الإمتناع (الفقهي)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو
الكف وعدم
الإمكان وا
لقدرة علي الأمر.
الامتناع- لغة-:
مصدر امتنع، يقال: امتنع من الأمر، إذا كفّ عنه.
وامتنع
الشيء ، أي تعذّر حصوله، في مقابل
الإمكان عقلًا أو
شرعاً، وفي مقابل
الوجوب بالمعنى
العقلي و
الفلسفي .
ويقال أيضاً: امتنع بقومه، إذا تقوّى بهم.
وهو في
منعة، أي في عزّ
قومه، فلا يقدر عليه من يريده.
ويستعمل في
الفقه بنفس معانيه اللغوية.
وهو
شدّة الامتناع، وعليه فكلّ إباء امتناع دون
العكس .
ويدلّ عليه قوله تعالى: «وَيَأْبَى اللّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ
نُورَهُ »،
وكذا قوله تعالى: «إِلَّا
إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ»،
فإنّ
المراد شدّة الامتناع في
المقامين .
ومن ذلك
تعبير : العمومات
الآبية عن
التخصيص في
الآيات والأخبار، وهو تعبير يجري على
لسان الفقهاء والاصوليين قاصدين منه شدّة امتناع
العام عن قبول التخصيص
وعروضه عليه.
وهو- على ما قال بعض
العلماء - ما لا يجوز كونه ولا
تصوّره، مثل قولك:
الجسم أسود
أبيض في حال واحدة، و
الممتنع - في مقابل
الممكن -: ما لا يجوز كونه ويجوز تصوّره في
الوهم، وذلك مثل قولك للرجل: عش أبداً، فيكون هذا من الممتنع؛ لأنّ
الرجل لا يعيش أبداً مع جواز تصوّر ذلك في الوهم.
تتعلّق بالامتناع أحكام
تكليفية و
وضعية تختلف
باختلاف متعلّقه، وهي متفرّقة في
الكثير من أبواب الفقه، بل جميعه، نستعرضها
إجمالًا وبحسب المعاني فيما يلي:
الامتناع عن الشيء بمعنى
الكفّ عنه يختلف حكمه بحسب متعلّقه، فإنّه قد يكون واجباً كوجوب امتناع
الزوج و
الزوجة عن الوطئ حال
الحيض ،
أو وقت الاشتباه في كون الدم حيضاً،
وكوجوب الامتناع عن مدافعة
البول و
الغائط إذا لزم فيه ضرر يبلغ درجة
الإضرار المحرّم.
أو كوجوب الامتناع عن
المشتبه بالنجس، فلو نجس أحد الثوبين واشتبه طرحهما وصلّى في غيرهما؛ لأنّ المشتبه بالنجس كالنجس في وجوب الامتناع عنه؛ لعدم
العلم بالشرط الذي هو
الطهارة فيه.
ومن ذلك أيضاً وجوب امتناع
المستعير عن
البناء أو
الغرس إذا رجع
المعير في
الإذن ، فلو رجع المعير في
إذن البناء أو الغرس قبلهما وجب الامتناع، فإن غرس حينئذٍ فللمالك
القلع مجّاناً و
المطالبة بالاجرة وطمّ
الحفر .
وأمثلة ذلك كثيرة متفرّقة في أبواب
الفقه ، كما ذكرها بعض الفقهاء وجعلوا متعلّق
الوجوب في
كلماتهم هو الامتناع، إلّا أن يقال: إنّ مرادهم في بعضها على
الأقل هو عدم تحقيق ذلك
الفعل فليس الامتناع من وطء الحائض واجباً وإنّما وطؤها هو
الحرام ، فيكون تعبيرهم بالامتناع في جملة من هذه الموارد
تسامحياً .
وقد يكون الامتناع- باعتبار متعلّقه- حراماً كالامتناع من
الشهادة ، فإنّه لا يجوز أن يمتنع
الإنسان من الشهادة إذا دعي إليها ليشهد إذا كان من
أهلها .
ومنه أيضاً: امتناع
المحتكر من بيع
السلعة لانتظار زيادة
القيمة .
