الاجتهاد في الاصطلاح الاصولي
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
مرّت كلمة الاجتهاد بمصطلحات عديدة في تاريخها، ولعلّ أوّل
استعمال لهذه الكلمة على الصعيد العلمي كان للتعبير بها عن قاعدة من القواعد التي قررتها بعض المدارس في فقه العامة وسارت على أساسها، ومفادها: أنّ
الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصّاً يدل عليه في الكتاب أو السنة رجع إلى الاجتهاد، بمعنى
إعمال رأيه وظنّه الشخصي بدلًا عن النص. والاجتهاد هنا يعني الظن أو الرأي الشخصي للفقيه فيما يرجح عنده من تشريع.
والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلًا من أدلّة الفقيه يستند إليه في حالات عدم توفّر النص من الكتاب والسنّة في بعض المذاهب. وقد لقي هذا المعنى للاجتهاد معارضة شديدة من قبل
أئمّة أهل البيت عليهم السلام وفقهاء مدرستهم. وقد استمر
استخدام هذه الكلمة بهذا المعنى إلى القرن السابع، ولكنها تطورت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا، ولعلّ أقدم نص شيعي يعكس هذا التطور هو كتاب (
المعارج ) للمحقق الحلّي (ت ۶۷۶)، إذ كتب المحقق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد:
«وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في
استخراج الأحكام الشرعية، وبهذا
الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلّة الشرع اجتهاداً؛ لأنّها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر، سواء كان ذلك الدليل قياساً أو غيره... فإذا استثني القياس كنّا من
أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليست أحدها القياس»
فالاجتهاد بهذا المعنى يتفق مع مناهج
الاستنباط في
الفقه الإمامي، حيث لم يعدّ الاجتهاد مصدراً من مصادر الاستنباط، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره نفسها التي يمارسها الفقيه.
وقد مرّ هذا المعنى للاجتهاد بتطور آخر، فبعد أن حدّده
المحقق الحلّي في نطاق عمليات الاستنباط التي لا تستند إلى ظواهر النصوص، اتسع نطاقه فيما بعد ليشمل عملية استنباط الحكم من ظاهر النص أيضاً. ولم يقف توسع الاجتهاد كمصطلح عند هذا الحدّ بل شمل في تطور حديث عملية الاستنباط بكل ألوانها، فدخل فيه كل عملية يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة عن طريق
إقامة الدليل على الحكم الشرعي أو على تعيين الموقف العملي مباشرة،
حيث عرّفه جمع بأنّه بذل الوسع في تحصيل الحجة على الوظيفة الفعلية.
الرأي لغة:
اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن.
واصطلاحاً: هو
الاعتماد على التفكير الشخصي في استنباط الحكم الشرعي، فالرأي مرادف للاجتهاد بالمعنى الأوّل.
قال
ابن منظور في
لسان العرب : «الاستنباط: الاستخراج، واستنبط الفقيه إذا استخرج الفقه
الباطن باجتهاده وفهمه».
وفي استعمال الفقهاء أحياناً يكون الاستنباط مرادفاً للاجتهاد إذا كان الأخير بالمعنى المتكامل عندنا، أمّا الاجتهاد بمعنى الرأي أو الظن الشخصي للفقيه (المعنى الأوّل) فهو يعتبر أحد أدلّة الاستنباط في بعض المذاهب.
التفقّه من الفقه، والفقه لغة: التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم. والفقه: العلم بأحكام الشريعة عن أدلتها، يقال: فقه الرجل فقاهة إذا صار فقيهاً. وتفقّه: إذا طلبه فتخصص به،
قال تعالى: «لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ».
وعنوان التفقّه لا يختص بفروع الدين، بل يعمّ كل ما تضمّنه الدين من اصول وفروع. والاجتهاد يختص بفروع الدين، فيكون التفقّه في الدين أعم من الاجتهاد.
الإفتاء لغة من الفُتيا أو الفتوى، وهي
اسم من أفتى، والفقيه يفتي أي يبيّن المبهم.
واصطلاحاً: يقال لبيان الوظائف الشرعية من قبل المجتهد لمستفتيه ومقلّده حسب استنباطه. ويكون الاجتهاد بالمعنى الذي اعتمدناه شرط في صحّة الافتاء.
