حجب حرمان الإرث
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
الحجب هو المنع ، ومنه قيل للستر حجاب؛ لأنّه يمنع من
المشاهدة ، ومنه الحجب في الفرائض؛ لأنّه يمنع من الإرث واستعمل في
الفقه بمعنى منع من قام به سبب الإرث بالكلّية أو من أوفر حظّيه، فالحجب على أقسام: منها: الحجب عن بعض ما يستحقّه الوارث لغيره مثل حجب الإخوة والأخوات
الامّ عن الثلث إلى السدس، والحجب لا للغير وهو قسمان: حجب عن
أصل الإرث، كحجب الأبعد بالأقرب، وحجب عن بعض الإرث كحجب
الأبوين بالأولاد، والفرق بين المنع بالأسباب المتقدّمة والحجب من وجوه نذكرها في عنوان
الإرث ، واصطلحوا على الأوّل حجب الحرمان ، والحجب المطلق أو العامّ ، وعلى الثاني بحجب النقصان ، والحجب المقيّد أو الخاصّ.
وهو أن يمنع
الحاجب المحجوب عن الإرث بالكلّية
بشرط خلوّه عن موانع
الإرث كمنع الأبعد بالأقرب.
والورثة بالنسبة إلى هذا الحجب ينقسمون إلى قسمين:
قسم لا يحجبون بحال من الأحوال وهم ستّة:
الأب والام والزوج والزوجة والابن والبنت.
وقسم عرضة للحجب وهم من عدا هؤلاء من الورثة من ولد الولد والجدّ و
الأخ والاخت والعمّ والخال وأولادهم والموالي والإمام،
فهم تارةً محجوبون عند وجود الحاجب، وتارةً يرثون عند عدم الحاجب حسب القواعد الآتي ذكرها.
المستفاد من كلمات الفقهاء أنّ حجب الحرمان مبنيّ على اصول ثلاثة: القرب وقوّة القرابة و
الإسلام .
بمعنى أنّ كلّ قريب من الورّاث يمنع البعيد منهم، وهو إمّا نسبي بمعنى
اتّصال بين شخصين بسبب الولادة،
أو سببي وهو قسمان: زوجيّة وولاء، والمراد به هنا تقرّب أحد الشخصين بالآخر على وجه يوجب
الإرث بغير نسب ولا زوجيّة
فقد نزّله الشارع منزلة النسب كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الولاء لحمة كلحمة النسب».
والفقهاء رتّبوا طبقات مستحقّي الإرث من
الأنساب والأسباب على أساس قاعدة الأقرب كالتالي:
الاولى: الآباء والأولاد.
الثانية:
الإخوة والأجداد.
الثالثة: الأعمام والأخوال.
الاولى: المعتق.
الثانية:
ضامن الجريرة .
الثالثة: الإمام.
فذو النسب من أيّ طبقة كان يحجب ذي الولاء، وكلّ طبقة سابقة من الأنساب والأسباب حاجبة للاحقة منهما، فمع أحد
الأبوين والأولاد لا يرث الإخوة والأجداد، ومع أحد الإخوة أو أولادهم أو الأجداد وإن علوا لا يرث الأعمام والأخوال وأولادهم. وكذا مع فقد ذوي الأنساب جميعاً و
انتهاء الأمر إلى ذوي الولاء فمع المعتق لا يرث ضامن جريرة، ومعه لا يرث
الإمام .
وأمّا الزوجان فيجتمعان مع جميع المراتب كما يأتي تفصيله.
الدرجة: هي الترتيب في
أهل كلّ مرتبة
على أساس الأقرب فالأقرب.
وهي تراعى في المرتبة الاولى في صنف الأولاد فقط لا الأبوين، فالأقرب منهم
الابن والبنت ثمّ أولادهما ثمّ أولاد أولادهما، وهكذا.
