موارد الأنفال
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
اتّفق
الفقهاء على عدّ بعض الموارد من
الأنفال ، واختلفوا في موارد اخرى حيث لم يجمعوا على عدّها منها، وتلك الموارد هي:
أجمع الفقهاء على أنّ
الأرض التي تملك من غير
قتال ، ولم يوجف عليها
بخيل ولا
ركاب - سواء انجلى عنها أهلها، أو سلّموها
للمسلمين طوعاً - من الأنفال؛
استدلّوا على ذلك بالآية الكريمة: «وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ».
وقد اشكل على الاستدلال بهذه الآية الكريمة بأنّ
المال المأخوذ من بني النضير حسب هذه الآية الكريمة هو للَّهورسوله ولا يشاركه شركاؤه في
الخمس ، مع أنّ الآية التي تلي هذه وبدون ذكر عاطف مشعر بالمغايرة تصرّح بعين ما صرّحت به آية
الغنيمة ، قال تعالى: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ».
وقد ورد في جملة من الكلمات
التصريح بأنّ الآية الثانية بيان للُاولى؛ ولذلك لم تعطف عليها. وإن كانت الآية الثانية غير مرتبطة بسابقتها، ولا ينافيه عدم
العطف كما أنّ ذكر العاطف لا ينافي
التوكيد ، بل كانت من آيات الخمس وكانت متّحدة المفاد مع آية سورة الأنفال، فيشكل حينئذٍ بأنّ صريح
الآية أنّ ما أفاء
اللَّه من
أهل القرى بتمامه للَّهولرسوله ولذي القربى و
اليتامى و
المساكين و
ابن السبيل .
ومحصّل
الشبهة : أنّ الآية الاولى ساكتة عن بيان
المصرف و
تعيين من له المال، والثانية إن كانت مبيّنة
لإجمال الاولى فينافيه ما هو المسلّم من أنّ المأخوذ بلا خيل ولا ركاب من الأنفال، وإن كانت مساوقة لآية الخمس (في سورة الأنفال)
فلا يوافق ما هو المسلّم أيضاً من أنّ المأخوذ بالقتال يخمّس، وخمسه يقسّم بين الطوائف المذكورة، وظاهر الآية عدم
إعطاء شيء لغير
الإمام .
وقد اشير إلى هذا
الإشكال في جملة من الكلمات، واجيب عنه بوجوه لا تخلو عن
الخدش .
وقد أجاب عنه بعض المعاصرين «بأنّ
موضوع الآية الاولى هو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وهو راجع إلى
النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، والآية المباركة ظاهرة في ذلك. ومع التنزّل عن ظهور الآية ودعوى سكوتها عن بيان المصرف، فالروايات صريحة الدلالة على ذلك، ولا خلاف في المسألة.
وأمّا الآية الثانية فموضوعها «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى»،
و
المراد به ما يؤخذ منهم بالقتال وبعد الغلبة عليهم ودخول قراهم بقرينة
المقابلة مع الآية الاولى، ولم يذكر فيها أنّ ما يرجع إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أيّ مقدار ممّا غنمه المسلمون، إلّاأنّ آية الغنيمة قد كشفت
القناع عنه وبيّنت أنّ ما يغنمه المسلمون فخمسه يرجع إليه صلى الله عليه وآله وسلم، كما وبيّن مصرفه في كلتا الآيتين. ولا يقدح تخصيصه صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر مع انّه أحد الستّة؛ لكونه
المحور و
الأصيل في هذا
التسهيم كما لا يخفى.
هذا، وأنّ صحيحة
محمّد بن مسلم عن
أبي جعفر عليه السلام صريحة في أنّ الآية الثانية ناظرة إلى الغنيمة، كما أنّ الاولى ناظرة إلى الأنفال، قال عليه السلام: «
الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة
الدماء ... أو بطون أودية، فهو كلّه من الفيء، فهذا للَّه ولرسوله، فما كان للَّهفهو لرسوله يضعه حيث يشاء، وهو للإمام بعد
الرسول »، وأمّا قوله (تعالى): «وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ»
قال: «ألا ترى هو هذا؟
وأمّا قوله (تعالى): «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى» فهذا بمنزلة المغنم...».
ولا ينافيه التعبير بالمنزلة المشعر بالمغايرة؛ لجواز كون
التغاير من أجل اختلاف المورد بعد
الاشتراك في
الحكم ، نظراً إلى أنّ
الغالب في الغنائم
الاستيلاء عليها في دار
الحرب وساحة القتال، لا من أهل القرى، فاشير إلى تنزيل إحدى الغنيمتين منزلة الاخرى».
واستدلّ كذلك على كون ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب من الأنفال بعدّة روايات:
صحيحة أو حسنة
حفص بن البختري عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكلّ أرض خربة، وبطون
الأودية ، فهو لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء».
صحيحة محمّد بن مسلم عنه عليه السلام أيضاً، أنّه سمعه يقول: «إنّ الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم، أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم، وما كان...».
ومنها: مرسلة
حمّاد بن عيسى عن
العبد الصالح عليه السلام - في حديث- قال: «وللإمام... وله بعد الخمس الأنفال، والأنفال كلّ أرض خربة قد باد أهلها، وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحاً وأعطوا بأيديهم على غير قتال...».
موثّقة
زرارة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت له: ما يقول اللَّه: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ»
؟ قال: «الأنفال للَّهوللرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي كلّ أرض جلا أهلها من غير أن يحمل عليها بخيل ولا رجال ولا ركاب فهي نفل للَّه وللرسول»،
ونحوها روايات اخرى،
ومقتضى
المحافظة على
العنوان المأخوذ في هذا القسم من الأنفال، بحيث يُعدّ قسماً بحدّ نفسه واستقلاله في مقابل القسم الآتي، تعميم الحكم لمطلق الأرض التي يستولي عليها المسلمون بغير قتال، سواء أكانت من الموات أم المحياة، كما هو مقتضى إطلاق كلمات الفقهاء؛ إذ لو كانت مختصة بالموات لم يكن وجه حينئذٍ للتقييد بعدم القتال المأخوذ في هذا العنوان.