وكذا غير ذلك من
الأمثلة المتفرّقة في أبواب الفقه. وقد يكون الامتناع مستحبّاً، كما ذهب بعض الفقهاء إلى
استحباب الامتناع من
الحقنة للصائم؛ لأنّها تصل إلى
الجوف .
ومنه أيضاً: الامتناع من أخذ جوائز الظالمين، فإنّه أولى إذا أمكنه ذلك.
وكذا تأخير امتناع صاحب
الطعام ورفع اليد عن
الأكل .
وأمثلة ذلك أيضاً كثيرة تذكر في مواطنها. وقد يكون الامتناع
مكروهاً كامتناع
الفقير من قبول
الزكاة ، فإنّه يكره لمستحقّ الزكاة الامتناع من أخذها مع
حاجته ،
بل قد يحرم.
وقد يكون الامتناع جائزاً بمعناه
الخاص ، وهو
الإباحة ، وأمثلته كثيرة بعدد المباحات في
الشريعة، ومن ذلك ما ذكره الفقهاء من أنّ للمرأة الامتناع من
التمكين قبل
الدخول حتى تقبض
المهر ،
إلّاأن يكون المهر مؤجّلًا، فلا يجوز لها الامتناع وإن حلّ
الأجل .
أو أنّ للعامل في
المضاربة الامتناع عن
العمل في أيّ وقت،
أو أنّ من عليه حقّ فله الامتناع من
التسليم إلى المستحقّ ووكيله إلّا
بالإشهاد .
وأمثلة ذلك كثيرة يبحث عنها في مواطنها. ويشار هنا إلى أنّ جعل الامتناع واجباً أو محرّماً أو غير ذلك قد يكون
مقصوداً على نحو الجدّ في كلمات الفقهاء في بعض الموارد، إلّاأنّه قد يراد منه
الترك لا الكفّ بوصفه خصوصية وجودية زائدة، فلابدّ من
ملاحظة الموارد في هذه
الحال .
قد يكون الامتناع- بمعنى تعذّر
الحصول وعدم
الإمكان - عقليّاً وآخر
شرعيّاً، فإنّ امتناع بيع امّ
الولد على بعض الوجوه،
أو
الاعتكاف جنباً مع
القدرة على
الغسل يعدّ امتناعاً
شرعيّاً.
وأمّا امتناع
الكون في غير الحيّز أو
الجمع بين الضدّين فهو امتناع عقلي.
وقد يكون أيضاً الممتنع عادةً كنذر
الصعود إلى
السماء .
وال
خلاصة في كلماتهم أنّه لا يجوز
التكليف بالممتنع عقلًا؛ لأنّه تكليف بغير المقدور، وهو محال.
كما ذكروا أنّ الممتنع
شرعاً كالممتنع عقلًا، وأمّا الممتنع عادةً فإن كان بحيث لا يقدر عليه دخل في التكليف بغير المقدور، وإن كان بحيث يقدر عليه لكن
بمشقّة شديدة جدّاً شملته قاعدة (لا حرج) وأمثالها.
وتفصيله في علم
الاصول .
يبحث الفقهاء عن الامتناع بهذا المعنى في باب
الصيد ، حيث يقولون في تعريفه:
إنّ المراد منه معنيان: أحدهما: إثبات
اليد على الحيوان الممتنع
بالأصالة، والثاني:
إزهاق روحه
بالآلة المعتبرة فيه من غير ذبح، وعليه فيعتبر في جواز الصيد كون الحيوان ممتنعاً.
فلو كان عاجزاً عن الامتناع لا يجوز
تذكيته بآلات الصيد المعروفة؛ لأنّه بذلك خارج عن صدق الصيد.
والحديث عن الامتناع بهذا المعنى يجري في لقطة الحيوان حيث ذكروا أنّ الحيوان لو كان لا يقوى على الامتناع من
السباع جاز أخذه كالشاة وصغار
الإبل و
البقر و
الخيل ونحوها، وإلّا لم يجز.
والتفصيل في محلّه.
وهي
قاعدة عقلية معروفة بين المتكلّمين والحكماء، ثمّ وردت في كلمات الفقهاء والاصوليين أيضاً، واستندوا إليها في حلّ بعض
الإشكالات الاصولية أو الفقهية كما سيأتي شرحه.