وفي المرتبة الثانية تراعى في الصنفين:
۱- صنف الأجداد: فالأقرب منهم أجداد الميّت، ثمّ أجداد أبويه ثمّ أجداد الأجداد، وهكذا.
۲- صنف الإخوة: فالأقرب منهم الأخ و
الأخت ثمّ أولادهما ثمّ أولاد أولادهما وإن نزلوا.
وفي المرتبة الثالثة تراعى بين الأعمام والأخوال وأولادهم المتنازلين،
ولا يلاحظ الحجب بسبب
اختلاف الدرجة بين أقرباء الميّت إلّا بعد توفّر أمرين:
اتّحاد رتبة الأقرباء، واتّحادهم في الصنف.
فإذا اتّحدت رتبة الأقرباء واختلفت درجاتهم وكانوا من صنف واحد يحجب الأقرب منهم الأبعد،
فعلى هذا الابن يحجب ابن الابن، وهو يحجب ابن ابن الابن، وهكذا، وأمّا الأب و
الامّ لا يحجبان الأولاد وإن نزلوا؛ لاختلافهم في الصنف.
وكذا الإخوة والأخوات يحجبون أولادهم وهم يحجبون أولاد أولادهم، والجدّ الأدنى يحجب الجد الأعلى، وهكذا، ولا يحجب الجدّ الأدنى أولاد الإخوة وإن نزلوا بدرجات، وكذا الأخ والاخت لا يحجبان الجدّ الأعلى وإن تصاعدا بمراتب؛ لاختلافهم في الصنف.
وأمّا الأعمام والأخوال فيعدّون صنفاً واحداً، فالعمّ يحجب
ابن الخال كما يحجب ابن العمّ، وكذا الخال يحجب ابنه وابن العمّ، وكذا
ابن العمّ وابن الخال فإنّهما يحجبان ابن ابن العمّ والخال، وهكذا.
وكذا عمّ الميّت وخاله وأولادهما يحجبون أعمام أبيه وأخواله وهم يحجبون أعمام جدّ الميّت وأخواله.
والضابط: هو أنّ
البطن الأسفل من الأجداد يمنع الأعلى، والأعلى من غيرهم مطلقاً يمنع الأسفل، ولا يشتركون في الإرث إلّا إذا تساووا في الدرجة.
ولا فرق في ذلك بين الذكر والانثى وبين أولاد البطون وأولاد الظهور، وكذا بين قرابة النساء والرجال في كلّ نواحي القرابة.
وخالف في ذلك العامّة فإنّهم لا يلتفتون إلى طبقات القرابة من حيث قرب درجاتها إلى الميّت إلّا بعد النظر في أمرين: في المنصوص عليه لأصحاب الفروض، و
إعطاء العصبات بعد أصحاب الفروض.
والدليل على ما اختاره فقهاؤنا هو أنّ الأقرب يمنع الأبعد؛ وفقاً لمقتضى قاعدة القرب المستفادة من الكتاب والسنّة المتواترة و
الإجماع .
أمّا الكتاب: فقوله تعالى: «وَ أُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ»،
فإنّ المراد من (اولي الأرحام) الأقرب فالأقرب بلا خلاف.
وأمّا السنّة:
فمنها: رواية
محمّد بن مسلم عن
الإمام الباقر عليه السلام قال: «لا يرث مع الام ولا مع الأب ولا مع الابن ولا مع
الابنة إلّا الزوج والزوجة».
ومنها: رواية
زرارة عنه عليه السلام أيضاً: في رجل مات وترك ابنته واخته لأبيه وامّه، فقال: «المال للابنة، وليس للُاخت من الأب والامّ شيء».
ومنها: رواية
أبي بصير عن
الإمام الصادق عليه السلام : عن رجل مات وترك أباه وعمّه وجدّه، قال: فقال: «حجب الأب الجدّ عن الميراث، وليس للعمّ ولا للجدّ شيء».
