثين فلم نعثر على عبارة صريحة لهم به، ولعلّه باعتبار استفادته من الروايات
الواردة في كتبهم في هذا المعنى- كما سيأتي- المحمولة عند
المشهور على مراتب الإيمان، بل لعلّ الظاهر من قول الصدوق: «إنّه يزيد بالأعمال وينقص بتركها» أيضاً ذلك، كما أنّ عبارة المفيد ليست بذاك الظهور في كونه بمقام
الإشارة إلى
تفسير الإيمان وما يعتبر فيه من القيود، بل من
القريب حكمه بذلك في خصوص مثل الوقف؛
لانصراف مثل الوقف على المؤمن إلى غير
الفاسق . والذي يؤيّد ذلك كلامه المتقدّم عليه في الوقف على المسلمين حيث قال: «إن وقفه على المسلمين كان على جميع من أقرّ باللَّه تعالى ونبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وصلّى إلى الكعبة الصلوات الخمس، واعتقد
صيام شهر
رمضان وزكاة الأموال، ودان بالحجّ إلى
البيت الحرام وإن اختلفوا في المذاهب والآراء».
والوجه فيه: أنّه لو كان بصدد الإشارة إلى تفسير الإسلام فلا شكّ أنّ الإسلام لا تعتبر فيه هذه الامور؛ لإسلام
المنافق فضلًا عن الفاسق، فلعلّ المراد منه انصراف الموقوف عليه إلى ذلك، لا اعتبار العمل في الإيمان في جميع إطلاقاته. نعم، ظاهر الشيخ الطوسي في وقف
النهاية وابن البرّاج
وابن حمزة
ذلك، كما أنّه صريح
المحدّث البحراني في مواضع من كلامه، فإنّه في بعض مواضعه بعد
تقسيم الكفر إلى أقسامٍ قال: «الرابع: الكفر؛ بترك ما أمر اللَّه تعالى من كبار
الفرائض و
ارتكاب ما نهى عنه من كبار المعاصي كترك
الزكاة والحجّ والزنا، وقد استفاضت الروايات بهذا الفرد، والكفر بهذا المعنى يقابله الإيمان الذي هو الإقرار باللسان والاعتقاد
بالجنان والعمل بالأركان، والكفر بهذا المعنى وإن اطلق عليه الكفر إلّاأنّه مسلم تجري عليه أحكام الإسلام في
الدنيا ، وأمّا في الآخرة فهو من المرجئين لأمر اللَّه، إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم، هذا على ما اخترناه... وأمّا على المشهور بين أصحابنا رضوان اللَّه عليهم من عدم أخذ الأعمال في الإيمان فإنّه عندهم
مؤمن وإن كان يعذّب في
الآخرة ، ثمّ يدخل الجنّة وتناله
الشفاعة ».
ولكنّ هذا- كما صرّح هو نفسه به- خلاف المشهور بين أصحابنا من عدم أخذ الأعمال في الإيمان، بل ظاهر الشيخ الطوسي نفسه في
التبيان عدم
انتفاء الإيمان بالفسق بالإجماع، فإنّه قدس سره في ذيل قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ»
قال: «هذا
الخطاب يتوجّه إلى جميع المؤمنين، وقد بيّنا أنّ المؤمن هو المصدِّق بما وجب عليه، ويدخل فيه الفسّاق بأفعال الجوارح وغيرها؛ لأنّ الإيمان لا ينفي
الفسق عندنا، وعند المعتزلة أنّه خطاب لمجتنبي الكبائر، وإنّما يدخل فيه الفسّاق على طريق
التبع و
التغليب ، كما يغلب المذكّر على المؤنّث...».
وهو ظاهر السيّد المرتضى في
الناصريّات حيث قال: «الفاسق عندنا في حال فسقه مؤمن يجتمع له الإيمان والفسق ويسمّى
باسمهما ، وكلّ خطاب دخل فيه المؤمنون دخل فيه من جمع بين الفسق والإيمان».
و
ابن إدريس الحلّي في قوله: «كلّ خطاب خوطب به المؤمنون يدخل الفسّاق من المؤمنين في ذلك الخطاب في جميع
القرآن و
السنّة والأحكام بغير خلاف».
وقد صرّح به المحقّق نصير الدين الطوسي،
والعلّامة الحلّي،
و
الفاضل المقداد والشهيد الثاني
وغيرهم،
بل في
الجواهر استقرار المذهب الآن عليه؛ مستدلّاً عليه بعدم
الدليل على اعتبار العمل، بل ظهور الأدلّة في خلافه.
