آثار الإباحة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يترتب على
الإباحة آثار بمعاني مختلفة.
•
آثار الإباحة التكليفية،ويترتّب على
إباحة عمل تكليفاً آثار عديدة.
الإباحة بمعنى الصحة ومشروعية العمل فيما لو تعلّق الأمر به يكون أثرها
إجزاء العمل في الأوامر التكليفية وسقوط
الإعادة والقضاء، وأيضاً صحة
المعاملة في الخطابات الوضعية في العقود والايقاعات.
مثال الأوّل: إباحة الصلاة مع
التيمم للمريض؛ فانها تعني مشروعية التيمم بدلًا عن الوضوء للمريض، وبالتالي إجزائه عن المأمور به. يراجع تفصيل ذلك مصطلح (إجزاء).وقد تضاف الإباحة- بمعنى المشروعية- إلى عمل، فيقال بإباحة
القنوت في الصلاة بمعنى تعلّق
الأمر الشرعي به، فلا يكون بدعة ولا تشريعاً، فيكون من آثاره
ارتفاع حرمة التشريع وإباحته التكليفية.
ومثال الثاني: إباحة عقد التأمين وحليته بمعنى صحّته، فانّها تعني نفوذه وترتب الآثار والحقوق الوضعية وصحة التصرفات عليه.وقد أشرنا آنفاً انّ هناك أصلًا في فقه المعاملات يسمّى بأصالة الصحة في العقود استند اليها جملة من الفقهاء كقاعدة عامة يرجع اليها كلّما شك في حلية وصحة عقد من العقود، سواء كان ذلك من جهة الشك في
اعتبار شرط أو قيد في عقد من العقود المعروفة سابقاً، أو كان من جهة الشك في أصل مشروعية عقد برأسه كما في العقود المستحدثة.ولا يراد بأصالة حلية العقود وصحتها
الأصل العملي كالاستصحاب ونحوه، فانّه على العكس يقتضي
البطلان وعدم ترتب الآثار؛ لأنّه الحالة السابقة على العقد المشكوك في صحته. وإنّما يراد بها
الأصل اللفظي أو الدليل الاجتهادي المتمثّل في
أصالة العموم في مثل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»
أو سائر أدلّة
الامضاء وتنفيذ العقود. يراجع تفصيل ذلك في مصطلح (عقد).
الإباحة- بمعنى المأذونية وحق التصرف- حكم وضعي، أي حقّ يجعله الشارع للمالك أو الولي ومن يأذن له المالك أو الولي أو غيره، فيكون بذلك مستحقاً للمالك والولي، في قبال غيره ممن لا يحقّ له ذلك، ويكون تصرّفه غصباً محرّماً وتعدّياً على حقوق الآخرين،
فبالإذن الشرعي أو المالكي والإباحة الوضعية الحاصلة منه ترتفع الغصبية والعدوان والحرمة. وفيما يلي نشير إلى أهم الآثار المترتبة على الإباحة بهذا المعنى.
لا شك في حرمة تصرف المكلّف فيما هو عائد إلى الغير بدون إذنه، كما لا شك في أنّ إذن المالك أو الولي يستلزم الإباحة التكليفية وارتفاع حرمة التصرّف في ما يرجع إلى الغير، فيرتفع الاثم والعقوبة عليه أيضاً من هذه الناحية.وعلى هذا دلّت أدلّة عديدة:
أ- فمن الكتاب استدلّ بمثل قوله تعالى:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ».
ب- ومن السنّة استدلّ بمثل قوله عليه السلام:«لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه»
أو «لا يحلّ دم امرئ مسلم».
ج- واستدل عليه أيضاً
بالاجماع والسيرة المتشرّعية والعقلائية الممضاة شرعاً.
د- بل واستدل عليه بحكم العقل بأن التصرف في مال الغير ونفسه ظلم قبيح عقلًا ومحرم شرعاً.وكل تلك الأدلّة كما تدلّ على حرمة التصرف في ما يرجع إلى الغير بدون إذنه ورضاه تدلّ أيضاً على حليته برضاه وإذنه.وهذا
الأثر يكفي في ترتّبه إذن المالك بمعنى طيب نفسه ورضاه بالتصرّف، فلا يلزم
إنشاء عقد إذني أو
إيقاع وإن كان يترتّب بذلك أيضاً. ومن هنا إذا أحرز طيب نفس المالك ولو من غير إذن ولا مبرز وإنشاء بل بشاهد الحال والفحوى كفى ذلك في الإباحة وارتفاع الحرمة والغصبية؛ لأنّ حرمة مال الغير في الأدلّة المتقدّمة مغيّاة بطيب نفس المالك ورضاه، لا بإنشاء عقد أو إيقاع منه.وهذا الأثر كما يترتّب على إباحة المالك في الاموال الخاصّة كذلك يترتّب على إباحة الولي في الأموال العامّة كما في تحليل
الخمس والأنفال للشيعة.