•
مشروعية الاجتهاد،
الاجتهاد من الجهد بمعني بذل الطاقة والوسع وفي
الأصول بمعني الظن أو الرأي الشخصي للفقيه فيما يرجح عنده من
تشريع ويعتبر دليلًا من أدلّة
الفقيه يستند إليه في حالات عدم توفّر النص من الكتاب والسنّة في بعض المذاهب، ولهذا نبحث هنا حول مشروعية الاجتهاد ونذكر بعض أقوال الفقهاء واتجاهاتهم في هذه المسألة.
صرّح أغلب فقهائنا بأنّ حكم الاجتهاد في مقام
الامتثال هو الوجوب التخييري،
حيث ذكروا بأنّه يجب على كل مكلّف بحكم العقل تحصيل ما هو المؤمّن من العقاب، حيث إنّه يدرك أنّ في
ارتكاب المحرم وترك الواجب من دون
استناد إلى الحجّة استحقاقاً للعقاب، كما أنّ في ارتكاب المشتبهات احتمال العقاب؛ لتنجّز الأحكام الواقعية على المكلّفين بالعلم الإجمالي أو
الاحتمال قبل الفحص.
وتحصيل المؤمّن من العقاب يكون بأحد امور ثلاثة:
فإنّ المجتهد إمّا أن يعمل على طبق ما قطع به بالوجدان، كما في القطعيات والضروريات وهو قليل، وإمّا أن يعمل على طبق ما قطع بحجّيته من
الأمارات والاصول.
فإنّ المقلّد يستند إلى فتوى المجتهد، وهو حجّة عليه باعتبار
الارتكاز الثابت ببناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم، والذي أمضاه الشارع. وقد استدل عليه أيضاً ببعض الأدلّة الشرعية المتمثّلة في دلالة بعض الآيات والروايات وبالسيرة المتشرعية.
وهو
الإتيان بعمل يسبب القطع بعدم استحقاقه العقاب، وذلك باتيان جميع محتملات التكليف بحيث يحرز امتثال التكليف الواقعي، قال
المحقق اليزدي : «يجب على كل مكلّف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً».
وقد وقع البحث لدى الفقهاء في حقيقة هذا
الوجوب التخييري للاجتهاد وعِدليه، هل هو وجوب شرعي نفسي أو طريقي، أو أنّه وجوب عقلي، أي مجرد حكم العقل بتنجّز الأحكام الشرعية و
استحقاق المكلّف للعقاب على مخالفتها إذا لم يتعلّمها بنفسه أو بالرجوع إلى المجتهدين، والصحيح هو ذلك؛ فإنّه لم يثبت في دليلٍ الوجوب الشرعي التخييري لذلك، وما ورد في بعض النصوص من
الأمر بالتعلّم للأحكام الشرعية
إرشاد إلى الحكم العقلي المذكور، كما يظهر من مراجعة ألسنتها.
نعم، جواز التقليد بالرجوع إلى العلماء المجتهدين ومعذّريته قد ثبت بالدليل الشرعي- على ما يأتي في مصطلح تقليد- ولكنه أمر غير الوجوب التخييري المبحوث عنه هنا.
فإذا لم يثبت بدليل شرعي الوجوب التخييري للاجتهاد وعِدليه لم يبق إلّا حكم العقل بوجوب ذلك من جهة منجزية الأحكام الشرعية الواقعية بالعلم بثبوتها إجمالًا، بل بمجرد احتمالها، فإنّه منجّز عقلًا في الشبهات الحكمية فيجب الخروج عنها إمّا بالقطع بها نفياً أو
إثباتاً - وهو الاجتهاد- أو القطع بعدم مخالفتها- وهو الاحتياط- أو
باتباع طريق جعله الشارع معتبراً ومعذّراً- وهو التقليد- فهذا هو المقصود من الوجوب التخييري العقلي.
قال بعض الفقهاء: «والاجتهاد وعِدليه لا يحتمل فيها الوجوب الشرعي الأعم من النفسي والغيري والطريقي، وأنّ وجوبها متمحّض في الوجوب العقلي.
وذلك لأنّ القول بالوجوب النفسي لا وجه له سوى توهّم أنّ تعلم الأحكام الشرعية واجب بدعوى
استفادته من مثل ما ورد: «طلب العلم فريضة...»،
أو قوله تعالى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»
وغيرهما ممّا استدل به البعض.