ومنها: رواية زرارة قال: سمعت
أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: «وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ»
قال: «إنّما عنى بذلك اولي الأرحام في المواريث ولم يعن أولياء النعمة، فأولاهم بالميّت أقربهم إليه من الرحم التي تجرّه إليها».
ومنها: مرسلة
يونس عنه عليه السلام أيضاً قال: «إذا التفّت القرابات فالسابق أحقّ بميراث قريبه، فإن استوت قام كلّ واحد منهم مقام قريبه».
أمّا الإجماع: فقد ادّعاه جماعة منهم
الشهيد الثاني حيث قال: «هذا موضع وفاق بين الإماميّة».
وقال
السيد العاملي : «وهو إجماع فينا».
وقال
المحقّق النجفي : «بلا خلاف...بل الإجماع بقسميه عليه، بل لعلّه من ضروريّات مذهبنا».
اتّفق
الفقهاء على أنّ الأقوى قرابةً- وهو من يتقرّب بالأب والامّ، كالأخ والعمّ منهما- يحجب الأضعف كالإخوة من الأب وحده والعمّ كذلك؛ لقول الإمام الباقر عليه السلام: «عمّك أخو أبيك من أبيه وامّه أولى بك من عمّك أخي أبيك من أبيه».
وخالفنا الجمهور حيث ورّثوا الإخوة والأخوات من الأب مع الإخوة والأخوات من الأب والامّ.
ويشترط في الحجب ب (قوّة القرابة) أمران: اتّحاد القرابة، وتساوي الدرجة.
قال المحقّق النجفي: «إنّ المتقرّب بالأبوين في جميع حواشي النسب ولو واحداً انثى يمنع المتقرّب بالأب خاصّة وإن كان متعدّداً ذكراً، بشرط اتّحاد القرابة وتساوي الدرجة كالإخوة للأبوين مع الإخوة للأب والأعمام والأخوال لهما مع الأعمام والأخوال له، فلو اختلفت القرابة اشتركا إن استوى القرب كالعمّ لهما مع الخال له وبالعكس، فهما من هذه الجهة حينئذٍ كالصنفين».
واستثني من ذلك مسألة إجماعيّة،
وهي ما إذا اجتمع ابن عمّ لأبوين مع عمّ لأب فيقدّم ابن العمّ على العمّ وإن كانت هي على خلاف القواعد المقرّرة.
قال الشهيد الثاني: «هذه هي المسألة المعروفة بالإجماعية المخالفة للُاصول المقرّرة والقواعد المعتبرة من تقديم الأقرب إلى الميّت على الأبعد، وليس في
أصل حكمها خلاف لأحد من الطائفة، مع أنّ الأخبار
الواردة بها ليست معتبرة
الإسناد ، فلا مستند لها إلّا الإجماع».
ونحوه غيره.
نعم، نسبه
الشيخ الصدوق في الفقيه
إلى الخبر الصحيح الوارد عن
الأئمّة عليهم السلام ، وعلّله فيه وفي المقنع بأنّه قد جمع الكلالتين: كلالة الأب وكلالة الامّ،
ونحوه المفيد، حيث قال: «لأنّ ابن العمّ يتقرّب إلى الميّت بسببين، والعمّ يتقرّب بسبب واحد، وليس كذلك حكم الأخ للأب وابن الأخ للأب والامّ؛ لأنّ الأخ وارث بالتسمية الصريحة، و
ابن الأخ وارث بالرحم دون التسمية... والعمّ وابن العمّ فإنّما يرثان بالقربى دون التسمية، فمن تقرّب بسببين منهما كان أحقّ ممّن تقرّب بسبب واحد...».
وظاهره كون ذلك على وفق القاعدة فيمن يرث بالقربى، ومقتضاه التعدية إلى الخال وابن الخال، بل وإلى غير ذلك.