هذا، وقد استظهر بعض الفقهاء من بعض الروايات دخول كلّ ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب في الأنفال لا خصوص الأرض،
مثل
الفرش و
الأواني ونحوها من المنقولات وإن كان الظاهر من كلمات أكثر الفقهاء- بل لعلّه
المشهور - هو
الاختصاص حيث قيّد الموضوع في كلماتهم بالأرض
وإن كان ظاهر كلماتهم في الغنيمة العموم، حيث عبّروا بأنّ ما يتركه المشركون فزعاً ومن غير
حرب أو ما ينجلي عنه الكفّار من غير قتال فهو للإمام،
بل ممّا يؤيّد ذلك أنّهم ذكروا ذلك في مقام
المنقول ممّا يؤخذ من الكفّار.
ومن تلك الروايات التي يظهر منها العموم صحيحة حفص بن البختري المتقدمة، فإنّ
الموصول في قوله عليه السلام: «ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب» يعمّ الأرض وغيرها.
قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام:
السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف تقسّم؟ قال: «إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم اخرج منها الخمس للَّهوللرسول، وقسّم بينهم ثلاثة
أخماس، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كلّ ما غنموا للإمام يجعله حيث أحبّ»،
فإنّها تدلّ بصيغة العموم على
شمول الحكم لكلّ غنيمة لم يقاتل عليها.
لكن يبقى
ظهور النصوص الاخرى في
الاختصاص حيث وردت في
مقام البيان و
شرح مفهوم الأنفال، وظاهر
التفسير أنّ للأرض خصوصية في هذا العنوان فله نوع مفهوم يدلّ على
نفي الحكم عن غيره؛ إذ ما ورد في مقام
التحديد يدلّ على المفهوم بطبيعة
الحال ، ولأجله يقيّد
الإطلاق في هاتين الروايتين.
ولعلّ هذا هو
وجه تقييد الموضوع في كلمات
الأكثر بالأرض، فلابد لمدعي العموم من الجواب عن ذلك.
وقد أجاب
السيّد الخوئي عنه بقوله: «لابدّ من رفع
اليد عن هذا الظهور: أمّا أوّلًا فلأنّ تلك الروايات لم تكن في مقام بيان الأنفال بتمام أقسامها، كيف وهي غير منحصرة في الأراضي بالضرورة، فإنّ منها قطائع
الملوك و
ميراث من لا
وارث له و
المعادن ونحوها، ولم يتعرّض فيها إليها، فيعلم أنّها بصدد بيان
مصداق الأنفال ولو من باب
المثال ، لا تحديد مفهومه ليدلّ على
الانحصار كما لا يخفى.
وثانياً: أنّ الظهور المزبور وإن كان قابلًا لأن يقيّد به الإطلاق في صحيحة حفص إلّا أنّه غير قابل لأن يخصّص به العموم في صحيحة
معاوية بن وهب ... حيث إنّ دلالتها على الشمول و
الاستيعاب بالعموم اللفظي و
الدلالة الوضعية التي هي أظهر من الإطلاق وأقوى من الظهور المزبور
المستند إلى المفهوم، فإنّه كالصريح في عدم الفرق بين الأرض وغيرها وأنّ
المدار على
الاغتنام بمفهومه العام الشامل لكلا الموردين بمناط واحد، على أنّ في صدر هذه الرواية دلالة اخرى على الشمول لغير الأراضي أعني قوله: (فيصيبون غنائم كيف تقسّم؟) فإنّ السؤال عن تقسيم ما يصيبونه من الغنائم ظاهر في المنقول، بل لعلّه القدر المتيقّن منه بحيث لا يمكن التخصيص بالأراضي قطعاً».
ثمّ اعتبر قدس سره ذلك مطابقاً لإطلاق الآية المباركة: «وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ...».
وهناك بعض الموارد التي قد يقع
البحث في دخولها تحت عنوان ما يملك من
الكافرين بغير قتال، وهي كالآتي:
قد يقال بدخول ما تركه
المشركون فزعاً في جملة الأنفال التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولا
هراقة دم، كما لو نزل المسلمون على
حصن للمشركين فهرب أهله وتركوا أموالهم فيها فزعاً، فهذه من الأنفال؛ لعدم حصول القتال فيها. وقد قوّى هذا القول
الشيخ الطوسي في
المبسوط .
بل جزم به في موضع آخر،
وكذا جزم به المحقّق في
الشرائع ،
والعلّامة في
القواعد ،
وموضع من
التذكرة ؛
وعلّله المحقّق النجفي بضرورة كونه ممّا أفاء اللَّه على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب.
بينما ظاهر العلّامة- بل لعلّه صريحه- في
المنتهى وموضع من التذكرة
كونه من الغنائم. وفصّل
المحقّق الكركي بين ما إذا كان الفزع بسبب إيجاف المسلمين عليهم بالخيل والركاب فإنّه في هذه الحالة يكون غنيمة معتبراً ذلك صريح القرآن
وبين غيره فيكون للإمام، والظاهر أنّ المدار عنده على
الإيجاف وعدمه لا الحرب وعدمها، حيث قال- معلّقاً على قول العلّامة في مقام بيان الغنيمة «دون ما ينجلي عنه الكفار بغير قتال فإنّه للإمام»
-: «الأولى أن يقول: بغير إيجاف بخيل ولا ركاب؛ لأنّ مقتضى عبارته أنّ ما اخذ بالفزع- مثل أن ينزل المسلمون على حصن أو على
قلعة فيهرب أهله ويتركون أموالهم فزعاً- أن لا يكون غنيمة، وقد صرّح في المنتهى والتذكرة بأنّه غنيمة، وهو صريح
القرآن العزيز ، واختار الشيخ أنّه ممّا أفاء اللَّه على رسوله، والأوّل هو الأظهر».
وقال- عند قول العلّامة: «وما يتركه الكفّار فزعاً ويفارقونه من غير
حرب فهو للإمام»
-: «... هذا حيث لا يوجف المسلمون عليهم بالخيل والركاب، فإنّ ما يتركونه في هذه الحالة غنيمة على الأصحّ».