وكذلك يترتّب على الإباحة الشرعيّة أو إذن الشارع، كما في
المعاطاة بناءً على
إفادتها الإباحة الشرعيّة، وكما فيما أذن به الشارع من أكل المارّة من الثمار. والملاك في الجميع واحد، وهو ارتفاع موضوع الحرمة بهذه الإباحة والإذن.وارتفاع الحرمة بالاذن من هذه الناحية لا يمنع ثبوت الحرمة التكليفية والإثم في التصرف من ناحية أخرى غير مربوطة بالمالك، كما إذا كان الطعام المأذون له أكله نجساً أو مضرّاً له، فيكون محرّماً من هذه الناحية، فهذه الحرمة لا ترتفع باذن المالك، وإنّما الحرمة المرتفعة بالاذن هي حرمة التصرف في مال الغير أو نفسه أو الشئون الراجعة إليه.
ومما يترتّب على الإباحة بهذا المعنى أيضاً
استحقاق التصرف المأذون فيه، وهو غير الإباحة التكليفية، بل هو حكم وضعي له آثاره وخصائصه. فالإذن والإباحة من المالك إذا كان بمستوى
الرضا وطيب النفس بالتصرف فحسب كان موجباً لارتفاع الحرمة التكليفية.ولكنّه قد يكون أكثر من ذلك كما في العقود الاذنية كالعارية مثلًا، فيترتّب على ذلك استحقاق
الانتفاع أو المنفعة أو العين والرقبة.فإنّه إذا كان إذناً وإباحة للانتفاع والتسلّط على المال- كما هو المشهور في
العارية - كان المستعير مستحقّاً للانتفاع بها.وإذا كان إذناً وإباحة في تملّك المنفعة كان مستحقّاً، أي مالكاً للمنفعة.
وفرقه عن الأوّل: أنّه يمكنه حينئذٍ نقلها إلى الغير بعقد أو
إرث أو غيرهما، وتكون
المنفعة منتقلة بهذه الإباحة والاذن عن ملك المالك إلى المأذون له. وهذا بخلاف فرض الاذن وإباحة الانتفاع فقط فانّه لا يوجب الملك.وإذا كان إذناً وإباحة للعين والرقبة أيضاً كان مستحقّاً ومالكاً لها بذلك. كما إذا أباح له أن يأخذ المال لنفسه.وهذا يعني: أنّه تتّسع دائرة الاستحقاق هذه حسب
اتّساع دائرة الإذن والإباحة، فقد يبيح له الانتفاع فقط، وقد يبيح له المنفعة من دون
استهلاك العين كما إذا أباح له سكنى داره، وقد يبيح له الاستهلاك أيضاً كما إذا أباح له أكل طعامه. وقد يبيح له ملك المنفعة أو الرقبة.
ولا شك في أنّ الإذن والإباحة لا يكفي وحده لتحقق تمليك المنفعة فضلًا عن تمليك الرقبة، وإنّما يكفي لترتّب حقّ الانتفاع والتصرّف- بمقتضى ما تقدم آنفاً من الأدلّة- ففي المورد الذي يراد الحكم فيه بتمليك المنفعة أو الرقبة للمباح له واستحقاقهما لا بدّ من فرض عناية زائدة على مجرد الإباحة المالكية؛ وذلك:إمّا بارجاع ذلك إلى نحو توافق ضمنيّ بين المبيح والمباح له، فيكون عقداً بأن تكون إباحة المالك
إبرازاً لرضاه بتمليك المنفعة أو الرقبة وأخذ المباح له أو تصرفه في المال قبولًا من قبله.
قال
المحقق الكركي في إباحة
الاماء وتحليلها: «على كل من القولين (يكون إباحة الاماء عقداً أو تمليك منفعة) لا بدّ من القبول. أمّا إذا كان عقد نكاح فظاهر، وأمّا إذا كان تمليكاً فلأنّه في معنى هبة المنفعة فيكون أيضاً من قبيل العقود فاعتبر فيه القبول».
