إحياء الموات (بالعرض)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
إحياء الموات (توضيح) .
إذا جرى على الأرض ملك مسلم ومن بحكمه فما دامت عامرة فهي له ولورثته بعده وإن ترك
الانتفاع بها، بلا خلاف،
بل ادّعي عليه
الإجماع ،
فلا يزول ملكهم عنها إلّا
بالإعراض كسائر الأملاك، حتى إذا جُهل مالكها فهي مال
مجهول المالك، كما صرّح به بعضهم.
وأمّا إذا عرض عليها الموت والخراب فإمّا أن لا يكون لها مالك، أو يكون لها مالك مجهول، أو معلوم، أو يكون من الأراضي
الموقوفة ، فهي أربعة أقسام، ونتعرّض لحكم كلّ منها فيما يلي:
وهو كالأراضي
الدارسة المتروكة والقرى و
البلاد الخربة، والقنوات الطامسة التي كانت للُامم الماضية ولم يبق منهم
اسم ولا
رسم ، ولا إشكال في جواز إحيائها كالموات بالأصل؛ لأنّها من الأنفال وللإمام، فتشملها الأخبار الواردة في إذنه عليه السلام في احيائها، ولا يجري عليها حكم مجهول المالك؛ لفرض عدم مالك لها إلّا الإمام عليه السلام، وقد حكى عليه الإجماع في الجواهر عن ظاهر
السرائر و
التذكرة و
جامع المقاصد وصريح
المفاتيح ،
وهذا
المقدار هو القدر المتيقّن من
إطلاق قول جماعة: (إن لم يكن لها مالك معروف فهي للإمام) وما في معناه.
قال
السيد بحر العلوم في الأرض الموات: «إمّا أن لا يكون له مالك معروف سواء لم يكن له مالك أصلًا لانقراضه و
انقطاعه أو كان مجهولًا لا يمكن تشخيصه ولو في محصور، وهذه كلّها للإمام عليه السلام كالموات
بالأصالة ، يجوز إحياؤها مطلقاً وللمسلمين خاصّة- على الخلاف- مشروطاً بإذن الإمام عليه السلام مطلقاً أو في زمان
الحضور خاصة، على الخلاف أيضاً...».
وقال السيد الخوئي قدس سره: «الموات بالعارض على أقسام، الأوّل: ما لا يكون له مالك، وذلك كالأراضي الدارسة... إلى أن قال-: أمّا القسم الأوّل فحاله حال الموات بالأصل، ولا يجري عليه حكم مجهول المالك».
وقال
الإمام الخميني : «فأمّا القسم الأوّل فهو بحكم الموات بالأصل في كونه من الأنفال وأنّه يجوز إحياؤه ويملكه المحيي، فيجوز إحياء الأراضي الدارسة التي بقيت فيها
آثار الأنهار والسواقي والمروز... ولا يعامل معها معاملة مجهول المالك...».
وقد مرّ في البحث السابق تصريح جماعة بكون ما ملك وباد أهلها من الأنفال كالموات بالأصل في جواز إحيائها.
والدليل على كونها من الأنفال- مضافاً إلى عموم ما دلّ على أنّ كلّ موات من الأنفال- خصوص الأخبار الواردة في الخربة وما باد
أهلها :
منها: رواية
حمّاد عن
العبد الصالح عليه السلام : «... والأنفال كلّ أرض خربة قد باد أهلها و...».
ومنها: رواية
إسحاق بن عمّار قال: سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الأنفال، فقال: «هي
القرى التي قد خربت وانجلى أهلها فهي للَّه وللرسول... وما كان من الأرض الخربة لم يوجف عليه
بخيل ولا
ركاب ، وكلّ أرض لا ربّ لها...».
ومنها: رواية
عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن الأنفال، فقال: «هي القرى التي قد جلا أهلها وهلكوا فخربت، فهي للَّه وللرسول».
ومنها: رواية
داود بن فرقد عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «... وكلّ أرض ميتة قد جلا أهلها...».
فيشملها جميع الأخبار الدالّة على إذنهم عليهم السلام في إحياء الموات من الأنفال.