قال العلّامة الحلّي في التذكرة نقلًا عن بعضهم: «لو وجد ضالةً لحربي في دار
الإسلام ، لا يختص هو به، بل يكون فيئاً، وكذا لو دخل
صبي أو
امرأة بلادنا فأخذه
رجل ، يكون فيئاً... لأنّها مال الكفّار حصل في أيدينا من غير قتال».
إذا مات الحربي ولم يكن له وارث مسلم، فماله فيء، ويكون للإمام من جهتين:
الاولى: ما ذكره بعض الفقهاء من أنّه ميراث مَن لا وارث له، وهو من موارد الأنفال.
الثانية: من أنّه مال كان لحربي، وملك من غير حرب، فهو ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، كما أشار إليه بعضهم.
وعليه فلو عقد الحربي لنفسه
الأمان ليسكن دار الإسلام دخل ماله تبعاً له، فإذا التحق بدار الحرب وخلّف عندنا مالًا
وديعة أو غيرها انتقض أمانه لنفسه دون ماله، فإن مات انتقل إلى وارثه إن كان مسلماً، وإلّا انتقض الأمان في الحال، وصار فيئاً للإمام خاصة حيث لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب.
من الموارد التي ادّعي عدم الخلاف
في كونها من الأنفال، بل ادّعي فيها
الإجماع ،
الأرض
الموات التي لا ربّ لها، سواء لم يكن لها
مالك أصلًا
كالبراري و
المفاوز ، أو كان لها مالك وتركها أو باد عنها بحيث عرضها
الخراب بانجلاء الأهل أو هلاكهم، فيعم الحكم مطلق الموات، ذاتاً كان أو عرضاً. و
المرجع في تشخيص الموات هو
العرف كما ذكره العديد من الفقهاء.
وذكر البعض أنّها التي لا ينتفع بها لعطلتها بانقطاع
الماء عنها، أو
استيجامها ، أو
استيلاء الماء عليها، أو
التراب أو
الرمل ، أو ظهور
السبخ فيها، أو غير ذلك من موانع
الانتفاع ،
وإليه تعود العديد من العبائر.
قال
المحقّق الهمداني بعد ذكر التعريف المتقدّم: «وملخّصه: كلّ أرض معطّلة غير ممكن الانتفاع بها إلّابعمارتها وإصلاحها».
واستدلّ على كون الأرضين الموات من الأنفال بجملة من
الأخبار :
المتقدّمة، حيث قال
الإمام الصادق عليه السلام فيها: «... وكلّ أرض خربة...».
قال: سألته عن الأنفال، فقال: «كلّ أرض
خربة ...».
صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه سمعه يقول: «إنّ الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم، أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم، وما كان من أرض خربة...».
والأرض الخربة المذكورة في هذه الروايات لا يراد بها ما كان لها مالك معلوم بالفعل، وإن كان إطلاقها يشمل ذلك، بل
المقصود هي تلك الأرض التي انجلى أهلها وأعرضوا عنها، وذلك حسب مقتضى أدلّة اخرى ناظرة إلى موضوع الحكم، مثل
موثقة إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الأنفال، فقال: «هي القرى التي خربت وانجلى أهلها، فهي للَّهوللرسول...»،
فمجرّد الخراب لا يستوجب الخروج عن ملك المالك والدخول في ملك الإمام عليه السلام ليعدّ من الأنفال، بل هو مشروط
بالإعراض و
الانجلاء .
وبالجملة، فالأرض الخربة التي لم يسبق إليها ملك أحد، أو سبق ولكن انجلى وأعرض أو باد أهلها، كلّ ذلك ملك للإمام عليه السلام وهذا واضح لا خلاف فيه، إنّما الكلام في أمرين:
وقع الكلام في أنّ ذلك هل يختص بما إذا كان المالك معلوماً بأن كان شخصاً معيّناً كزيد، أو عنواناً
كالوقف على الزوار- مثلًا- أو يعمّ ما إذا كان سنخ
الملك من قبيل ما يملكه المسلمون في الأراضي الخراجية. فلو خربت
الأرض الخراجية بعد أن كانت
عامرة وانجلى عنها أهلها، فهل تعدّ حينئذٍ من الأنفال وتنتقل إلى الإمام، أو أنّ حكمها حكم الملك الشخصي الذي له مالك معيّن بالفعل في أنّه بمجرّد الخراب لا يخرج عن ملكه، ولا ينتقل إلى الإمام، فلا فرق في عدم انتقال ماله مالك فعلي إلى الإمام بين ما كان المالك شخصاً معيّناً أو جهة- كالوقف- أو عامة المسلمين. فمثل أرض
العراق المعبّر عنها بأرض
السواد التي كانت عامرة حال
الفتح وكانت ملكاً لعامة المسلمين، لو عرضها الخراب فهل تنتقل إلى الإمام أو تبقى على ما كانت عليه من كونها ملكاً لعموم المسلمين
؟
ظاهر البعض بقاؤها على ملك المسلمين،
بل نسبه
السيّد الخوئي إلى المشهور بين المتأخّرين،
ولكنه قدس سره استشكل في ذلك ولم يستبعد خروجها عن ملك المسلمين بالخراب، حيث اعتبر في ملكيتهم كونها عامرة حدوثاً وبقاءً؛ نظراً إلى عدم وجود إطلاق يقتضي كونها ملكاً للمسلمين حتى بعد الخراب، فلا يبقى إلّا
استصحاب عدم الخروج بالخراب عن ملكهم، ولكنّه- على تقدير جريانه في
الشبهات الحكمية - لا يعارض عموم ما دلّ على أنّ كلّ أرض خربة للإمام، كما صرّحت به صحيحة حفص بن البختري المتقدّمة. ثمّ إنّه على تقدير تسليم وجود إطلاق في أدلّة ملكية المسلمين
للمفتوحة عنوة بحيث يشمل ما بعد الخراب، فغايته معارضة عموم ما دلّ على أنّ كلّ أرض خربة للإمام بالعموم من وجه، ولا شك أنّ العموم اللفظي مقدّم على الإطلاق.