وكيف كان، فيمكن
الاستدلال لاعتبار العمل في الإيمان بروايات:
منها: ما رواه
عبد الرحيم القصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: «الإسلام قبل الإيمان، وهو يشارك الإيمان، فإذا أتى العبد
بكبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى اللَّه عزّوجلّ عنها كان خارجاً من الإيمان، وثابتاً عليه اسم الإسلام، فإن تاب واستغفر عاد إلى الإيمان، ولم يخرجه إلى الكفر و
الجحود ...».
ومنها: ما رواه
الكليني بإسناده عن
محمّد بن الحكيم ، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: الكبائر تخرج من الإيمان؟ فقال: «نعم وما دون الكبائر، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: لا يزني
الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق
السارق وهو مؤمن».
ومنها: رواية
المفضّل بن عمر عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام - في
حديث - قال: «لا ينظر اللَّه إلى عبده ولا يزكّيه إذا ترك
فريضة من فرائض اللَّه أو ارتكب كبيرة من الكبائر»، قال: قلت: لا ينظر اللَّه إليه؟! قال: «نعم، قد أشرك باللَّه»، قلت: أشرك باللَّه؟! قال: «نعم، إنّ اللَّه أمره بأمرٍ وأمره إبليس بأمر، فترك ما أمر اللَّه عزّوجلّ به وصار إلى ما أمر به إبليس، فهذا مع
إبليس في
الدرك السابع من
النار ».
ومنها: ما رواه
أبو الصلت الهروي عن
الإمام الرضا عن
أبيه ... عن
علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: «قال
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : الإيمان:
معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان».
ومنها:
صحيحة عبد اللَّه بن سنان ، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن
الرجل يرتكب الكبيرة من الكبائر فيموت، هل يخرجه ذلك من الإسلام... ؟ فقال: «من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال أخرجه ذلك من الإسلام وعُذّب أشدّ العذاب، وإن كان
معترفاً أنّه أذنب ومات عليه أخرجه من الإيمان، ولم يخرجه من الإسلام، وكان عذابه
أهون من عذاب الأوّل».
واستدلّ برواية عبد الرحيم القصير وصحيحة ابن سنان المحدّث البحراني في
الحدائق قائلًا: إنّ الثانية أصرح من الاولى في كون مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يخرج من الإسلام.
ولكنّ الفقهاء حملوها على الكفر والشرك العملي بمعنى
إطاعة الشيطان والنفس الأمّارة لا الاعتقادي، وعلى مراتب الإيمان القابلة للزيادة و
النقصان بالإطاعة و
العصيان ، بل في نفس الرواية والصحيحة شهادة على ذلك، مضافاً إلى وضوح معنى الإيمان لغةً وعرفاً، ولا يمكن
إثبات القيد بمثل هذه الروايات؛ ولذلك نسب الشهيد هذا القول- مع إقراره بورود رواياتٍ به- إلى القيل ولم يعمل بمضمونها،
بل صريح
المحقّق النجفي في عبارته السابقة أنّه خلاف ظاهر الأدلّة.
قال
السيّد المرتضى : «والذي يدلّ على صحّة ما اخترناه أنّ الإيمان في اللغة هو التصديق، وليس باسم
الجوارح ، وهذا ممّا لا خلاف فيه ولا
شبهة ، وإنّما ادّعى قوم في هذه
اللفظة النقل... ولم يقم دليل على
انتقال هذه اللفظة إلى غير معناها في اللغة... وإن شئت أن تقول: إنّ اللَّه تعالى إنّما خاطب
العرب بلغتها ولسانها، فقال عزّ من قائلٍ: «قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ».
.. وظاهر هذه الآيات كلّها يقتضي أنّ
اسم الإيمان واقع على ما تعهده العرب...».
إلّا أنّه يمكن
المناقشة في بعض هذا الكلام بصحّة جملة من هذه الروايات سنداً؛ فإنّ الحمل على الكفر العملي خلاف ظاهر
النصوص ولم نعثر على
قرينة فيها تفيد ذلك، وعدم عمل بعضهم بها قد يكون
اجتهادياً بتقديم غيرها عليها، وفي مثله لا يلتزم بجريان قاعدة
الوهن بالإعراض ، ووضوح معنى الإيمان لغةً وعرفاً لا يمنع من أن يتدخّل
المعصوم بنحو
الحكومة أو غيرها لتقييد هذا المعنى عبر رواية
صحيحة السند .