وهو ما علم له مالك غير معيّن- ولو في
محصور - وصريح جماعة من الفقهاء أنّها أيضاً للإمام عليه السلام ومن الأنفال، قال الشهيد الثاني: «فأمّا إذا كانت ميتة والحال أنّها كانت في
الأصل مملوكة ثمّ جهل مالكها فهي للإمام عليه السلام، ثمّ إن كان حاضراً لم يصحّ إحياؤها إلّا بإذنه كغيرها من الموات المتقدّم...».
وبمثله عبارة
السبزواري في
الكفاية ،
وقد مرّ
تصريح السيد بحر العلوم في كونها ملكاً للإمام عليه السلام،
ومقتضى
إطلاق عبارة المحقق والعلّامة الحلّيين وغيرهم أيضاً ذلك.
قال المحقّق الحلّي: «وإن لم يكن لها مالك
معروف معيّن فهي للإمام، ولا يجوز إحياؤها إلّا بإذنه، فلو بادر مبادر فأحياها من دون إذنه لم يملك، وإن كان الإمام عليه السلام غائباً كان المحيي أحقّ بها ما دام قائماً
بعمارتها ...».
بل قال المحقّق النجفي: «أمّا إذا لم يكن لها مالك معروف للجهل به أو لهلاكه وكانت ميتة فهي للإمام عليه السلام إجماعاً محكيّاً في ظاهر السرائر والتذكرة وجامع المقاصد وصريح المفاتيح في الثاني والخلاف في الأوّل».
وحينئذٍ فتشملها الإطلاقات الدالّة على إذنهم عليهم السلام في إحياء الموات. ولكنّ الظاهر من بعضهم الإشكال في ذلك والتوقّف عن
إجراء أحكام الموات عليه، إلّا في فرض ثبوت
الإعراض الذي هو خروج عن محلّ البحث كما لا يخفى.
قال الشيخ الأنصاري: «وما يعلم بقاؤه(
بقاء مالكه) ولا يتمكّن من معرفة شخصه، ومقتضى إطلاق الفتاوى ومعاقد الإجماع كونها من الأنفال، إلّا أنّ
تقييد الموات في أخبار الأنفال تارة بما باد أهلها، واخرى بالتي لا ربّ لها يوجب خروج ذلك، إلّا أن يُراد بالربّ المالك المعروف، وحينئذٍ فيقع
التعارض بين أدلّة مجهول المالك وأدلّة الموات، إلّا أنّ
الإنصاف انصراف أدلّة الطرفين إلى غير المقام، وعلى فرض الانصراف ففي
الترجيح تأمّل، ولا يترك
الاحتياط ».
وقال السيد الخوئي: «وأمّا القسم الثاني ففي جواز إحيائه والقيام بعمارته وعدمه وجهان،
المشهور هو الأوّل، ولكنّ
الأحوط فيه
الفحص عن صاحبه، وبعد
اليأس عنه يعامل معه معاملة مجهول المالك، فإمّا أن يشتري عينه من
الحاكم الشرعي أو وكيله المأذون ويصرف ثمنه على الفقراء، وإمّا أن يستأجره منه بأُجرة معيّنة، أو يقدّر ما هو
أجرة مثله ويتصدّق بها على الفقراء، هذا فيما إذا لم يعلم بإعراض مالكه عنه، وأمّا إذا علم به جاز إحياؤه وتملّكه بلا حاجة إلى
الإذن أصلًا».
وقال الإمام الخميني قدس سره: «وأمّا القسم الثاني فالأحوط
الاستئذان فيه من الحاكم في الإحياء و
القيام بتعميره والتصرّف فيه، كما أنّ الأحوط
معاملة مجهول المالك معه بأن يتفحّص عن صاحبه وبعد اليأس يشتري عينها من حاكم الشرع ويصرف ثمنها على الفقراء، وإمّا أن يستأجرها منه بأُجرة معيّنة أو يقدّر ما هو اجرة مثلها، لو انتفع بها، ويتصدّق بها على الفقراء...».