ويترتّب على هذا البحث أثر مهم جدّاً، فإنّ تلك الأرض الخربة لو كانت من الأنفال، فبما أنّهم عليهم السلام حلّلوها وملّكوها لكلّ من أحياها، بمقتضى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له»،
فلو أحيا تلك الخربة أحد كانت ملكاً شخصياً له بمقتضى
الإذن العام الصادر منهم لعامة
الناس . وأمّا لو لم تكن من الأنفال فهي باقية على ما كانت عليه من ملكية عامة المسلمين، ولا تكون بالإحياء ملكاً شخصياً لأحد.
ثمّ ذكر قدس سره أنّ ملخّص الكلام في المقام هو: أنّ عموم قوله عليه السلام في موثق إسحاق ابن عمّار: «... وما كان من
الأرض الخربة... وكلّ أرض لا ربّ لها...»،
غير
قاصر الشمول للمقام؛ فإنّ الربّ بمعنى المالك والمتصدّي لعمارة الأرض المعبّر عنه عرفاً بصاحب الأرض، صادق على الأرض الخربة وإن كانت خراجية، فهي فعلًا ملك للإمام وإن كانت سابقاً ملكاً للمسلمين، فهذا القول هو الأصحّ وإن كان على خلاف المشهور بين المتأخّرين كالمحقق النجفي
وغيره،
حيث ذكروا أنّ هذه الأراضي حكمها حكم ما كان له مالك معين، فكما لا تخرج عن ملكه بالخراب كذلك المفتوحة عنوة. ثمّ إنّه وقع بين الفقهاء كلام وبحث في قسم خاص من الأراضي الموات، وهي تلك التي منشأ ملكيتها
الإحياء ، من حيث رجوعها بعد الخراب إلى الإمام عليه السلام وعدمه،
وقد تقدّم بيان القولين. وتفصيلهما في مصطلح (إحياء الموات).
المذكور في أكثر كلمات الفقهاء وبعض الروايات الأرض الخربة أو الموات، لكن الظاهر أنّ هذا الحكم لا يختص بالأرض الخراب فقط، بل الأرض المحياة والعامرة أيضاً كذلك، فالأرض المحياة من أصلها كبعض الجزر المشتملة على
الأشجار و
الثمار يشملها عموم قول أبي جعفر عليه السلام في رواية
أبي بصير : «... وكلّ أرض لا ربّ لها...»؛
إذ الأرض مطلق تشمل الموات والعامرة بمناط واحد، فإذا لم يكن للأرض من يربّيها ويصلحها فهي للإمام عليه السلام وإن كانت محياة بالأصل بقدرة اللَّه تعالى. مضافاً إلى ما في صحيح
أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر عليه السلام: «وجدنا في كتاب
علي عليه السلام : «إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»،
أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض، ونحن المتّقون، والأرض كلّها لنا...»،
فإنّها تعمّ المحياة كالموات ولا خصوصية للثاني؛ إذ
العبرة بكونها لا ربّ لها.
نعم، وردت في بعض الروايات كما في مرسلة حمّاد: «... وكلّ أرض ميتة لا ربّ لها...»،
حيث قيّدت الأرض بالميتة، ولكنّها- مضافاً إلى الإرسال- قاصرة الدلالة؛ إذ لا مفهوم للقيد، ولعلّه منزّل على الغالب، فلا يعارض عموم قوله عليه السلام في موثّق إسحاق «... وكلّ أرض لا ربّ لها...»،
لا خلاف بين الفقهاء في كون هذه العناوين الثلاثة من
الأنفا ل، كما صرّح بذلك
الشيخ الأنصاري قائلًا: «ولا خلاف ظاهراً في كونها من الأنفال في الجملة»،
فهي وما يكون فيها من
معدن أو
نبات أو غير ذلك للإمام عليه السلام.
نعم، ذكر بعضهم أن عدّ رؤوس
الجبال و
الآجام من الأنفال لا لخصوصية لهما، بل لاندراجهما في الأراضي الموات التي لا ربّ لها، قال السيّد الخوئي: «أمّا الأوّلان
الجبال والآجام فلم يردا في رواية معتبرة فيندرجان في الأراضي الموات أو فقل: في الأراضي التي لا ربّ لها، ولا خصوصية لهما. نعم، وردا في روايات ضعاف، وهي على القول بالانجبار بالعمل تصبح معتبرة».
وقد استدلّوا على كون الثلاثة من الأنفال بالروايات التالية:
مرسلة حمّاد بن عيسى عن العبد الصالح، وفيها: «... وله رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام...».
خبر
داود بن فرقد عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: قلت: وما الأنفال؟ قال: «بطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام...».
صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد اللَّه عليه السلام المتقدمة،
حيث عدّ بطون الأودية من الأنفال. ومثلها صحيحة محمّد بن مسلم عنه عليه السلام أيضاً.
ومن خلال تفحّص هذه الروايات نرى أنّ عنوان بطون الأودية ورد في روايتين معتبرتين وهما صحيحتا حفص بن البختري ومحمّد بن مسلم، وقد اختصتا بهذا العنوان من العناوين الثلاثة، وهذا ما يبرّر
اقتصار بعض الفقهاء- كما مرّ آنفاً- على بطون الأودية فقط و
إدخال العنوانين الآخرين تحت عنوان الأرض الموات أو الأرض التي لا ربّ لها
بعد
استضعاف نصوصها الخاصة. هذا، وقد وقع البحث بين الفقهاء في أنّ هذه الثلاثة هل هي للإمام ولو كانت من الأرض المملوكة للغير ملكاً خاصاً أو عاماً كالمفتوحة عنوة؟
منع بعض الفقهاء من
اختصاص الإمام عليه السلام بذلك على الإطلاق، وقيّدها بما في الأرض المختصة به من الموات أو التي لا ربّ لها، فلا تكون هذه العناوين الثلاثة في أراضي غيره من الأنفال.
ولعلّه لعدم
نهوض الأخبار لإثبات حكم مخالف للأصل.
واورد عليه بأنّه يفضي إلى
التداخل وعدم
الفائدة في ذكر اختصاصه بهذين النوعين،
كما أنّ حملها على ما في الأرض المختصة به عليه السلام ينافي جعلها قسماً مستقلّاً في بعض الروايات.