وقد نوقش هذا القول بأنّ تعلم الأحكام ليس بواجب نفسي وإنّما التعلم طريق إلى العمل، كما ورد في بعض الأخبار: «إنّ العبد يؤتى به
يوم القيامة فيقال له: هلّا عملت؟ فيقول: ما علمت، فيقال له: هلّا تعلّمت»،
عن أمالي
الشيخ المفيد ، وما أوردناه بالمضمون. فالمستفاد منه أنّ المراد هو العمل، وعليه لا يكون التعلّم متعلّقاً للوجوب النفسي.
وكذلك ينتفي القول بالوجوب الغيري؛ لأنّ مقدّمة الواجب لو قيل بكونها واجبة شرعاً وجوباً مولوياً فهو مختص بالمقدمات الوجودية للواجب، وهي ما يتوقف حصول الواجب خارجاً عليها، ولا يكون الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط كذلك، بل هي طرق لحصول اليقين أو الحجّة على
تفريغ الذمة وحصول الامتثال أي كالمقدّمات العلمية، كما ذكر مفصلًا في اصول الفقه.
وكذلك ينتفي القول بالوجوب الطريقي، لأنّ المراد به ما وجب لتنجيز الواجب أو
التعذير عنه، ولا معنى محصّل للوجوب الطريقي في الاحتياط، فإنّه ليس منجزاً للواقع بوجه؛ لأنّ الأحكام الواقعية متنجّزة قبل وجوب الاحتياط بالعلم الإجمالي أو بالاحتمال أو لوجود الأمارات القائمة عليها في مظانّها، كما أنّه لا معنى للاحتياط بمعنى المعذّرية؛ لأنّه لا يتصور فيه مخالفة للواقع.
وكذلك الاجتهاد والتقليد لا معنى للوجوب الطريقي فيهما
بالاضافة إلى التنجيز؛ لأنّ الأحكام الشرعية تنجّزت قبل الأمر بهما بالعلم الإجمالي بوجود أحكام
إلزامية في الشريعة.
نعم، يصح الوجوب الطريقي بمعنى المعذّرية في الاجتهاد والتقليد، كما إذا أفتى المجتهد بما أدّى إليه رأيه وعمل به مقلّدوه ولكن كان مخالفاً للواقع، فإنّ اجتهاده حينئذ كتقليد مقلديه معذّران عن مخالفة عملهما للواقع. إلّا أنّ ذلك لا يصحح القول بالوجوب الطريقي في الاجتهاد وعِدليه.
نعم، لو فرض
انحلال العلم الإجمالي بوصول المكلّف إلى المقدار المعلوم
بالإجمال بالطرق والأمارات، فلا محيص في هذه الصورة عن القول بكون وجوب الاحتياط والاجتهاد والتقليد وجوباً طريقياً، أي يكون منجّزاً للواقع، فإنّ التنجيز حينئذٍ يكون مستنداً إلى وجوب الاحتياط، أو وجوب تحصيل الحجّة بالتقليد أو الاجتهاد.
هذا كلّه في حكم الاجتهاد بالنظر إلى أعمال نفس المجتهد.
وأمّا بالنظر إلى رجوع الغير إليه فإنّ الاجتهاد يكون واجباً وجوباً نفسياً كفائياً؛ لبداهة وجوب حفظ الشريعة المقدّسة عن
الانطماس و
الاندراس . ومن الواضح أنّ
إهمال الأحكام الشرعية وترك التصدي لاستنباطها في كل عصر يؤدّي إلى انحلالها و
اضمحلالها ؛ لأنّه لا سبيل إلى تحصيلها وامتثالها حينئذٍ غير التقليد من العلماء الأموات، وقد ذكر في محلّه (في مصطلح: تقليد) أنّ تقليد الميت
ابتداءً أمر غير مشروع، أو الاحتياط، ولكنّه أيضاً لا سبيل إليه؛ لأنّ الاحتياط لا يمكن
الالتزام به في بعض الموارد لعدم إمكانه، كموارد دوران الأمر بين المحذورين، أو لعدم معرفة العامّي كيفيّته وطريقه، أو
لاستلزامه العسر والحرج، بل
إخلال النظام.
وقد يستدل على هذا (حكم وجوب الاجتهاد وجوباً نفسياً كفائياً) في هذا المقام بقوله تعالى: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»،
فإنّها ظاهرة في وجوب تحصيل الأحكام الشرعية كفائياً، ويؤيدها ما ورد من الأخبار في تفسير الآية الكريمة.