بل قال المحقق النجفي- بعد ما مرّ من الإجماعات المحكيّة في كونها للإمام ومن الأنفال-: «إلّا أنّ الجميع لم أتحقّقه، بل لم أعرف وجهه؛ ضرورة كونها من مجهول المالك مع فرض عدم زوال ملك الأوّل بالموات وعدم هلاكه...».
بل ظاهر كلامهم شمول هذا الإشكال حتى لفرض حصول ملك الأوّل بغير الإحياء.
وهذا الإشكال منهم إمّا لعدم زوال الملك بمجرّد الموت عندهم، كما مرّ فرضه في كلام الجواهر؛
استناداً إلى عمومات مملّكية الإحياء، أو خصوص بعض الأخبار المشتملة على لزوم الطسق للمحيي الأوّل الكاشف عن بقاء ملكه عادة، أو لاستنادهم إلى
استصحاب بقاء الملك بعد الشك في مفاد الأخبار بالنسبة للمقام، وإن اشكل ذلك أيضاً بناءً على القول بعدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية، كما عليه السيد الخوئي على ما فصّل في مبحث الاستصحاب، أو للزوم الاحتياط بعد
إجمال الأدلّة بالنسبة للمقام وعدم جريان الأصل، أو لوجه آخر. ولو قيل بخروجها عن ملك الأوّل بمجرّد الموت ودخولها في الأنفال بما ستأتي من الوجوه في القسم الثالث فلا وجه لإجراء أحكام مجهول المالك عليه؛ لفرض عدم المالك، فينتفي حكم مجهول المالك
بانتفاء موضوعه، وتختصّ عندئذٍ إطلاقات مجهول المالك بغير الأرض الميّتة بالعارض.
قال المحقق النجفي بعد عبارته السابقة: «اللهمّ إلّا أن يثبت من الأدلّة إخراج خصوص الأرض من بين مجهول المالك في كونها للإمام عليه السلام ولو
لاندراجها في الخربة التي ورد في النصوص
أنّها من الأنفال، أو فيما لا ربّ لها خصوصاً مع عدم العلم بوجود المالك، أو قلنا بخروجها عن ملك الأوّل بالموت إذا فرض أنّ ملكه لها بالإحياء، ولكن قد عرفت ما في الأخير».
وهو ما كان له مالك معلوم، وفيه أقوال:
الأوّل- أنّها باقية على ملك الأوّل أو حقّه- على الخلاف في أصل المسألة- ولا يزول بالموت، سواء كان قد ملكها بالشراء ونحوه أو بالإحياء وذهب إليه
جماعة من الفقهاء.
قال
الشيخ الطوسي : «وأمّا الذي جرى عليه ملك المسلم فمثل قرى المسلمين التي خربت وتعطّلت فإنّه ينظر، فإن كان صاحبه معيّناً فهو أحقّ بها وهو في معنى العامر، وإن لم يكن معيّناً فإنّه يُملك بالإحياء؛ لعموم الخبر، وعند قوم لا يملك». وقال في موضع آخر من كلامه: «وأمّا الغامر فعلى ضربين:
أحدهما: لم يجرِ عليه ملك أحد، والآخر: جرى عليه ملكه، فالذي لم يجر عليه ملك أحد فهي للإمام خاصّة... وأمّا الذي جرى عليه ملكٌ فإنّه ينظر فإن كان صاحبه معيّناً فهو له، ولا يملك بالإحياء بلا خلاف، وإن لم يكن معيّناً فهو للإمام عندنا...».
وقال في
النهاية : «من أحيا أرضاً ميّتاً كان أملك بالتصرّف فيها من غيره، فإن كانت الأرض لها مالك معروف كان عليه (المحيي) أن يعطي صاحبَ الأرض طسق الأرض، وليس للمالك
انتزاعها من يده ( المحيي) ما دام هو راغباً فيها».