وردّ ذلك قائلًا: «هو جيد لو كانت الأخبار المتضمّنة لاختصاصه عليه السلام بذلك على الإطلاق صالحة
لإثبات هذا الحكم، لكنّها ضعيفة السند، فيتّجه
المصير إلى ما ذكره
ابن إدريس ؛ قصراً لما خالف
الأصل على موضع
الوفاق ».
وأجاب عنه الشيخ الأنصاري بأنّه- بعد
الغض عن منع مخالفته للأصل مطلقاً- إنّ الأخبار ناهضة ولو بمعونة إطلاق فتوى
الأصحاب ، وحمله على ما في الأرض المختصة به عليه السلام ينافي جعله قسماً مستقلّاً.
ولم يستبعد السيّد الخوئي العموم جموداً على ظاهر المقابلة.
وقد ذكر الشيخ الأنصاري بأنّ ثمرة البحث في رؤوس الجبال وبطون الأودية قليلة؛ لكونهما غالباً مواتاً؛ ولذا قصر البحث في الآجام، وأنّها مطلقاً للإمام كالموات، وتعرّض لحكم الأرض المملوكة لغير الإمام إذا استؤجمت.
وهذا ما سنفصّل فيه:
جمع (أَجمَة)، وقد ذكر في اللغة أنّ أصله: التجمّع والشدّة، وقد ذكروا للأجمة عدّة معان (ذكرت في مصطلح آجام).
وكلماتهم ترجع إلى معنيين: الشجر الكثير الملتفّ أو القصب ومنبته. وقد تقدّم أيضاً بأنّه ليس للفقهاء معنى اصطلاحي للآجام وإن اختلفوا في المراد من الكلمة في الروايات. والظاهر أنّ مراد أكثر الفقهاء من الآجام في باب الأنفال الأرض ذات الشجر الكثير أو ذات القصب الكثير، قال الشيخ الأنصاري: «المراد أنّ الأرض المستأجمة نفسها بما فيها من الأنفال، نظير رؤوس الجبال وبطون الأودية، لا نفس
القصب و
الشجر ...»،
ونحوه ما ذكره بعض المتأخّرين والمعاصرين.
لكن يظهر من المحقّق النجفي في باب الأنفال إرادة نفس الشجر الملتف لا أرضه،
وادّعى
السيّد الخميني بأنّه
الاستعمال الشائع في كتب اللغة.
والمرجع في تشخيص الآجام العرف، ولا يبعد اشتراط الكثرة في صدقها، فلا يعدّ مثل
ذراع أو ذراعين مملوءة قصباً أجمة.
فالآجام كالعناوين المتقدّمة تكون للإمام، حتى لو وقعت في ملك مالك، قال الشيخ الأنصاري: «فالأقوى أنّ الأرض المستأجمة للإمام كالموات، بل هي منها، فإذا وقعت في ملك مالك لم يملكها، بل يملكها الإمام. نعم، لو استؤجم شيء من الأرض المملوكة لشخص خاص أو مطلق المسلمين، فالأقوى عدم صيرورته للإمام، بل هو نظير ما لو ماتت بغير الاستئجام فإنّه... لا تخرج عن ملك مالكها بالموت، إلّا إذا كان ملكها بالإحياء على قول».
حدّد بعض الفقهاء صفايا الملوك بما يختص به ملكهم من الأراضي وغيرها.
وفي حاشية
الشرائع أنّ «المراد ما كان يختصّ به ملوك أهل الحرب من الأشياء
النفيسة ».
ويستفاد من كلمات جمع من الفقهاء أنّ القطائع هي الأراضي والأموال غير المنقولة من الدور والبساتين المخصوصة بالملوك، وأنّ الصفايا هي الأموال المنقولة من المركوبات والدراهم و
الخدم و
الأسلحة والألبسة وغيرها المختصة بهم.
قال: «صفايا
الملوك ، قيل: هي
الجارية و
الفرس و
الغلمان . والظاهر أنّها أعمّ؛ لأنّها اشتقّت من الصفو، وهو اختيار ما يريد من الامور الحسنة، إلّاأنّ المراد هنا غير القرى بمقابلتها بالقطائع، وهي القرى والبساتين والباغات المخصوصة بالملوك».
ولا إشكال ولا خلاف في كونها من الأنفال.
وقد دلّت على ذلك جملة من الأخبار:
قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «قطائع الملوك كلّها للإمام، وليس للناس فيها
شيء ».
ومنها: موثقة
سماعة بن مهران ، قال: سألته عن الأنفال، فقال: «... أو شيء يكون للملوك فهو
خالص للإمام، وليس للناس فيها
سهم ...».
ومنها: مرسلة حمّاد بن عيسى المتقدمة وفيها: «... وله صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه
الغصب ...».
ونحوها أيضاً موثقة إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام،
وقد قيّد الفقهاء تبعاً للروايات الصفايا والقطائع التي تكون من الأنفال بما إذا لم تكن مغصوبة من مسلم أو
معاهد محترم المال،
كما في مرسلة حمّاد حيث قال فيها: «... من غير وجه الغصب؛ لأنّ الغصب كلّه مردود...».
عدّ بعض الفقهاء من موارد الأنفال
سِيف البحار
- بكسر السين- والمراد به ساحلها، ولكن صرّح جمع بعدم الوقوف على أيّ نصّ يدل عليه بالخصوص.
وبناء عليه قال بعضهم: يمكن الرجوع فيه إلى العمومات، فما كان من سواحل البحار مملوكاً لشخص بعينه أو لأشخاص مشتركين أو ملكاً لعامة المسلمين، فحكمه كباقي المملوكات الخاصة. وما كان مواتاً مثل كثير من سواحل البحار فهو للإمام عليه السلام.