ثمّ إنّه وقع الخلاف بينهم فيما لو تغيّرت صورة المسألة كبنت عمّ لأبوين وعمّ وغيرها، وسيأتي تفصيله فيما بعد.
حجب
المسلم للكافر عن مورّثه الكافر فرع أن يثبت في المرحلة السابقة أصل إرثه منه، فلا بدّ أن يتّضح أوّلًا الموقف الفقهي من هذه المسألة (إرث المسلم من الكافر)، ثمّ يأتي البحث عن حجبه الوارث الكافر، فترتيب البحث كالتالي:
يرث المسلم الكافر بأنواعه أصليّاً أو مرتدّاً؛ لأنّ الإسلام لم يزده إلّا عزّاً كما في النصوص،
وعليه إجماع الطائفة.
قال المحقّق النجفي: «لا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المنقول منه نصّاً وظاهراً... مستفيض».
وقد تطابقت كلمات فقهائنا على ذلك نستعرض جملة منها:
قال
الشيخ المفيد : «ويرث أهل الإسلام بالنسب والسبب أهل الكفر والإسلام، ولا يرث كافر مسلماً على حال، فإن ترك اليهوديّ أو النصراني أو المجوسي ابناً مسلماً وابناً على ملّته فميراثه عند
آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لابنه المسلم دون الكافر».
وقال علم
الهدى : «نحن نرث المشركين ونحجبهم، هذا صحيح، وإليه يذهب أصحابنا».
وحيث إنّ المسألة اتّفاقيّة عندنا يكفي هذا العرض من كلمات الفقهاء.
وخالفنا في ذلك بعض الجمهور حيث ذهب معظمهم إلى عدم إرث المسلم من الكافر فضلًا عن حجبه لإرث الكافر منه.
واستدلّوا بما روي عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «لا يتوارث أهل ملّتين شتّى».
وردّ عليهم بأنّ المراد نفيه من الطرفين بأن يرث كلّ منهما الآخر كما ورد تفسيره بذلك في النصوص، لا أنّ المراد منه نفي إرث المسلم منه.
وأمّا ما استدلّ به فقهاؤنا فعدّة وجوه:
الأوّل: إجماع الطائفة كما ظهر من استعراض كلماتهم، ووجود أدلّة اخر في كلماتهم على الحكم المذكور، بل وروايات عن المعصومين عليهم السلام تدلّ عليه لا يقدح في الإجماع المذكور ولا يجعله مدركيّاً؛ لأنّ لحن كلمات فقهائنا القدماء وتصريحهم بأنّ المسألة «ممّا انفردت به
الإمامية »
وأجمعت عليه، أو أنّه «عند آل محمّد»،
مع كون المسألة محلّ اختلاف منذ القديم بين المذهبين و
إقرار كلا الطرفين في كتبهم؛ بأنّ قول علي والحسن وزين العابدين عليهم السلام مخالف مع الجمهور، كلّ هذه القرائن والنكات توجب
الاطمئنان بأنّ هذا الحكم كان واضحاً مسلّماً عند الطائفة ومعلوماً من موقف مذهبنا حتى عند الجمهور فضلًا عن الخاصّة، فمثل هذا الإجماع لا إشكال في كشفه الجزمي عن رأي
المعصوم عليه السلام، فيكون أقوى الحجج في المسألة.
الثاني: أنّه مقتضى القاعدة، المستفادة من عمومات الكتاب والسنّة، حيث دلّت على ثبوت الميراث بأسبابه وهو يعمّ الكافر والمسلم، خرج من عمومه أنّ الكافر لا يرث المسلم بالأدلّة الخاصّة وبالإجماع، بل الضرورة من الدين، فيبقى غيره تحت العموم.
الثالث: الروايات الخاصّة، فإنّ هناك مجموعة من الروايات قد تبلغ حدّ
الاستفاضة دلّت على أنّ المسلم يرث الكافر:
منها: قول الإمام الصادق عليه السلام: «المسلم يرث امرأته الذمّية، وهي لا ترثه»،
ونحوه روايات اخر.