وقال المحقق الحلّي في
جهاد الشرائع : «كلّ أرض موات سبق إليها سابق فأحياها كان أحقّ بها، وإن كان لها مالكٌ معروف فعليه طسقها»
يعني للمالك الأوّل، وهذا ظاهر في بقاء ملكيّته بناءً على
الملازمة بين لزوم الطسق و
الملكية ،(وقد يحتمل عدم التلازم؛ لاحتمال كون الطسق حكماً شرعيّاً لرعاية حال السابق، ويؤيده أنّ العلّامة القائل بملك الثاني أتى بنفس هذه العبارة في باب الجهاد حيث قال: «فإن كان لها مالك معروف وجب عليه طسقها لمالكها»، إلّا أن يعتبر ذلك قولًا ثانياً له في المسألة كما هو دأبه في كثير من الفروع. )
ومثله عبارة الإرشاد.
بل لعلّ قول المحقق الحلّي في مباحث الإحياء- وكلّ أرض جرى عليه ملك لمسلم فهي له أو لورثته بعده، وإن لم يكن لها مالك معروف معيّن فهي للإمام
- أيضاً ظاهر في بقائها على ملك
المالك الأوّل مع تعيّنه بمقتضى مفهوم الشرط، ومثله عبارة العلّامة في
القواعد .
وقال الشهيد الأوّل: «عامر الأرض ملك لأربابه، ولو عرض له الموات لم يصحّ لغيرهم إحياؤه إلّا بإذنهم، ولو لم يُعرفوا فهو للإمام»،
وظاهره
البقاء في ملك الأوّل مع معرفته.
وقال
المحقّق الثاني - بعد التعرّض لهذا القول وأدلّته-: «وهذا متين».
وفي
الجواهر بعد حكاية نسبته إلى
المهذّب و
السرائر و
الجامع للشرائع وغيره
و
اختياره له، نسبه إلى المشهور.
ثمّ الظاهر من إطلاق هؤلاء شمول الحكم لما إذا كان المالك قد ملكها بالشراء ونحوه وبالإحياء، بل لعلّ كلامهم كالصريح في القسم الثاني؛ لأنّ القسم الأوّل ممّا لا خلاف فيه عندهم كما ادّعاه في التذكرة،
بل فيها عن
ابن عبد البرّ إجماع الفقهاء عليه، وإن استُشكل فيه بأنّه
حكاية إجماع عمّن لا نعرفه.
وممّن ذهب إلى هذا الإطلاق صريحاً الإمام الخميني في المعاصرين حيث قال: «فإن كان سبب ملك المالك غير الإحياء مثل أنّه ملكها
بالإرث أو الشراء فليس لأحدٍ وضع اليد عليها»، ثمّ تعرّض لفرض ملكه بالإحياء، وقال: «فجوّز إحياءها لغيره بعضهم، وهو في غاية الإشكال، بل عدمه لا يخلو من قوّة».
ودليلهم عليه إطلاقات الإحياء الظاهرة في حصول الملك أو الحقّ للمحيي بمجرد الإحياء، ومقتضى عدم تقيّده بشيء أو وقت أنّ هذا
الاختصاص باقٍ ما لم يطرأ بعض أسباب النقل من
الشراء و
الصلح ونحوها. وأمّا الموت فهو عين المتنازع فيه، وأمّا شمول نفس هذه الإطلاقات للمحيي الثاني فتكشف هي عن خروج الأرض عن ملك الأوّل بمجرّد الموت أو بعد
إحياء الثاني فسيجيء جواب الشهيد عنه.
مضافاً إلى خصوص خبر
سليمان بن خالد : أنّه سأل الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمّرها ويزرعها ما ذا عليه؟ قال: «
الصدقة »، قلت: فإن كان يعرف صاحبها، قال: «فليؤدِّ إليه حقّه»،
بناءً على
ظهور الحقّ في نفس الأرض أو اجرتها التي هي تابعة للأرض في الملكيّة ما لم تنفصل عنها
بإجارة ونحوها، أو ظهوره في الطسق باعتباره حقّاً ثابتاً للأوّل بتبع ملكه للعين، لا تكليفاً مستقلّاً متعلّقاً به ولو من باب كونه مالكاً له سابقاً، وهو الفرض الذي يأتي عن الشهيد
احتماله في الرواية.