وما كان من سواحل البحار حيّاً بالأصالة، كسواحل بعض البحار والأنهار الكبار- إن الحقت بالبحار- كساحل
نيل مصر ، فيحتمل فيه وجهان، قال
الشيخ الأنصاري : «وإن كانت حيّة، بمعنى قابليتها للانتفاع بها؛ لقربه من
البحر فيسقى زرعه من جهة
قرب عروقه أو بمدّ البحر، ففي كونه من
المباحات يجوز لكلّ أحد التصرّف فيها، أو من الأنفال؛ لأنّه قد عُدّ منها في غير واحد من الأخبار: «كلّ أرض لا ربّ لها»،
مضافاً إلى عموم ما دلّ على أنّ «الأرض كلّها لنا»،
وجهان».
والظاهر من بعض الفقهاء اختيار الوجه الأوّل، أي كونه من المباحات،
بل استظهروه من كلمات أكثر
الأصحاب .
واختار بعض الفقهاء الوجه الثاني؛
لأنّه إمّا من الأراضي المحياة بالأصالة كساحل نيل مصر، أو موات كسواحل البحار المرّة، وعلى التقديرين، فهي مندرجة في عموم قوله عليه السلام «وكلّ أرض لا ربّ لها».
من الأنفال أيضاً ما يصطفيه الإمام من غنيمة أهل الحرب قبل القسمة، من فرس أو
ثوب أو
جارية أو نحو ذلك، وقد ذكر بعضهم اتّفاق الفقهاء عليه،
ويدلّ عليه من النصوص:
صحيحة
ربعي بن عبد اللَّه بن الجارود عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «كان
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له، ثمّ يقسّم ما بقي خمسة أخماس ويأخذ خمسه... وكذلك
الإمام يأخذ كما أخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم».
خبر أبي بصير عنه عليه السلام أيضاً قال: سألته عن صفو المال، قال: «الإمام يأخذ الجارية
الروقة ، (الجارية الرُوقة: الجميلة الحسناء. )
و
المركب الفاره ، و
السيف القاطع ، و
الدرع ، قبل أن تقسّم الغنيمة، فهذا صفو المال».
قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «نحن
قوم فرض اللَّه طاعتنا، لنا الأنفال، ولنا صفو المال».
مرسلة حماد بن عيسى عن العبد الصالح عليه السلام- في حديث- قال: «وللإمام صفو المال، أن يأخذ من هذه الأموال صفوها: الجارية
الفارهة ، و
الدابة الفارهة، والثوب و
المتاع بما يحبّ أو يشتهي، فذلك له قبل القسمة...».
وقد يقع البحث في أنّه هل تتوقّف ملكية هذا المال ودخوله في الأنفال على اختيار الإمام واصطفائه له فعلًا أو لا؟ فعلى الأوّل إن لم يأخذ الإمام ولم يصطف شيئاً من الغنيمة، يكون الكلّ غنيمة، ويجري عليه حكمها، لا حكم الأنفال ومال الإمام. ذكر المحقّق النجفي أنّ ظاهر أكثر النصوص وبعض الفتاوى الوجه الأوّل، إلّا أنّ موثّق أبي الصباح المتقدّم، بل وغيره ظاهر في أنّه كغيره من الأنفال الداخلة في ملكه عليه السلام قهراً، ويؤيّده بعد انفراد هذا القسم عنها بذلك، خصوصاً بعد قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ»؛ إذ الظاهر إرادة تمليك
الأعيان وأنّها هي الأنفال، وعليه فهل المدار على وجود
المصطفى في حدّ ذاته ونفسه أو بحسب نسبة الغنيمة؟ وجهان، أقواهما الأوّل، بل هو الظاهر من الأخبار. كما أنّه على الأوّل هل يختص جواز أخذه واصطفائه بما لو كان في المال مصطفى أو لا، فله حينئذٍ أخذ ما يريد ويحبّ ويشتهي وإن لم يكن من الأشياء المصطفاة في حدّ ذاتها ونفسها، كما عساه يشعر به ذيل خبر أبي بصير المتقدّم وعبارة المتن وغيرها؟ وجهان، لا يبعد في
النظر الأوّل؛ لأنّه المتيقّن
المنساق من النصوص السابقة، فيقتصر عليه في الخروج عن
الأصل ، وإطلاق استحقاق الغانمين الغنيمة.
وممّا عدّ من الأنفال ميراث من لا وارث له بلا إشكال فيه، بل ادّعي عليه الإجماع.
وقد استدلّ عليه ببعض الروايات المعتبرة:
منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من مات وليس له وارث من قرابته، ولا مولى عتاقه قد ضمن جريرته، فماله من الأنفال».
ومنها: خبر
أبان بن تغلب عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، في الرجل يموت ولا وارث له ولا مولى، قال: «هو من أهل هذه الآية: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ»».
ومنها: صحيحة
محمّد الحلبي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في قول اللَّه تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ»، قال: «من مات وليس له مولى فماله من الأنفال».
ونحوها غيرها من الروايات،
المشهور
أنّ ما يغنمه المقاتلون بغير
إذن الإمام يكون للإمام عليه السلام،
بل ظاهر بعضهم وصريح آخرين الإجماع عليه، وقال السيّد الخوئي: «الظاهر أنّ الحكم متسالم عليه بين الأصحاب بل ادّعي عليه الإجماع... وإنّما الكلام في مستنده».
وقد استدلّوا عليه بمرسلة
العبّاس الورّاق عن رجل سمّاه عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إذا غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلّها للإمام، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس»،
وهي
رواية مشهورة معمول بها،
فيكون ضعفها منجبراً بالعمل.
وذكر
الشهيد الثاني أنّ هذا هو المشهور بين الأصحاب، وبه رواية مرسلة عن الإمام الصادق عليه السلام منجبرة بعمل الأصحاب.
وفي
البيع منها: المعروف من
المذهب مضمون المقطوعة لا نعلم فيه مخالفاً.
وقال في الروضة: «به رواية مرسلة إلّا أنّه لا قائل بخلافها ظاهراً».
وقد اعتبر المحقّق النجفي الدليل عليه الإجماع المنقول مع اعتضاده بمرسلة الورّاق المنجبرة به وبالشهرة العظيمة.
لكن قوّى العلّامة في المنتهى القول باعتباره غنيمة كالمأذون فيه بعد
مناقشة الاستدلال له بعموم آية الغنيمة،
وإن كان ظاهر مجمل كلامه موافقة الأصحاب.