أو بارجاعه إلى أنّ المبيح يرفع يده وسلطنته عن المال ليأخذه ويحوزه المباح له على وجه التملّك للمنفعة أو الرقبة؛ بناءً على أنّ الحيازة وأخذ المال يوجب التملّك في كل مال ليس له مالك- كالمباحات الأولية- أو يكون له مالك إلّا أنّ مالكه قد رفع اليد عنه وأباح تملكه للغير؛ فإنّ ما يمنع عن سببية
الحيازة للتمليك إنّما هو حق المالك، فإذا رفع يده عنه وأباح تملكه للغير أثّرت الحيازة أثرها في التمليك.
قال
المحقق النجفي في [[|الجواهر]] في ما ينثر في الأعراس: «لا يجوز أخذه على وجه النقل إلّا بإذن أربابه نطقاً أو يشاهد الحال الحاصل من نحو رميه على جهة العموم من غير وضعه على خوان ونحوه... وهل يملك المباح أخذه بالأخذ الذي هو بمنزلة الحيازة للمباح الأصلي من المالك الحقيقي؟ الأظهر نعم كما عن
المبسوط والمهذب
والإرشاد والتذكرة؛ للسيرة القطعية في الأعصار والأمصار على معاملته معاملة المملوك
بالبيع والهبة والارث وغيرها، بل هي كذلك في كل مال أعرض عنه صاحبه فضلًا عمّا أباحه مع ذلك، سيّما إباحة التملك التي هي متحققة فيما نحن فيه... ولعلّ منه الأنفال التي أباحوها عليهم السلام لشيعتهم فانّه لا ريب في تملّكهم لها بالحيازة بهذه الإباحة ومن تسلّط المالك على ملكه إباحة تملّكه».
والحاصل: لا بدّ في موارد حصول التمليك- سواء في المنفعة أو الرقبة- من تحقق أحد أسباب
التمليك ، ولا يكفي مجرّد
الإباحة والتحليل والاذن من قبل المالك أو الولي لحصول التمليك ما لم تضمّ احدى النكتتين المذكورتين.وأمّا الإباحة الشرعيّة في التصرف والانتفاع كما في المعاطاة بناءً على افادتها الإباحة أو إذن الشارع واباحته للأكل من بيوت الأقرباء أو للمارّة فهي لا تقتضي أكثر من حقّ الانتفاع والتصرف، لا ملكية المنفعة فضلًا عن الرقبة، إلّا أن يدل دليل الإباحة الشرعيّة على ذلك زائداً على أصل الإباحة.
ومما يترتّب على الإباحة بهذا المعنى أيضاً
انتفاء الضمان، أي عدم
اشتغال ذمة المباح له بقيمة المنفعة أو العين إذا استهلكت أو تلفت. بينما هذا الأثر لم يكن مترتباً على الإباحة التكليفية، كما تقدم.هذا، ولكن ترتب هذا الأثر على الإباحة بهذا المعنى ليس مطلقاً، بل مشروط بشرطين:
الشرط الأوّل: أن يكون الإذن والإباحة متعلّقاً بتلك الجهة لا بجهة اخرى، فلو أذن في الانتفاع وإباحة التصرف مع بقاء العين وعدم استهلاكه وإتلافه كان ضامناً له إذا استهلكه وأتلفه؛ لأنّه لم يكن مأذوناً في ذلك، بخلاف ما إذا كان قد أذن في
الإتلاف والاستهلاك أيضاً.بل إذا لم يأذن بالاتلاف ولا التلف للعين وإنّما أذن في الانتفاع من دون تلف قهري أيضاً للعين كان المباح له ضامناً للتلف القهري للعين فضلًا عن إتلافه.وهناك من الفقهاء من منع عن ذلك وجعل الإذن في التصرف والانتفاع كافياً في انتفاء ضمان التلف؛ لأنّ يد المأذون والمباح له حينئذٍ يد أمينة، فلا تشمله أدلّة ضمان التلف التي هي أدلّة ضمان اليد، بل يشمله دليل نفي
الضمان عن الأمين.
فليس عدم الضمان لتلف العين من جهة إذن المالك، بل من جهة حكم الشارع بعدم ضمان الأمين، ورتّب على ذلك عدم
إمكان شرط ضمان التلف؛ لأنّه خلاف حكم الشارع. وتفصيله يراجع في مصطلح (يد).الشرط الثاني: أن لا يشترط عليه الضمان، فإذا أذن في الانتفاع ولكن على وجه الضمان حتى للمنفعة المستوفاة كان ضامناً لُاجرتها. وقد مثّل لها الفقهاء بما يفعله صاحب الحمّام من إباحة
الاستحمام والانتفاع بحمّامه ولكن على وجه الضمان، وكذلك من يبيح للغير أكل الطعام في مطعمه ولكن لا مجّاناً بل على وجه الضمان لثمنه.