قال المحقّق الكركي: «ويدلّ عليه قول الصادق عليه السلام في رواية سليمان بن خالد... «فليؤدّ إليه حقّه»، وهو ظاهر في
أداء الأرض إليه؛ لأنّها حقّه. ولأنّه لو حمل على الطسق يحصل المراد؛ لأنّه فرع الملك. ولإطلاق قوله عليه السلام: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له»،
واللام تقتضي الملك، وخروج الملك يحتاج إلى سببٍ ناقل وهو محصور، وليس من جملة الأسباب الخراب. ولأنّ ما ملك ببيع أو إرث ونحوهما لا يخرج عن الملك بخرابه، صرّح به في التذكرة والظاهر أنّه
اتفاقي ، فكذا ما هنا؛
للاستواء في الملك. ولأنّ مطلق الملك لا بدّ أن ينتهي إلى الإحياء.
وهذا متين»،
وقريب منه ما في الجواهر.
فلا حاجة بعد ذلك إلى
الاستدلال لهذا القول بالنبوي: «ليس لعرق ظالم حقّ»
بناءً على ما قيل- في تفسيره-: من أن يأتي الرجل الأرض الميتة لغيره فيغرس فيها؛ إذ من الواضح توقّف صدق الظلم على ثبوت حقّ سابق وهو عين المتنازع فيه، ولا حجّة في
التفسير المزبور المحكي عن
هشام بن عروة الذي قوله غير حجة كما صرّح به الشهيد وغيره.
ثمّ القائلون ببقاء الأرض على ملك الأوّل مختلفون بين قائل بعدم جواز تصرّف الغير فيها بالإحياء إلّا بإذن المالك، وقد مرّت عبارة الدروس الصريحة في عدم جواز الإحياء إلّا بإذن مالكه، وإن صرّح في موضع آخر بكفاية استئذان الإمام مع
امتناع المالك وسقوطه عند تعذّرها.
وقائلٍ بسقوط الإذن مطلقاً، فيجوز إحياء الأرض من دون إذن وإن كان ملكاً للأوّل، وهم الأكثر، وعندئذ فلو راجعها المالك فعلى المحيي طسقها له، كما مرّ
التصريح به من نهاية الشيخ والمحقق والعلّامة، بل قد مرّ تصريح الشيخ في النهاية بأنّه «ليس للمالك انتزاعها من يده ما دام هو راغباً فيها».
ولعلّه لظهور رواية سليمان بن خالد في سقوط الإذن؛ إذ لم تتعرّض له مع كونها في موضع بيان.
القول الثاني: التفصيل بين ما إذا كان قد ملكها الأوّل بالشراء ونحوه فلا يزول ملكه، وما إذا ملكها بالإحياء فيزول بمجرّد الموت أو بإحياء الغير، على الخلاف.
ومال إليه في التذكرة،
وقوّاه في
المسالك والروضة،
وجعله في المفاتيح أصحّ وأوفق بالجمع بين الأخبار،
وفي الكفاية
أقرب ،
بل نسبه المحقق الكركي إلى المشهور.
وذهب إليه من المعاصرين السيد الخوئي قدس سره حيث قال: «فالظاهر جواز إحيائه لغيره إذا كان سبب ملك المالك الأوّل الإحياء، وليس له انتزاعه من يد المحيي، وإن كان
الأحوط أنّه لو رجع إليه المالك الأوّل أن يعطي حقّه إليه، ولا يتصرّف فيه بدون إذنه. وأمّا إذا كان سبب ملكه غير الإحياء من الشراء أو الإرث فالأحوط عدم جواز إحيائه لغيره والتصرّف فيه بدون إذنه، ولو تصرّف فيه بزرع أو نحوه فعليه اجرته لمالكه على الأحوط».
وظاهر احتياطه فيما إذا ملكه بالشراء ونحوه- الذي أفتى المشهور ببقاء الملك في هذه الصورة، بل مرّ دعوى عدم الخلاف بل الاتّفاق فيه- أنّ ما سيجيء من أدلّة بقاء الأرض على ملك المحيي الأوّل في هذه الصورة أيضاً قابل للمنع و
إيراد الإشكال، كما سيجيء ذكرها في القول الثالث.