•
أقسام الاجتهاد، يمكن تقسيم
الاجتهاد إلى نحوين:الأوّل: تقسيمه إلى الاجتهاد المطلق والاجتهاد
المتجزئ . والثاني: تقسيمه إلى الاجتهاد الفعلي والاجتهاد بالقوة والملكة.
•
مقدمات الاجتهاد، يتوقّف تحصيل ملكة
الاجتهاد على توفّر جملة من المقدمات والمبادئ لا بد للشخص من تحصيلها، وقد تعرّض لها الفقهاء والاصوليون بالبحث واختلفوا في تحديد
اللّازم منها والضروري لتحصيل ملكة الاجتهاد، وما هو شرط لكمال المجتهد.
حينما يتناول المجتهد مسألة من المسائل الفقهية ويحاول استنباط حكمها، فقد يكون اجتهاده بتحصيل القطع والعلم بالحكم الشرعي، كما لو كان الدليل الذي يستند إليه المجتهد من الأدلّة القطعية، كالآيات الكريمة الصريحة في دلالتها على الحكم الشرعي والواضحة في ذلك وضوحاً لا يقبل الشك والتأويل، أو الاجماعات، أو
السيرة المتشرعية أو العقلائية.
وأحياناً اخرى يكون الاجتهاد بتحصيل الحجّة الشرعية، وهذا يحصل عند ما لا يكون الدليل الذي يستند إليه المجتهد قطعياً ولا يوجب العلم بالحكم، إلّا أنّ الشارع أمر بالاستناد إليه في عملية الاستنباط على الرغم من نقصانه، فيصبح كالدليل القطعي ويتحتّم على المجتهد
الاعتماد عليه.
ومن نماذج هذا الدليل
خبر الثقة فهو دليل ظنّي ناقص، وقد جعله الشارع حجة وأمر باتباعه وتصديقه، وبذلك ارتفع إلى مستوى الدليل القطعي، وإن كان علماً جعلياً تعبدياً.
والحجّة الشرعية قد تثبت الحكم الواقعي الشرعي (التكليفي أو الوضعي) وتسمّى بالدليل الاجتهادي أو الأمارات، كحجّية
الظهور ، وحجّية خبر الواحد كما ذكرنا.
وقد تثبت الوظيفة العملية الشرعية للمكلّفين في حال العجز عن معرفة الحكم الواقعي واليأس عن الظفر بأي دليل اجتهادي ويسمّى بالدليل الفقاهتي أو
الأصل العملي، كما في
أصالة البراءة الشرعية و
الاستصحاب و
قاعدة الطهارة .
وكذلك قد يكون الاجتهاد بتحصيل الحجّة العقلية أو تحديد
الموقف العقلي - في فرض فقدان ما يؤدّي إلى الوظيفة الشرعية من دليل اجتهادي أو أصل عملي شرعي- بالرجوع إلى إحدى الاصول العقلية المتمثّلة بالبراءة العقلية أو
التنجيز العقلي أو الاحتياط.
فالفقيه يخرج عن عملية الاجتهاد والاستنباط دائماً بنتيجة، وهي العلم بالموقف العملي تجاه الشريعة وتحديده على أساس الدليل الاجتهادي أو على أساس
الأصل العملي .
•
أحكام المجتهد ومناصبه، متى صدق عنوان
الاجتهاد على شخص وسمي مجتهداً فسوف يتعلّق به بعض الأحكام تكليفاً ووضعاً، وتثبت له بعض المناصب الشرعية، حيث إنّ الاجتهاد موضوع لجملة من الأحكام.
اتفق فقهاء
الإمامية على جواز التخطئة، أي أنّ المجتهد في استنباطه للأحكام قد يخطئ وقد يصيب؛ لأنّ للَّه تعالى أحكاماً ثابتة في الواقع يشترك فيها العالم والجاهل من حيث التكليف.
وهذا في قبال القول بالتصويب في الأحكام الشرعية الذي نسب إلى فقهاء العامة، وهو بمعنى أنّ للَّه سبحانه أحكاماً عديدة في موضوع واحد بحسب
اختلاف آراء المجتهدين، فكل حكم أدّى إليه نظر المجتهد ورأيه فهو الحكم الواقعي في حقّه.