قاعدة (الامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار ) من القواعد
المسلّمة وتستعمل في مقامين
:
وترد في علم
الكلام بصدد دفع مقولة
الأشاعرة القائلين بالجبر وعدم اختيار
العبد .
وحاصل مقولتهم: أنّ الفعل
الصادر من المبدأ ممكن بالضرورة، فإن وجدت علّته، فهو ضروري
الوجود ؛
لاستحالة تخلّف
العلّة عن معلولها، وإلّا فهو ضروريّ العدم؛ لاستحالة وجود
الممكن بلا علّة.
وبعبارة اخرى: كلّ فعل من
الأفعال بما أنّه ممكن الوجود يحتاج في وجوده إلى العلّة، وهي إمّا موجودة أو معدومة، فعلى الأوّل يجب وجوده، وعلى الثاني يمتنع، وعليه فلا يكون فعل من الأفعال اختيارياً.
واجيب عن ذلك بأنّ اختيار العبد بما أنّه جزء أخير من علّة وجود الفعل، فوجوبه وامتناعه الناشئان عن اختيار العبد للفعل أو
الترك لا ينافي كون الفعل اختيارياً، بل يؤكّده.
وبتعبير آخر: إنّ الفعل الاختياري يستحيل وجوده بلا اختيار
وإرادة، فإذا أعمل الفاعل قدرته في الفعل ففعل يكون
صدور هذا الفعل عن اختيار، ووجوب الفعل بعد الاختيار غير منافٍ للاختيار، بل من لوازمه، وإذا أعمل قدرته في الترك فترك يمتنع وجود الفعل، وهذا الامتناع إنّما هو امتناع بالاختيار، وهو لا ينافي
الاختيار ، بل يؤكّده.
وقد تعرّض
الإمام الخميني أيضاً لهذا
البحث وقال: «لأنّها
الامتناع بالاختيار في مقابل من توهّم أنّ قاعدة (الشيء ما لم يجب لم يوجد، وما لم يمتنع لم يعدم) منافية للاختيار في الأفعال، فيلزم أن يكون
الواجب تعالى فاعلًا موجباً- بالفتح- فإنّ أفعاله الواجبة حينئذٍ خارجة من حيطة
الاختيار .
فأجابوا عنه بأنّ
الإيجاب السابق من ناحية العلّة وباختياره لا ينافي الاختيار، وأنّه تعالى فاعل موجب بالكسر والإيجاب بالاختيار كالامتناع بالاختيار، أي جعل الشيء ممتنعاً بالاختيار لا ينافي الاختيار، بل يؤكّده.
والسرّ فيه: أنّ أفعال الواجب تصدر عن حاقّ إرادته واختياره الذي هو عين
ذاته المقدّسة، ولا يكون من قبيل الأفعال التسبيبيّة الخارجة من تحت قدرته بإيجاد أسبابه؛ لأنّ الأسباب والمسبّبات كلّها في كلّ آن وزمان تحت
سلطان قدرته».
هذا، وذكر بعض المعاصرين أنّ الامتناع بالاختيار في هذا
المقام لا ينافي الاختيار
عقاباً وخطاباً.
وتفصيل ذلك كلّه يطلب في علم
الفلسفة و
الكلام .
أمّا مفهوم هذه
القاعدة في الفقه والاصول فهو أنّ المكلّف إذا ألقى نفسه في محذور وعرّضها
للاضطرار إلى فعل الحرام أو ترك الواجب، يتحقّق الامتناع؛ بمعنى عدم
إمكان الامتثال في ذلك الحال.
لكنّ ذلك- أي
الإلقاء في
المحذور بسوء الاختيار- لا يوجب نفي
التكليف أو المسؤولية أو العقاب؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار والقدرة التي تشترط في التكليف والمسؤولية والعقاب؛ نظراً إلى كفاية القدرة والاختيار الحاصل في
البداية .
وقد تبنّى العلماء هذه القاعدة في الفقه والاصول.