وعمدة الدليل لهذا التفصيل- بعد البناء على عدم زوال ملك ما ملك بغير الإحياء، للوجوه السابقة التي منها الإجماع المدّعى- الإشكال في دلالة أخبار الإحياء بالنسبة لحال عروض الموت؛ إذ الفرض شمولها للمحيي الثاني أيضاً إن لم يكن أقوى مضافاً إلى بعض الأخبار الخاصّة الدالّة على ملك الثاني بالإحياء، ويترتّب على ذلك عدم جريان استصحاب بقاء ملك الأوّل أيضاً؛ لقيام الدليل على ملك الثاني عندئذ.
قال الشهيد الثاني: «أمّا الأوّل (أي عمومات الإحياء) فنقول بموجبه، لكنّه كما دلّ على ملك الأوّل لها بالإحياء دلّ على ملك الثاني أيضاً، بل دلالته أقوى؛ لأنّه سببٌ طارٍ مملّك بمقتضى الحديث، وإذا طرأ سبب مملّك على سببٍ سابق كان
التأثير للثاني، مع أنّه مصرّح بما ذكرناه من
رجحانه في أخبار صحيحة سيأتي ذكرها... وأمّا الثالث (أي رواية سليمان بن خالد) ففيه- مع ضعف
السند : عدم
الدلالة ؛ فإنّ أمره بأداء حقّ صاحبها أعمّ من كونه الأرض أو اجرتها أو غيرهما من
الحقوق الخارجة عنها. ولا دلالة أيضاً في لفظ (صاحبها)؛ لأنّ
الصاحب يصدق بنسبتها إليه سابقاً وإن زال ملكه. وأمّا
أصالة بقاء الملك فمنقطعة بما سنذكره من الأخبار الصحيحة الدالّة على أنّ إحياءها بعد خرابها من أسباب الملك للثاني. وبها يحصل
الجواب عن الأخير أيضاً، ويحصل الفرق بين ما ملكت بالشراء وشبهه وبالإحياء... وذهب جماعة من أصحابنا... إلى صحة إحيائها، وكون الثاني أحقّ بها من الأوّل؛ لعموم... وخصوص صحيحة أبي خالد الكابلي عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «وجدنا في كتاب
علي عليه السلام : «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»
أنا و
أهل بيتي الذين أورثَنا الأرض ونحن المتّقون، والأرض كلّها لنا، فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمّرها وليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها، فإن تركها أو أخربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمّرها وأحياها فهو أحقّ بها من الذي تركها، فليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل حتى يظهر
القائم ...»
». فإنّ ظاهرها
زوال حق الأوّل بمجرّد الموت أو بعد إحياء الثاني.
ثمّ قال: «وصحيحة
معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: «أيّما رجل أتى خربة بائرة فاستخرجها وكرى أنهارها وعمّرها فإنّ عليه فيها الصدقة، فإن كانت أرضٌ لرجل قبله فغاب عنها وتركها وأخربها، ثمّ جاء بعدُ يطلبُها؛ فإنّ الأرض للَّه ولمن عمّرها»
». ويبتني الاستدلال بها لمرام الشهيد على
استظهار أولويّة الثاني منها دون الأوّل.
ثمّ قال: «ولأنّ هذه الأرض أصلها مباح، فإذا تركها حتى عادت إلى ما كانت عليه صارت مباحة، كما لو أخذ ماءً من دجلة ثمّ ردّه اليها. ولأنّ العلّة في تملّك هذه الأرض الإحياء والعمارة، فإذا زالت العلّة زال
المعلول وهو الملك، فإذا أحياها الثاني فقد أوجد سبب الملك فيثبت الملك له، كما لو التقط شيئاً ثمّ سقط من يده وضاع عنه فالتقطه غيره، فإنّ الثاني يكون أحقّ به».
وقريب منه عبارة المفاتيح.
وقال المحقّق السبزواري: «ويدلّ على ما اخترناه عموم صحيحتي محمّد بن مسلم،
و
حسنة زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير وجماعة من
الفضلاء عن الباقر والصادق عليهما السلام قالا: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: من أحيا مواتاً فهو له»،
وخصوص صحيحة الكابلي السابقة وصحيحة معاوية بن وهب».