لهذا فلعلّ الأصحّ في المناقشة ما ذكره
المحقّق الأردبيلي حيث قال: «يدلّ على ضعف مذهبهم
عطف العبادات على الإيمان في
القرآن العزيز، بل الأخبار أيضاً، وأيضاً
إسناد الإيمان إلى القلب في مثل قوله تعالى: «وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ»،
«أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ»،
«وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ»،
وأيضاً
اقتران الإيمان بالمعاصي في مثل قوله: «وَإِن
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا»،
و «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى»،
و «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ».
... وأيضاً
الأصل و
الاستصحاب وعدم
الخروج عن معناه اللغوي؛ فإنّه فيها بمعنى
التصديق اتّفاقاً على ما قالوه، ومعلوم أنّ الخروج عنه إلى التصديق والإقرار والأعمال يحتاج إلى دليل قويّ، بخلاف التصديق الخاصّ فإنّه بعض أفراد معناه اللغوي... فالعمل غير
داخل في الإيمان، والأخبار الواردة بذلك محمولة على الإيمان الكامل الذي يكون للمؤمنين المتّقين المتورّعين
المخلصين المقبولين».
وقد ذكر العلّامة المجلسي- الذي جعل عنوان بابه: «باب أنّ
العمل جزء الإيمان»
- الآيات الكثيرة في هذا المعنى مفسّراً النصّ بأنّه إنّما أراد به دخوله فيه من حيث حصول
المراتب والدرجات فيه، قال قدس سره: «وبالجملة، هذه الآيات كلّها تدلّ على
اختلاف مراتب المؤمنين في
الثواب والدرجات عند اللَّه تعالى، و
المنازل في
الجنّة كما لا يخفى».
وقال: «اعلم أنّ الذي ظهر لنا من مجموع الآيات المتضافرة والأخبار المتكاثرة الواردة في الإيمان والإسلام وحقائقهما وشرائطهما أنّ لكلّ منهما إطلاقات كثيرة في
الكتاب والسنّة، ولكلّ منها فوائد وثمرات تترتّب عليه، فالأوّل من معاني الإيمان: مجموع
العقائد الحقّة والاصول الخمسة، والثمرة المترتّبة عليه في الدنيا
الأمان من
القتل و
نهب الأموال...
وفي الآخرة صحّة أعماله و
استحقاق الثواب عليها... الثاني:
الاعتقادات المذكورة مع
الإتيان بالفرائض التي ظهر وجوبها من
القرآن ، وترك الكبائر التي أوعد اللَّه عليها النار، وعلى هذا المعنى اطلق
الكافر على
تارك الصلاة وتارك الزكاة وأشباههم... الثالث: العقائد المذكورة مع فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرّمات، وثمرتُه
اللحوق بالمقرّبين... الرابع: ما ذكر مع ضمّ فعل المندوبات وترك المكروهات بل
المباحات ، كما ورد في
أخبار صفات المؤمن، وبهذا المعنى يختصّ
بالأنبياء و
الأوصياء كما ورد في الأخبار الكثيرة تفسير المؤمنين في الآيات
بالأئمّة الطاهرين عليهم السلام...
وأمّا الإسلام فيطلق غالباً على
التكلّم بالشهادتين والإقرار الظاهري وإن لم يقترن
بالإذعان القلبي ولا بالإقرار
بالولاية ... وثمرته إنّما تظهر في
الدنيا ... وليس له في الآخرة من
خلاق ، وقد يطلق على كلّ من معاني الإيمان حتى المعنى الأخير، فيكون بمعنى
الاستسلام و
الانقياد التّام. ثمّ إنّ الآيات والأخبار الدالّة على دخول الأعمال في الإيمان يحتمل وجوهاً: الأوّل: أن يحمل على ظواهرها ويقال: إنّ العمل داخل في حقيقة الإيمان على بعض المعاني...».
وقال في
نهاية الباب: «الذي ظهر ممّا قرّرناه أنّ الإيمان هو التصديق باللَّه وحده وصفاته و
عدله و
حكمته ، وبالنبوّة وبكلّ ما علم بالضرورة مجيء
النبي صلى الله عليه وآله وسلم به مع الإقرار بذلك، وعلى هذا أكثر المسلمين، بل ادّعى بعضهم
إجماعهم على ذلك، والتصديق
بإمامة الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام وبإمام الزمان، وهذا عند
الإماميّة »،
ولم يتعرّض لدخالة العمل فيه.
وبالجملة،
المستفاد من مجموع ما ذُكر أنّ الأقوال عند الإماميّة في الإيمان ثلاثة:
۱- الإيمان: هو
التصديق القلبي.
۲- هو مع الإقرار اللساني.
۳- هما مع
العمل بالجوارح.