قال
السيد الحكيم في بعض الأمثلة المذكورة: «إنّ المرتكز كون العوض عوضاً عن التصرف لا عن الإباحة، فلا يبعد إذاً أن يكون ذلك من باب الإباحة على نحو الضمان بالمسمّى بعد امتناع كونه من باب
الإجارة للجهالة الموجبة للبطلان».
وقال
السيد اليزدي : «يجوز أن يستعمل الأجير مع عدم تعيين
الأجرة وعدم إجراء صيغة الإجارة فيرجع إلى أجرة المثل...ويكون من باب العمل بالضمان، نظير الإباحة بالضمان كما إذا أذن بأكل طعامه بضمان العوض...».
وقد تسمّى هذه الإباحة بالاباحة المضمونة، أي يكون الانتفاع والأكل مباحاً له ولكنه يضمن قيمته السوقية.ويمكن أن يتّفقا على قيمة مسمّاة بينهما أيضاً، وتسمّى بالاباحة المعوّضة.فالاباحة المالكية ليست منافية مع ضمان العين أو المنفعة المباحة للغير.
نعم،
إطلاق الإباحة وعدم اشتراط الضمان ظاهر عرفاً في المجّانية وعدم شرط الضمان، فكلّما تحقق الشرطان أي الإباحة واطلاقها من حيث شرط الضمان كان الضمان منتفياً. هذا في الإباحة المالكية.وأمّا الإباحة الشرعيّة أو
الإذن من الشارع في أكل طعام أو أخذ مال للغير فأيضاً يترتّب عليه انتفاء الضمان؛ لأنّ الدليل الشرعي الدال على
الإباحة الشرعية على نحو الاستحقاق- كما في الموارد المشار اليها- ظاهر في الاستحقاق بنحو المجّانية، لا على وجه الضمان. وقد تقدّم التعرّض إلى بعض ذلك.
ومن الآثار المترتّبة على الإباحة بمعنى المأذونية وحقّ التصرّف أنّها يمكن أن تتعلّق بالتصرّفات القانونية كالبيع والاجارة
والنكاح ، كما إذا أذن المالك أو وليّه أو الشارع بتصرّف قانوني في ماله ببيع أو إجارة أو صلح لمالكه؛ فإنّه يصحّ عندئذٍ.وقد يعبّر عنه بالولاية على التصرف من قبل المالك؛ فإنّ هذه
الولاية ونفوذ التصرّف تحصل بإذن المالك أو وليّه أو بإذن الشارع، كما قد يحصل بعقد إذني بينهما كما في عقد الوكالة
والمضاربة ونحوهما، كما أنّ تصحيح التصرف القانوني كما يتحقق بالإذن والإباحة المالكية بالنسبة للتصرّفات القادمة كذلك يمكن أن يتحقق بالنسبة للتصرّفات السابقة إذا كانت واقعة بلا إذن المالك أو الولي، ويسمّى هذا الاذن اللاحق بالاجازة، فلو أجاز المالك أو الولي البيع الواقع سابقاً على ماله فضولة أو
التزويج الواقع سابقاً لعبده من دون إذنه صحّ ذلك التصرف بالاجازة اللاحقة، وترتبت آثار الصحة عليها من أوّل الأمر. وتفصيله يراجع في مصطلح (إذن) و (إجازة).
ومما يترتّب على الإباحة بهذا المعنى حق المباح له في مطالبة الغاصب ومن في يده المال المباح له غصباً وبلا إذن من المالك؛ لأنّ له حق
الانتفاع والتصرف فيه، فيكون مستحقّاً للمال، فيمكن مطالبته به كالمالك
وإقامة الدعوى عليه. وهذا الأثر لم يكن مترتباً على مجرّد الإباحة التكليفية، كما هو واضح.
قال
الشيخ الأنصاري في ثبوت حق
المطالبة للمالك والمباح له على القول بإفادة المعاطاة للإباحة: «الظاهر على القول بالإباحة أنّ لكل منهما المطالبة ما دام(المال المغصوب) باقياً».
وعلّق السيد الحكيم رحمه الله على كلامه:«أمّا الآخذ فلأنّه على القول بالإباحة له
السلطنة على جميع التصرّفات، والمطالبة به من شئون تلك السلطنة؛ إذ الغصب تضييق لدائرتها».
الموسوعة الفقهية، ج۲، ص۱۲۹-۱۴۰.