والدليل على
بطلان هذا القول- مضافاً إلى
الإجماع والأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ للَّه حكماً في كل واقعة يشترك فيها العالم والجاهل- نفس إطلاقات أدلّة الأحكام، فإنّ مقتضى
إطلاق ما يدل على وجوب شيء أو حرمته ثبوته في حقّ من قامت عنده
الأمارة على الخلاف أيضاً. هذا بالنسبة إلى الأحكام الواقعية.
أمّا الأحكام الظاهرية، فهي في مرحلة الجعل (أي جعل الحكم على موضوعه المقدّر الوجود) كالأحكام الواقعية في تلك المرحلة قد تُخطئ وقد تصاب، ولا يمكن الالتزام بالتصويب فيها؛ لأنّه
يستلزم اجتماع الضدين أو النقيضين.
أمّا بحسب مرحلة الفعلية (أي إذا وجد موضوع الحكم وتحقّق خارجاً) فالأحكام الظاهرية فيها ممّا لا يتصور فيه التردد والخطأ، ولا بد فيها من الالتزام بالتصويب؛ لأنّ الاختلاف فيها في تلك المرحلة يستند دائماً إلى
التبدل في الموضوع، وليس من الاختلاف على موضوع واحد.
وليس المراد بالتصويب في الأحكام الظاهرية أنّه لا يمكن الخطأ من المجتهد بالاضافة إلى الحكم المجعول في حقّ الشاك؛ فإنّه كالحكم المجعول على ذوات الأفعال قد يصل إليه المجتهد وقد لا يصل، بل المراد به أنّ اختلاف المجتهدين في الأحكام الظاهرية إنّما هو من جهة الاختلاف في موضوعاتها، فكل يعمل بما هو وظيفته بالفعل، ولا يتصور فيه الخطأ من هذه الجهة.
وتمام الكلام في محلّه في علم الاصول.
بناءً على ما تقدّم من الالتزام بالقول بالتخطئة، وأنّ المجتهد قد يصيب في استنباطه الواقع وقد يخطئ وهو معذور، يأتي الكلام في
إجزاء الأحكام الظاهرية عن الأحكام الواقعية على تقدير خطأها وعدمه، فهل يجب على المكلّف امتثال
الأمر الواقعي في الوقت أداءً وفي خارج الوقت قضاءً، أو أنّه لا يجب عليه، بل يجزي ما أتى به على طبق الأمارة أو الأصل ويكتفي به؟
و
انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية قد يكون بالعلم وعدم مطابقتها مع الواقع وجداناً، كما لو قطع المجتهد بأنّ فتواه السابقة مخالفة للواقع، وقد ادّعي الاجماع على عدم الإجزاء في هذه الصورة؛ وذلك لعدم امتثال الحكم الواقعي.
وقد يكون انكشاف الخلاف بقيام حجّة معتبرة عليه، فهنا يقع البحث في إجزاء
الإتيان بالمأمور به الظاهري عن الواجب واقعاً إعادة أو قضاء أو عدم إجزاءه، وقد وقع الخلاف بين الفقهاء فيه، فقد يقال بالإجزاء مطلقاً،
أو بعدم الإجزاء مطلقاً،
أو يقال بالتفصيل بين العبادات والمعاملات بالمعنى الأخص (أي العقود والايقاعات) فيقال بالإجزاء، وبين غيرهما من
الأحكام الوضعية والتكليفية فيقال بعدمه.
كما قد يفصّل بين القضاء و
الأداء فيجزي عن الأوّل دون الثاني.
وحاصل القول بالتفصيل أنّ في العقود و
الايقاعات وكذلك في العبادات، يجوز للمقلّد أن يرتب آثار الصحة عليها ولو بحسب البقاء، بأن يعمل فيها على فتوى المجتهد السابق وإن علم مخالفتها للواقع بحسب فتوى المجتهد الذي قلّده ثانياً، وهذا بخلاف الأحكام الوضعية أو التكليفية فإنّ العمل فيهما على فتوى المجتهد السابق يختص بصورة
انعدام موضوعها، وأمّا مع بقائه فلا بد من العمل على فتوى المجتهد الذي قلّده ثانياً.
ونوقش بأنّ فتوى المجتهد السابق إن كانت حجّة على مقلّديه وجاز تطبيق العمل عليها بحسب البقاء فهي كذلك في كلا الموردين، وإن لم تكن كذلك ولم يجز تطبيق العمل عليها بقاءً فهي أيضاً كذلك في كليهما.
وعليه، فالتفصيل لا أساس له، ولا بد من الالتزام إمّا بإجزاء الأحكام الظاهرية مطلقاً وإمّا بعدم الإجزاء مطلقاً.