قال: «وهو جيّد؛ لإطلاق الآية الشريفة، وخصوص حسنة الحلبي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم فيكون معهم فيصيب غنيمة، فقال: «يؤدّي خمسنا ويطيب له»
».
واجيب عنه بأنّ إطلاق الآية يجب تقييده كإطلاق غيرها من الأخبار، مع أنّها من خطاب
المشافهة . وأمّا حسنة الحلبي فهي قابلة للحمل على
التحليل لذلك الشخص، أو الإذن له في تلك الغزوة أو
التقية ،
وعلى الأقل هي غير ظاهرة في كون
الغزو - ولو من الرجل- كان بغير إذن منه عليه السلام، فلا تصلح حجّة في قبال المرسل الأوّل المنجبر بالعمل وحكاية الإجماع.
بل ذهب السيّد الخوئي إلى أنّ جهة السؤال لا ترتكز على حيثية الإذن، بل هذه الحيثية لعلّها مفروغاً عنها؛ لما ثبت من إمضائهم عليهم السلام ما كان يصدر من السلاطين وغزوهم وإذنهم العام في ذلك، وإنّما ترتكز على الغنيمة في لواء من لا يعتقد بالخمس وعن الموقف حينئذٍ من هذه
الفريضة ، وهم وإن حلّلوا لشيعتهم كما هو ثابت بالأخبار إلّاأنّ الإمام عليه السلام لم يسمح إلّابأربعة أخماس في خصوص المقام وعلى نحو القضية الخارجية، لعلّة هو عليه السلام أدرى بها.
وايّد هذا الحكم المشهور
- بل استدلّ له
- بمفهوم مصحّح معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام:
السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف يقسّم؟ قال: «إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس للَّهوللرسول وقسّم بينهم ثلاثة أخماس، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كلّ ما غنموا للإمام يجعله حيث أحبّ»،
حيث تضمّنت التفصيل بين كون القتال مع
الأمير بإذن الإمام وعدمه.
ونوقش فيه بظهوره في التفصيل بين القتال وعدمه لا بين الإذن وعدمها؛ لأنّ المفروض في السؤال أنّ السرية كانت بأمر الإمام، فالتفصيل لابدّ أن يكون في مورد السؤال، وقوله عليه السلام: «مع أمير أمّره الإمام» غير ظاهر في المفهوم.
ودفعت هذه المناقشة بأنّ مبنى الاستدلال هو مفهوم الشرطية الاولى، بعد ملاحظة أنّ النكتة في تقييد القتال فيها بكونه مع أمير أمّره الإمام هو التأكّد بشأن هذا القيد- الذي مرجعه إلى الإذن- ودخله في الحكم وإلّا كان ذكره مستدركاً؛ للاستغناء عنه بعد فرضه في السؤال.
وعليه يكون مرجع الجملة الشرطية إلى أنّ الأمر إن كان كما ذكرت أيّها السائل من كون القتال بأمر من الإمام، فالمال يخمّس حينئذٍ، فالشرط مركّب من قيدين: تحقّق القتال، وكونه بإذن الإمام، ومفهومه
انتفاء المركّب المتحقّق بانتفاء أحد القيدين، وعلى هذا فيكون المراد من الشرط في الشرطية الثانية عدم القتال الخاص المذكور في الشرطية الاولى، أي ما كان عن الإذن، وانتفاؤه يكون إمّا بانتفاء القتال رأساً، وإمّا بعدم صدوره عن الإذن، وقد دلّت بمقتضى الإطلاق على كون الغنيمة حينئذٍ بتمامها للإمام، فهي بهذا
التقريب تدلّ على التفصيل بين الإذن وعدمه.
ثمّ إنّه قد فصّل المحدّث البحراني بين ما يؤخذ على وجه
الجهاد فهو للإمام، وبين ما يؤخذ غلبة فللغانمين، حيث قال: «إنّ الظاهر من الأخبار وكلام الأصحاب أنّ الذي يكون للإمام عليه السلام متى كان بغير إذنه إنّما هو ما يؤخذ على وجه الجهاد و
التكليف بالإسلام، كما يقع من خلفاء
الجور وجهادهم الكفّار على هذا الوجه، لا ما اخذ
جهراً (قهراً) وغلبةً وغصباً ونحو ذلك ممّا لم يكن
سرقة ولا
غيلة ، فإنّه يكون غنيمة بغير إذنه عليه السلام ويكون له، فإنّه لا دليل عليه ولا قائل به فيما أعلم، والرواية التي أوردها الأصحاب دليلًا على الحكم... وهي رواية العبّاس الورّاق... موردها- كما ترى- إنّما هو ما ذكرناه وفي عبارات الأصحاب في معنى الغنيمة بأنّها ما حواه
العسكر ما يشعر بما قلناه».
ونوقش فيه بمنع الظهور المذكور، ودعوى انصراف الغزو إليه ممنوعة؛ ولذا قوّى بعضهم عموم الحكم.
وفصّل
السيّد اليزدي بين زمان حضور الإمام عليه السلام وإمكان الاستئذان منه وبين زمان غيبته، فما كان في الأوّل يُعدّ من الأنفال، وما كان في الثاني ففيه الخمس، حيث قال: «وأمّا إذا كان الغزو بغير إذن الإمام عليه السلام، فإن كان في زمان
الحضور وإمكان الاستئذان منه فالغنيمة للإمام عليه السلام، وإن كان في زمن
الغيبة فالأحوط إخراج خمسها من حيث الغنيمة، خصوصاً إذا كان للدعاء إلى
الإسلام ، فما يأخذه السلاطين في هذه الأزمنة من الكفّار بالمقاتلة معهم من المنقول وغيره يجب فيه الخمس على الأحوط».
قال: «كأنّه (هذا التفصيل) مبنيّ على حمل المرسل على صورة إمكان الاستئذان فيرجع في غيرها إلى عموم الآية، وكأنّه لعدم وضوح
الحمل المذكور توقّف عن الحكم هنا بوجوب الخمس، وهو في محلّه، وإن كان قد قوّاه في المسألة الآتية (بعد هذه المسألة)، لكنّه خلاف الإطلاق».