وقد ذكر
الميرزا النائيني أنّ هذه القاعدة تجري عندما يكون الفعل أو الترك ممتنعاً بالإرادة والاختيار، أي بسبب تفويت مقدّماته اختياراً، سواء من جهة فعل مانع يوجب امتناع وعدم إمكان
وقوع فعل أو ترك، أو من جهة ترك مقدّمة يوجب ذلك، وأمّا امتناع فعل أو ترك أي عدم
تحقّقه لعدم تعلّق
إرادة المكلّف به المعبّر عنه بالامتناع بالغير، أي بعدم سببه، وهو اختيار المكلّف في الأفعال الاختيارية فلا يكون مراداً من هذه القاعدة؛ لأنّ الامتناع بعدم الإرادة لا ينافي
الخطاب عند العقلاء جميعاً.
والحاصل: أنّ كون الفعل ممتنعاً في حدّ ذاته وإن كان امتناعه منتهياً إلى الاختيار لا ربط له بالامتناع بالغير أي بعدم الإرادة، ومحلّ الكلام هو الأوّل، وأمّا الثاني فعدم
منافاته للخطاب واضح متسالم عليه ولا بحث فيه.
استدلّ على اعتبار هذه القاعدة- بعد تخطّي تسالمهم عليها وتمسّكهم فيها في مباحث
اجتماع الأمر والنهي وكذا في مباحث مقدّمة الواجب، لوضوح
المدرك العقلي فيها- بحكم العقل
الذي تقدّمت الإشارة إليه.
وحاصله: أنّ القدرة وعدم الامتناع الذي هو شرط في التكليف وفي
التنجّز و
المسؤولية و
العقوبة له أحد مبنيين في علم الاصول:
الأوّل: حكم
العقل بقبح التكليف بغير المقدور، وأيضاً قبح
المؤاخذة على ما يكون ممتنعاً على المكلّف.
الثاني:
استظهار ذلك من ظهور الخطابات
الشرعية وأنّها
باعتبارها تحريكاً مولوياً للمكلّف نحو الفعل أو الترك، فلابدّ وأن يكون
التحرّك و
الانبعاث نحو الفعل والترك ممكناً لا ممتنعاً، فلا
إطلاق في أدلّة الخطابات
الشرعية للممتنع وغير المقدور، وكلا
الدليلين يختصّان بما إذا كان الفعل أو الترك ممتنعاً مطلقاً، وأمّا إذا كان ممكناً ولو
بتوسّط إمكان مقدّماته و
التمهيد له فلا قبح في التكليف به، كما لا وجه لعدم شمول إطلاق
الخطاب له، فالامتناع بسوء
الاختيار لترك مقدّمة فعل- كمن ترك
السفر إلى الحجّ فامتنع عليه
الوقوف بعرفة يوم
عرفة - أو فعل ما يوجب
ابتلائه بالحرام- كمن دخل
الأرض المغصوبة باختياره فاضطرّ إلى
الخروج منه الذي هو أيضاً تصرّف غصبي محرّم- فإنّ هذا لا ينافي صحّة العقوبة ولا تنجّز التكليف ولا فعليّته بناءً على
اشتراط القدرة في التكليف أيضاً، كما هو أشهر القولين في بحث شرائط التكليف.
وتفصيل ذلك متروك إلى محلّه من علم الاصول.
يستفاد من كلمات الفقهاء والاصوليين أنّه لا كلام ولا
خلاف في أصل
المسألة وإنّما الكلام كلّه في نطاقها
سعة وضيقاً، وذلك أنّ حدود عدم
المنافاة هل هو شامل للخطاب والعقاب معاً- كما هو كذلك في مفهومها الكلامي- أو للعقاب فقط دون الخطاب.
ومعنى ذلك أنّ الذي يرمي نفسه من
شاهق يحرم عليه أن يقع على الأرض، مع أنّه يمتنع عليه إمساك نفسه من
الوقوع .
وهنا يطرح
السؤال التالي:
أوّلًا: هل يشمل هذا
الشخص الخطابُ بحرمة
إلقاء النفس أو وجوب
الإمساك من الوقوع وإن كان الامتناع بسوء اختياره، أم لا؟
ثانياً: وعلى تقدير عدم شمول الخطاب فهل هو
معاقب على ترك حفظ نفسه، أم لا؟
أمّا بالنسبة إلى السؤال الأوّل فقد ذكر له جوابان:
الأوّل:
المعروف بين المتأخّرين أنّ الخطاب لا يشمل هذا
الفرد ؛ لأنّ
فائدة الخطاب تحريك المكلّف نحو الفعل أو
زجره ومنعه من الترك، وهذا لا يمكن حصوله بالنسبة إلى هذا الفرد
العاجز الذي يكون الفعل أو الترك ممتنعاً عليه وإن كان الامتناع بسوء اختياره.