وقد يقال: إنّ كلامنا في إجزاء الأحكام الظاهرية عن الواقع مع انكشاف الخلاف وعدمه، إنّما هو في الموارد التي لو علمنا فيها بمخالفة العمل المأتي به على طبق الحجّة السابقة مع الواقع لوجبت إعادته أو قضاؤه، وأمّا الموارد التي لا يجب فيها
الإعادة ولا القضاء حتى مع العلم بالمخالفة فهي خارجة عن محلّ الكلام، مثال ذلك:
إذا صلّى من دون
سورة معتقداً أنّ فتوى مجتهده ذلك، ثمّ علم أنّ فتواه وجوب السورة في الصلاة، فإنّه لا تجب عليه إعادة الصلاة أو قضاؤها لحديث «لا تعاد» وهو صحيح زرارة عن
الباقر عليه السلام : «قال: لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة:
الطهور والوقت و
القبلة و
الركوع و
السجود ».
حتى فيما إذا كان عمله على خلاف فتوى المجتهد السابق والمجتهد الذي يجب تقليده بالفعل، كما إذا أفتى كلاهما بوجوب السورة.
فمحلّ الخلاف في المسألة هو ما إذا كان النقص الواقع في العمل مستلزماً للبطلان، كما إذا كان في الأركان، أمّا موارد فقدان العمل لجزء أو شرط غير ركني لا يبطل العمل بتركه إذا كان مستنداً إلى الحجّة فهي أجنبية عن محلّ الخلاف، وهذا بناءً على أنّ حديث «لا تعاد» لا يختص بالناسي فحسب، بل يعمّ الجاهل والقاصر إذا كان عمله مستنداً إلى حجّة شرعية مخالفة للواقع، وأمّا بناءً على عدم شموله الجاهل و
اختصاصه بالناسي فقط فالموارد المذكورة تندرج في محلّ الكلام.
كما أنّ محلّ الكلام إنّما هو فيما إذا كان بطلان العمل مستنداً إلى
استكشاف المجتهد أو استنباط المجتهد الثاني من الأدلّة بطلان الأعمال الصادرة على طبق الحجّة السابقة بأن يفتي ببطلانها، لا ما إذا كان مستنداً إلى الاحتياط و
أصالة الاشتغال ، إذ الحكم ببطلان الأعمال المتقدّمة لو استند إلى الاحتياط و
قاعدة الاشتغال لم يكن عدم وجوب القضاء في خارج الوقت مورداً للكلام والاشكال، وذلك لأنّه بأمر جديد وموضوعه الفوت، ومع اتيان العمل في الوقت على طبق الحجّة الشرعية لا يمكن
إحراز الفوت بوجه؛ لاحتمال أن يكون المأتي به مطابقاً للواقع، ومع عدم إحرازه يرجع إلى أصالة البراءة عن وجوب القضاء، فهذه الصورة أيضاً ينبغي
إخراجها عن محلّ النزاع.
وعليه يكون مورد البحث هو ما إذا كان العمل المأتي به على طبق الحجّة السابقة فاقداً لجزء أو شرط ركني يبطل العمل بالاخلال به، وكان بطلانه مستنداً إلى الافتاء به، لا إلى أصالة الاشتغال والاحتياط. فهل مقتضى القاعدة حينئذٍ هو الحكم ببطلان الأعمال الصادرة على طبق الحجّة السابقة وعدم كونها مجزئة عن المأمور به الواقعي أو أنّ الأمر بالعكس؟
ذهب معظم المتأخّرين إلى عدم الإجزاء؛
لأنّ الصحة إنّما تنتزع عن مطابقة العمل للمأمور به، فإذا فرضنا عدم مطابقتهما حكم ببطلانه، والحكم بإجزاء غير الواقع عن الواقع بحاجة إلى دليل، ولا دليل عليه.
قال
الشهيد الصدر : «وقد تحصل... أنّه متى ما كان لدليل الأمر الواقعي اطلاق فمقتضى القاعدة عدم إجزاء الحكم الظاهري،
ولزوم الإعادة داخل الوقت والقضاء خارجه في غالب الفروض وبنحو
الاحتياط في بعضها، ما لم يرد مخصّص لمقتضى القاعدة أي لإطلاق دليل الحكم الواقعي، كما ورد في الصلاة حديث «لا تعاد»، أو لم يكن دليل الحكم الواقعي مطلقاً كما في الأدلّة اللبّية على بعض الأجزاء والشرائط والتي قد لا تشمل حالة تبدّل الحكم والوظيفة اجتهاداً أو تقليداً.