واستدلّ السيّد الخوئي لهذا التفصيل بإطلاق الغنيمة في الآية
الشامل لزماني الحضور والغيبة، وليس بإزائه إلّاما دلّ على اشتراط إذن الإمام غير
الصالح للتقييد؛ إذ هو إمّا الإجماع وهو دليل لبّي يقتصر فيه على المقدار المتيقّن منه، وهو فرض الحضور والتمكّن من الاستئذان، أو مرسل الورّاق المتقدّم، وهو بعد تسليم الإطلاق والشمول لصورتي الغيبة والحضور غير قابل للاستناد؛ لأجل الضعف غير
المنجبر عندنا بالعمل، أو صحيحة معاوية بن وهب المتقدّمة، و
التقييد بالإذن لم يكن له مفهوم بالمعنى المصطلح وإنّما عوّلنا عليه حذراً عن اللغوية التي يكفي في الخروج عنها نكتة التأكّد ممّا افترضه السائل، وأنّ لهذا القيد مدخلًا في الحكم بالتخصيص، وأمّا أنّ هذا الدخل هل هو على سبيل الإطلاق أو في خصوص حال الحضور والتمكّن من الاستئذان فلا دلالة فيها على ذلك بوجه لو لم تكن ظاهرة في الثاني، فلا تدلّ الصحيحة على اشتراط الإذن حتى في زمن الغيبة ليتقيّد بها إطلاق الآية المباركة بالإضافة إلى هذا الزمان.
وهي من العناوين التي وقع الاختلاف فيها بين الفقهاء أنّها من الأنفال أم لا، والأقوال فيها كالتالي:
إنّ
المعادن من الأنفال مطلقاً، سواءً أكانت في الملك الشخصي أم في الملك العام كالمفتوحة عنوة، إلّاأنّهم عليهم السلام أباحوها لكلّ من أخرجها، فيملكها بعد أداء خمسها وإن لم يكن شيعياً، وقد ذهب إليه جمع من فقهائنا المتقدّمين والمتأخّرين.
وقد يستدل له بروايات عديدة، منها: ما تقدّم، كموثقة إسحاق بن عمّار، وخبر أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام، وخبر داود ابن فرقد عن أبي عبد اللَّه عليه السلام وغيرها.
إنّها ليست من الأنفال مطلقاً؛ استناداً إلى أدلّة الخمس، فيملك
المستخرج بعد أداء الخمس أربعة أخماس منها بحكم
الشارع وتحليل من اللَّه، لا بصدور الإذن من الإمام عليه السلام. ومن اختار هذا القول على فئتين:
ذهبوا إلى أنّ
الناس في المعادن شرع سواء،
قال الشهيد الثاني: «أكثر الأصحاب على أنّ المعادن مطلقاً للناس شرع؛ عملًا بالأصل مع ضعف المخرج عنه، وهذا قوي».
فصّلوا بين المعادن الظاهرة وبين الباطنة، فالاولى الناس فيها شرع سواء ولا تملك بالإحياء، بل كل يأخذ على قدر حاجتهم، والمعادن الباطنة حكمها حكم الموات تملك بالإحياء،
قال العلّامة في القواعد: «أمّا الظاهرة...فهذه للإمام يختص بها عند بعض علمائنا، والأقرب
اشتراك المسلمين فيها، فحينئذٍ لا يملك بالإحياء، ولا يختص بها
المحجر ، ولا يجوز إقطاعها، ولا يختص المقطع بها».
وقال في الباطنة: «وأمّا الباطنة... وإن لم تكن ظاهرة فحفرها
إنسان وأظهرها أحياها، فإن كانت في ملكه ملكها، وكذا في الموات».
وقد استدلّ المحقّق النجفي للحكم المذكور في الظاهرة، بنفي الخلاف، و
السيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار في زمن تسلّطهم وغيره على الأخذ منها بلا إذن، وبقوله سبحانه وتعالى: «خَلَقَ لَكُم مَا فِي الأَرضِ»،
ولشدّة حاجة الناس إلى بعضها على وجه يتوقّف عليه معاشهم نحو الماء و
النار و
الكلاء ، وبخبر أبي البختري عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام أنّه قال: «لا يحلّ منع
الملح والنار»،
ونفى الخلاف بين الفقهاء في الحكم المذكور للمعادن الباطنة.
التفصيل بين المعدن المستخرج من أرض هي من الأنفال، وبين المستخرج من غيرها، فالأوّل من الأنفال تبعاً للأرض، دون الثاني فليس من الأنفال، واختاره جمع من المتقدّمين والمتأخّرين وبعض المعاصرين.
قال السيّد الخوئي: «وهذا التفصيل غير بعيد وإن لم يكن لهذا البحث أثر عملي؛ لوجوب التخميس بعد الاستخراج على كلّ حال، والبحث علمي محض وإن تملك الأربعة أخماس هل هو بتحليل من اللَّه تعالى ابتداءً، أو بإذن من الإمام عليه السلام».
وقد استدلّ على التفصيل بصحيحة إسحاق بن عمّار المتقدّمة، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الأنفال، فقال: «هي القرى التي قد خربت... وكلّ أرض لا ربّ لها، والمعادن منها (فيها)...»
على اختلاف النسخ، فإنّ الضمير في (منها) أو (فيها) يرجع إلى الأرض، فعدّ من الأنفال المعادن من هذه الأراضي التي تكون هي بنفسها أيضاً من الأنفال لا مطلق المعادن.
وكلمات من اختار القول بالتفصيل مختلفة في حكم المعادن التي هي في غير أرض الأنفال، وهي كالآتي:
أنّها تابعة لملك الأرض.
أنّ الناس فيها شرع سواء مطلقاً.
التفصيل بين الظاهرة منها فالناس فيها شرع سواء، فلا تملك
بالإحياء بل يأخذون منه قدر حاجتهم، وبين الباطنة فهي تملك بالإحياء بدون إذن الإمام.
وهناك من ذكر أنّها ليست من الأنفال، إلّا أنّه لم يجعلها تحت إحدى الوجوه الثلاثة المتقدمة.
الموسوعة الفقهية، ج۱۸، ص۳۱۷-۳۴۲.