ثمّ قال: «احتجّوا بالاستصحاب، وبعموم صحيحتي محمّد بن مسلم، وبصحيحة سليمان بن خالد. والأوّل ضعيف، ودلالة الصحيحتين على مطلوبنا أقوى؛ لأنّ(الإحياء) الأخير عارض يزيل حكم الأوّل، وصحيحة سليمان غير دالّة على الوجوب». ولعلّ مراده ما مرّ من الشهيد، وإلّا فظاهرها الوجوب: ثمّ قال: «ونحوها صحيحة
الحلبي ،
ويمكن تخصيصهما بصورة
الانتقال بالبيع ونحوه».
ومراده الإشارة إلى ما صرّح به في المفاتيح، حيث قال في ذيل قول الإمام «فليؤدّ إليه حقه» : «وحُمل على ما إذا ملكها الأوّل بغير الإحياء؛ جمعاً بينه وبين سائر الأدلّة».
ولعلّ العمدة في ما ذكروه دليلًا للتفصيل الأخبار، وأمّا سائر الوجوه فهي قابلة للإشكال كما لا يخفى.
القول الثالث: زوال الملك بالموت مطلقاً وصيرورتها من الأنفال حتى إذا ملكها بغير الإحياء، وهذا الوجه وإن كان ظاهر
النراقي في
المستند وجود قائل به،
ولعلّ ظاهر الكفاية- في نسبتها القول ببقاء ملك الأوّل إذا مُلك بالشراء ونحوه إلى المعروف- أيضاً ذلك،
وقد مرّ عدول السيد الخوئي قدس سره عن
الفتوى ببقاء الملك في هذه الصورة إلى الاحتياط،
إلّا أنّه لم نجد منهم من ذهب إلى القول به صريحاً أو ظاهراً.
ويمكن الاستدلال لهذا القول بإطلاقات الأنفال الشاملة لكلّ خربة، سواء كان لها مالك معروف أو لم يكن، وسواء كان قد ملكها
المالك بالإحياء أو غيره، وقد مرّ ذكر عدّة منها في القسم الأوّل،
إلّا أنّهم خصّوه ببعض الصور كما مرّ تفصيله.
ثمّ ليعلم أنّ هذا كلّه إنّما هو مع عدم العلم بإعراض المالك، وأمّا مع العلم به فيجوز إحياء الأرض قطعاً كما صرّح به جماعة،
سواء قلنا: إنّ الإعراض من أسباب الخروج عن الملك أو إنّه موجب
لإباحة التصرّف.
ولو قيل ببقاء الشيء
المعرض عنه على ملك المعرِض، وأنّه لا دليل أيضاً على جواز تصرّف الغير فيه، فيجري في خصوص الأرض، التفاصيل السابقة؛ لقيام الدليل على جواز التصرّف في ملك الغير في خصوص الأرض التي عرض عليها الموات على حسب ما مرّ من الوجوه.
كما أنّه إذا علم أنّ تركَ المالك لإحياء الأرض لم يكن من باب
الإهمال وعدم
الاعتناء بشأنها، بل بغرض
الانتفاع منها على تلك الحال ببيع حشيشها وقصبها وغيرها ممّا فيها، أو جَعْلِها مرعىً لدوابّه وأنعامه، أو أنّه كان عازماً على إحيائها وإنّما أخّر ذلك
لانتظار وقتٍ صالح له، أو لعدم توفّر
الآلات والأسباب التي يتوقّف عليها الإحياء، فإنّه لا
إشكال ظاهراً في جميع هذه الصور في عدم جواز التصرّف في الأرض من دون إذن المالك، وقد صرّح بذلك كلّه السيد الخوئي والإمام الخميني .
ولعلّ هذا من الواضحات
فقهيّاً التي لا بدّ لكلّ فقيه من القول به، فعدم تعرّضهم لمثل ذلك في أبواب الإحياء والأنفال لا يدلّ على عدم
اعتقادهم به، فلا
إطلاق لكلماتهم بالنسبة لهذه الفروض كما لا يخفى.
الموسوعة الفقهية، ج۷، ص۱۷۵-۱۸۷.