وقد يقال أنّ الإجزاء هو المطابق للقاعدة، ويستدل عليه بوجوه، يأتي الكلام فيها ومناقشتها في مصطلح (إجزاء).
إذا اريد
إثبات اجتهاد المجتهد لترتيب الآثار المتقدّمة عليه، فهو كأي موضوع للأحكام الشرعية يثبت بأحد الطرق التالية:
إذا علم بالاجتهاد أو اطمأنّ به فستترتب آثاره؛ وذلك لأنّ العلم حجّة ذاتاً وطريق حقيقة، كما أنّ
الاطمئنان علم لدى العرف فهو حجّة عند العقلاء في إثبات الموضوعات الخارجية، ومن المقطوع به أنّه لم يرد في
الشريعة ردع عنها.
من الطرق المعتبر عند الفقهاء في إثبات الاجتهاد شهادة
عدلين من
أهل الخبرة به، وذلك إذا لم تكن معارضة بشهادة عدلين آخرين منهم على نفيه، حيث إنّ البيّنة تثبت حجّيتها أيضاً في الموضوعات الخارجية والاجتهاد منها، ودلّت عليه روايات عديدة منها موثّقة
مسعدة بن صدقة عن
الصادق عليه السلام و
رواية عبد الله بن سليمان عن الصادق عليه السلام، كما أنّ الشارع قد اعتمد على
إخبار العدلين في موارد الترافع، واعتماده على البيّنة يدلّنا على أنّها من مصاديق الحجّة وما به البيان. ويأتي تمام الكلام في حجّية البيّنة في مصطلح (بيّنة).
ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الاجتهاد كما يثبت بالبيّنة كذلك يثبت بخبر الثقة،
فخبر الثقة كما هو حجّة معتبرة في الأحكام الشرعية كذلك يعتمد عليه في الموضوعات الخارجية؛ وذلك للسيرة الجارية على الاعتماد عليه عند العقلاء مطلقاً ولم يردع عنها في الشريعة المقدّسة، بل قيل بعدم توقّف حجّيته على عدالة المخبر لكفاية
الوثاقة في حجّية الخبر.
وقد استشكل بعض فقهائنا في حجّية خبر الثقة الواحد في الموضوعات في جملة من الموارد.
ولكن ذهب بعض هؤلاء مع ذلك إلى حجّيته في خصوص المقام وإن قال بعدم حجّيته في سائر الموارد، قال
السيد الحكيم : «وربما يقال بثبوته بخبر الثقة؛ لعموم ما دلّ على حجّيته في الأحكام الكلّية، إذ المراد منه ما يؤدّي إلى الحكم الكلّي، سواء كان بمدلوله المطابقي أم الالتزامي، والمقام من الثاني، فإنّ مدلول الخبر المطابقي هو وجود الاجتهاد، وهو من هذه الجهة يكون إخباراً عن الموضوع، لكن مدلوله الالتزامي هو ثبوت الحكم الواقعي الكلّي الذي يؤدّي إليه نظر المجتهد».
ذهب بعض الفقهاء إلى القول بثبوت الاجتهاد بالشياع أيضاً إلّا أنّه قيّده بما إذا كان مفيداً للعلم
فيرجع إلى الطريق الأوّل، وذهب بعض آخر إلى كفاية حصول الوثوق والاطمئنان به في ثبوته.
لا ريب ولا إشكال في أنّ المجتهد المطلق الذي قد استنبط جملة وافية من الأحكام يجوز أن يرجع إليه و
الاستناد إلى آرائه في مقام العمل. والكلام في موارد ما يرجع إليه وحدودها يأتي مفصّلًا في مصطلح (تقليد).
•
تاريخ الاجتهاد، يمتاز فقه أهل البيت عليهم السلام بأنّه يعتبر البيان الشرعي المتمثّل في
الكتاب الكريم والسنّة الشريفة وهما المصدر الأساس في استنباط الأحكام الشرعية، وأنّ عملية
الاجتهاد الفقهي تقع في طول صدور هذه النصوص والبيانات الشرعية وبعدها.
الموسوعة الفقهية، ج۵، ص۱۹۷-۲۳۸.