الوارث المسلم يمنع الوارث الكافر وإن كان أقرب منه بلا خلاف، بل قد ادّعي عليه الإجماع،
فلو مات كافر وله وارث كافر ووارث مسلم- غير الإمام والزوجة- كان ميراثه للمسلم وإن بعد نسباً أو سبباً كمولى نعمة أو ضامن جريرة، دون الكافر وإن قرب كالولد، أمّا عدم حجب الإمام فواضح؛ لأنّ الكفّار يرثون بعضهم بعضاً، فلو حجب الإمام لم يبق لتوريث الكافر بعضهم من بعض مجال.
وأمّا الزوجة فعدم حجبها مبنيّ على أنّ الزائد من فرضها لا يردّ عليها فيما لو انحصر
الوارث بها، بل يكون للإمام وفيه خلاف،
كما يأتي.
ثمّ إنّ حجب المسلم للكافر إنّما يأتي فيما لو كان المورّث كافراً، وأمّا إذا كان المورّث مسلماً وكان له وارث كافر ووارث مسلم ففي هذه الحالة عدم إرث الكافر ليس من جهة حجب المسلم له، بل لوجود مانع فيه وهو الكفر، ولذا لا يرث حتى لو كان وحده، بل يرثه الإمام.
وعلى أيّ حال، فإنّ أصل الحكم- وهو حجب المسلم للكافر- مجمع عليه عند فقهائنا. وقد سبق جملة من عبائرهم التي تكشف عن
التسالم القطعي، خصوصاً تعبيرهم ب: «عند آل محمّد» أو «نرثهم ونحجبهم» أو أنّه «مذهب أصحابنا»، ونحو ذلك.
ويدلّ عليه
إطلاق رواية
الحسن بن صالح ، قال: «المسلم يحجب الكافر ويرثه، والكافر لا يحجب المسلم ولا يرثه».
وبعض الروايات الخاصّة، كمرفوعة ابن رباط ، قال: قال
أمير المؤمنين عليه السلام : «لو أنّ رجلًا ذمّياً أسلم وأبوه حيّ ولأبيه ولد غيره، ثمّ مات الأب، ورثه المسلم جميع ماله، ولم يرثه ولده ولا
امرأته مع المسلم شيئاً»،
إلّا أنّها ضعيفة السند.
وفي قبال هذه الروايات روايتان معتبرتان سنداً دلّتا على عدم الحجب، وقد حملهما المشهور على التقيّة؛ لموافقتهما الجمهور:
الاولى: رواية
ابن أبي نجران عن غير واحد عن الإمام الصادق عليه السلام: في يهودي أو نصراني يموت وله أولاد مسلمون وأولاد غير مسلمين، فقال: «هم على مواريثهم».
الثانية: رواية
ابن أبي عمير عن غير واحد عنه عليه السلام أيضاً: في يهودي أو نصراني يموت وله أولاد غير مسلمين، فقال: «هم على مواريثهم».
فإنّهما تدلّان على أنّ الأولاد كلّهم سواء في الإرث، ولا يحجب الكفّار منهم بالمسلمين. وهما أخصّ من رواية الحسن ابن صالح الدالّة بإطلاقها على حجب المسلم للكافر سواءً كان المورّث مسلماً أو كافراً، فتقيّد بما إذا كان المورّث مسلماً.
نعم، مدلولهما ينافي مدلول
مرفوعة ابن رباط ، ولكن لا يوجب ذلك وقوع المعارضة بينها؛ لعدم التكافؤ في الحجّية، حيث إنّ المرفوعة ضعيفة السند، ومن شرائط التعارض تماميّة سند المتعارضين في حدّ نفسهما، كما هو منقّح في محلّه، ولو فرض
اعتبار السند في كلا الطرفين ووقع التعارض بينهما كان المرجّح هذين الحديثين؛ لمطابقتهما مع الكتاب الدالّ بعمومه على إرث ذوي الأرحام بعضهم من بعض، والترجيح بموافقة الكتاب مقدّم على الترجيح بمخالفة الجمهور، وبناءً على هذا تكون شرائط الأخذ بالحديثين متوفّرة.