الثاني: ما هو
المنقول عن
أبي هاشم المعتزلي من أنّ الخطاب يشمله ويتوجّه إليه، واختاره أيضاً
الفاضل القمّي ونسبه إلى أكثر المتأخّرين وظاهر الفقهاء.
ويظهر من
المحقّق النجفي أيضاً
الميل إليه وإن كان يظهر من آخر كلامه موافقته للأوّل.
أمّا
السيّد الشهيد الصدر فقد فصّل هنا، فوافق على أنّ سوء الاختيار يسقط فاعليّة التكليف ومحرّكيته، كما وافق على أنّه لا يسقط العقاب، أمّا فعلية التكليف فينظر، فإن كان
الوجوب المجعول إنّما يرتفع إذا كان مشروطاً بالقدرة ما دام ثابتاً، فحيث لا قدرة
بقاءً لا وجوب كذلك، أمّا إذا كان الوجوب
المجعول مشروطاً بالقدرة بالمقدار الذي يحقّق
الإدانة والمسؤولية، فهذا متحقّق بنفس حدوث
القدرة في أوّل الأمر، ومعه فلا يكون الوجوب مشروطاً في بقائه ببقائها.
وإذا تأمّلنا دليل
اشتراط القدرة في التكليف لا نجده يدلّ على أكثر من أنّ التكليف قد جعل بداعي
التحريك المولوي، ولا تحريك كذلك إلّامع الإدانة، ولا إدانة إلّامع القدرة حدوثاً.
وينتج عن ذلك- وفق كلام السيّد الصدر- أنّ الامتناع و
الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي
إطلاق الخطاب. نعم، هذا الإطلاق ليس له أثر؛ لأنّ روح التكليف على كلّ حال محفوظة، والفاعلية ساقطة، والإدانة والعقوبة ثابتة.
أمّا بالنسبة إلى السؤال الثاني فاجيب عنه بما ذهب إليه الكلّ
من أنّه يستحقّ العقاب، وأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ومسؤولية؛ إذ لا
إشكال فى صحّة مؤاخذة من يترك مقدّمات واجب حتى يمتنع عليه فعله كمن ترك مقدّمات السفر إلى
الحج حتى امتنع عليه الوقوف بعرفة يوم عرفة، أو من دخل في مجلس يعلم أنّه سوف يجبر على فعل محرّم كشرب
الخمر - مثلًا- فإنّ هذا واضح عند العقل الذي هو الحاكم في باب المسؤولية والتنجّز والعقاب.
وإنّما وقع
البحث في تطبيق معيّن وهو
الدخول في الدار المغصوبة، وأنّ الخروج بعد الدخول والذي هو غصب أيضاً، هل يكون عليه عقاب أيضاً أم لا؟ وذلك لشبهة خاصّة بهذا المثال، وهو توقّف
التخلّص عن الحرام على فعل الخروج فيكون واجباً عقلًا
وشرعاً أيضاً، فترتفع حرمته
الشرعية من أوّل الأمر؛ لامتناع
اجتماع الأمر والنهي على فعل واحد.
وقد بحثت هذه
الشبهة في محلّه من علم الاصول، وأدّى ذلك إلى
ظهور عدّة آراء، أهمّها:
الأوّل: إمكان
الاجتماع مطلقاً، وقد ذهب إليه بعض المتقدّمين والمتأخّرين.
الثاني: امتناع الاجتماع مطلقاً، كما ذهب إليه بعض الاصوليين، بل ذكر بعضهم أنّه مختار الأكثر،
وقيل: إنّه
المشهور بينهم.
الثالث:
التفصيل بين نظر
العرف فيمتنع، ونظر العقل فيجوز.
والتفصيل في ذلك يطلب من محلّه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۷، ص۷۱-۸۰.