ثمّ إنّ هناك أقوالًا اخر كالقول بأنّ الإيمان هو الإسلام لا غير، أو أنّه العمل بالجوارح فقط وغيرها،
ولم نتعرّض لها؛ لعدم قائل بها من الإمامية، بل القائل بها بعض الفرق الشاذّة من المسلمين، و
لوضوح فسادها بما مرّ.
تقدّم أنّ الإيمان هو الاعتقاد
بالتوحيد و
الرسالة ،
فالمنافق الذي يقرّ بها في
الظاهر لخوفٍ أو طمعٍ ونحوهما ومن دون
اعتقاد بها في
الباطن لا يصدق عليه
المؤمن قطعاً، لا بمعناه
الأعم ولا بمعناه الأخص؛ لفرض عدم اعتقاده و
العلم بكذبه فيما يقول، قال اللَّه تعالى: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ».
نعم، هو مسلم؛ لحصول الإسلام بمطلق
الشهادتين كما مرّ.
قال
السيّد الخوئي : «وبالجملة، وإن قلنا: إنّ المراد من الإيمان في القرآن غير ما هو المراد به في الأخبار وفي
الاصطلاح ، وإنّ المؤمن في
القرآن معنى أعم، ولكن مع ذلك لا يشمل المنافقين؛ لعدم إيمانهم باللَّه
أصلًا . نعم، يصدق عليهم الإسلام (المسلم)؛ لكونه مترتّباً على الإقرار بالشهادتين فقط وإن لم يقارن بالتصديق القلبي، فيترتّب عليهم حكم الإسلام في
المعاملات و
الإرث ».
فاتّضح بذلك أنّ من أظهر الشهادتين وعُلم
كذبه وعدم اعتقاده بهما فهو منافق، ومن أقرّ بهما أو مع الولاية وعلم صدقه واعتقاده بها، فهو مؤمن بالمعنى الأعم أو الأخص، فالأحكام الثابتة على المؤمن لا تشمل المنافق قطعاً، فقوله تعالى: «وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»
لا يمكن
الاستناد إليه في
إثبات حرمة بيع العبد المنافق للكافر.
نعم، صريح
الشيخ الأنصاري أنّ المراد من الإيمان في آية
نفي السبيل إنّما هو المقرّ بالشهادتين
مستشهداً على ذلك بقوله تعالى: «قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ»،
بيانه: أنّ قوله تعالى: «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» الظاهر في أنّ الإيمان قابل للتحقّق في
الخارج قبل دخوله في القلب، فما ثبت له في الخارج من إقرار الشهادتين فهو إيمان في الخارج ومشمول لآية نفي السبيل،
وعليه لا يجوز بيع العبد المنافق للكافر؛ لأنّه مؤمن و
مصداق للآية.
ولكن اجيب عنه بأنّه لا معنى لثبوت الإيمان في خارج القلب؛ لما مرّ من معنى الإيمان في اللغة، وهو التصديق والاعتقاد، وأمّا
التعبير بعدم دخول الإيمان في القلب فليس من جهة أنّ للإيمان محلّين: محلّ في الخارج، ومحلّ فيالقلب، بل من جهة أنّ الإيمان محلّه القلب فقط.
وكيف كان، فلا يمكن الحكم على كلّ من لم يدخل الإيمان في قلبه بعد- ولو لأنّه
قريب العهد بالإسلام- أنّه منافق قطعاً؛ إذ النفاق يستبطن الكذب والجحود الباطني كما مرّ في وصف المنافقين، فهو مسلم لا مؤمن ولا منافق.
ثمّ إنّ هذا كلّه بالنسبة إلى الواقع ومقام
الثبوت ، وأمّا مقام
الإثبات فالظاهر منهم أنّ كلّ من أظهر الشهادتين ولم يثبت نفاقه وكفره باطناً يُحكم بأنّه مؤمن بالمعنى الأعم، كما أنّه لو أقرّ بالولاية يحكم بإيمانه بالمعنى الأخص بمقتضى إقراره،
فيترتّب على كلّ منهما أحكامه فقهيّاً، من عدم جواز بيعه للكافر في الأوّل، وجواز
بذل الزكاة له وإمامته للجماعة في الثاني. وسيأتي تفصيل الكلام فيه في أمارات الإيمان من الإقرار ونحوه.
اتّضح ممّا تقدّم في حقيقة الإيمان عدم دخل العمل فيه، فالفاسق
بارتكابه المحرّمات وترك الواجبات لا يسلب منه الإيمان، ولا يخرج به عن حقيقته وقد مرّ تفصيل ذلك فراجع.
الموسوعة الفقهية، ج۱۹، ص۴۰۰-۴۱۲.