و
الاعتراض بأنّه يسقط سندهما بإعراض الفقهاء عن العمل بهما- بناءً على كبرى وهن السند بالإعراض- يدفعه: أنّه لم يثبت
الإعراض ؛ لما نرى من محاولة مثل
الشيخ الطوسي الجمع بين النصوص المثبتة للحجب والنافية له بقوله: «معنى قوله عليه السلام: «هم على مواريثهم» أي على ما يستحقّون من ميراثهم، وقد بيّنا أنّ المسلمين إذا اجتمعوا مع الكفّار كان الميراث للمسلمين دونهم، ولو حملنا الخبر على ظاهره لكان محمولًا على ضرب من
التقيّة ».
فلا إعراض عن سند الحديثين، وإلّا لما حاول الشيخ الجمع أو الحمل على التقيّة، وإن كانت المحاولة مردودة من وجهين:
الأوّل: أنّ ما ذكر من الجمع لا يناسب أن يكون جواباً عن السؤال؛ لأنّ السؤال عمّا يستحقّونه شرعاً فلا بدّ للإمام أن يبيّن ما هو الحكم الشرعي، وأنّ
الاستحقاق للمسلم خاصّة دون الولد الكافر، لا أن يقول: إنّهم على ما يستحقّونه شرعاً؛ فإنّ هذه كالقضيّة بشرط المحمول الواضح عند كلّ أحد.
الثاني: أنّ الحمل على التقيّة
ابتداءً غير صحيح، وإنّما يلجأ إليه عند
استحكام التعارض بين حديثين معتبرين سنداً، وعدم وجود جمع عرفي بينهما، وعدم وجود ترجيح سندي مقدّم على الحمل على التقية وهو الترجيح بموافقة الكتاب وطرح المخالف له.
وفي المقام لا تصل النوبة إلى الحمل على التقيّة؛ لأنّ هذا الحديث معتبر سنداً؛ لأنّ مراسيل ابن أبي عمير عن غير واحد معتبرة خصوصاً مع نقل ابن أبي نجران الثقة العظيم الشأن عن غير واحد عن الإمام له أيضاً، بخلاف ما دلّ على الحجب، ودعوى سقوط سنده بالإعراض مدفوعة بعدم ثبوته كما تقدّم، هذا أوّلًا.
وثانياً: لو فرض اعتبار السند في الطرفين ووقع التعارض كان المرجّح هذا الحديث؛ لموافقته للكتاب الدالّ بعمومه على إرث ذوي الأرحام بعضهم من بعض، وهو مقدّم على الترجيح بمخالفة الجمهور، مع أنّه كلا الطرفين مخالف مع فتوى الجمهور فلا موضوع لهذا الحمل.
والمتحصّل من مجموع ما تقدّم في هذه المسألة: أنّه لو لم يحصل الجزم أو الاطمئنان بالحكم الشرعي من الإجماع المدّعى وتسالم فتاوى الأصحاب على حجب المسلم للكافر حتى في إرثه عن المورّث الكافر فبمقتضى الصناعة لا يمكن تخريج هذه الفتوى المشهورة، بل الأصح عندئذٍ هو القول بعدم الحجب؛ عملًا بحديث ابن أبي نجران وابن أبي عمير المتقدّمين عن غير واحد؛ لموافقتهما للكتاب أو العمل بإطلاقات الإرث بعد فرض
التعارض و
التساقط بين الروايات.
قال
المحقّق الحلّي : «لو خلّف نصراني أولاداً صغاراً وابن أخ وابن اخت مسلمين، كان لابن الأخ ثلثا التركة، ولابن الاخت ثلثه، وينفق الاثنان على الأولاد بنسبة حقّهما، فإن بلغ الأولاد مسلمين فهم أحقّ بالتركة... وإن اختاروا الكفر استقرّ ملك الوارثين على ما ورثاه ومنع الأولاد. وفيه إشكال، ينشأ من
إجراء الطفل مجرى أبويه في الكفر، وسبق القسمة على الإسلام يمنع الاستحقاق».
ودليل هذا الحكم رواية
مالك بن أعين .
وقد عمّم هذا الحكم بعض الفقهاء- كالحلبي و
ابن زهرة - إلى مطلق ما إذا كان للكافر أولاد صغار وذو قرابة مسلم، فإنّه ينفق عليهم من التركة حتى يبلغوا، فإن أسلموا فالميراث لهم، وإن لم يسلموا كان لقرابته المسلم، فلم يخصّصوا.
إذا تمّ الدليل على حجب المسلم للكافر عن إرثه لمورّثه الكافر فهل يمكن الخروج عن ذلك من خلال عقد الذمّة، وما يتّفق فيه الكافر مع الحاكم الإسلامي والولي الشرعي من حقوقه في
المجتمع المسلم أو لا يصحّ ذلك؟
استظهر بعض الفقهاء من أدلّة إعطاء الذمّة و الأمان
لأهل الكتاب من الكفّار من قبل وليّ
الأمر والحاكم الشرعي إمكان منع الحجب ضمن عقد الذمّة، حيث قال: «قد يقال بعدم صحّة ذلك من جهة أنّ الحجب حقّ للوارث المسلم وليس شيئاً يرجع إلى الكافر الذمّي لكي يمكن أن يتنازل عنه ضمن عقد الذمّة للحاكم الإسلامي، ولا هو من الامور العامّة... وفي قبال ذلك يمكن أن يذكر وجهان لصالح القول بعدم الحجب في مورد الذمّة ونحوها:
الأوّل: أنّ مهمّ الدليل على حجب المسلم لإرث الكافر عن الكافر إنّما كان الإجماع والتسالم الفقهي؛ لعدم تماميّة سائر الاستدلالات المتقدّمة، ومن الواضح أنّ
القدر المتيقّن من هذا الإجماع والتسالم- لو تمّ- غير موارد الذمّة و
التزام الحاكم الشرعي بحفظ الحقوق الخاصّة للكفّار في بلاد المسلمين، فلعلّ هذه الخصوصيّة دخيلة في أن يرث الكافر من الكافر مطلقاً- أي حتى مع وجود المسلم ضمن الورثة- وأن لا يمنع الكفّار من إرث بعضهم بعضاً كما هو مقتضى شرعهم، ومقتضى القاعدة الأوّليّة في شرعنا أيضاً، ولا جزم بعدم دخول هذه الخصوصيّة في هذا الحكم الفقهي.
الوجه الثاني: أنّ أدلّة جواز إعطاء الحاكم الشرعي
الأمان أو الذمّة للكفّار بنفسها تقتضي جواز هذا الحقّ وثبوته لهم بعد إعطائهم الأمان والذمّة؛ لأنّ تلك الأدلّة بمثابة المخصّص أو الحاكم على ما دلّ على سلب حرمة دم الكافر وماله وعرضه وسائر شئونه، ومسألة حجب المسلم لإرث الكافر عن مورّثه الكافر من شئون سلب حرمة مال الكافر بحسب مناسبات الحكم والموضوع المتبادر عرفاً ومتشرّعياً من مثل هذا الحكم، فيكون من
اختيارات الحاكم الشرعي وصلاحيّاته حفظ هذا الحقّ للكافر من خلال إعطائه الأمان أو الذمّة داخل بلاد
الإسلام ».
الموسوعة الفقهية، ج۹، ص۸۷- ۱۰۰.