البدعة (حقيقتها)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
البدعة (توضيح).
تستعمل البدعة لدى المتشرّعة- ومنهم الفقهاء- وفي الأخبار بمعنى إحداث شيء في الدين بإدخال ما ليس من الدين فيه، أو
إيجاد نقص فيه.
وإليه يرجع
تفسير بعضهم لها ب «إحداث أمر على خلاف السنّة»؛
إذ السنّة هنا بمعنى ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الدين. وهذا ما يعبّر عنه كثيراً- خصوصاً في العصور المتأخّرة- بالتشريع
كما سيأتي بيانه. ولعلّ
الأصل في اصطلاح (البدعة) قوله تعالى: «وَ
رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا
ابتِغَاءَ رِضوَانِ اللَّهِ».
قال
الطريحي : ««وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا»، أي أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها، «مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ»، أي لم نفرضها عليهم ولكنّهم ابتدعوها، «إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ» فهو
استثناء منقطع ».
ومراده أنّه تعالى لم يكتب عليهم ما ابتدعوه، وإنّما كتب عليهم ابتغاء رضوان اللَّه، والبدعة ولو كانت بداعي
رضوان اللَّه إلّا أنّها خلاف رضوانه؛ لأنّها تصرّف في
سلطانه ، وهو
قبيح .
وقال
العلّامة الطباطبائي : «معناه: ما فرضناها عليهم، لكنّهم وضعوها من عند أنفسهم؛ ابتغاءً لرضوان اللَّه، وطلباً
لمرضاته ».
قال
الشيخ الطبرسي : «قال
الزجّاج :... فاتّخذوا
أسراباً و
صوامع وابتدعوا ذلك، فلمّا ألزموا أنفسهم ذلك
التطوّع ودخلوا عليه لزمهم تمامه»، ثمّ قال الزجّاج: «وقوله: «فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ
رِعَايَتِهَا »، على ضربين: أحدهما: أن يكونوا قصّروا فيما ألزموه أنفسهم، والآخر- وهو
الأجود -: أن يكونوا حين بُعث
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يؤمنوا به، (و) كانوا تاركين
لطاعة اللَّه، فما رعوا تلك الرهبانية حقّ رعايتها، ودليل ذلك قوله: «فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ» يعني الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، «وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فَاسِقُونَ »،
أي
كافرون ».
والأخبار أيضاً بهذا المعنى الذي ذكر للبدعة كثيرة،
كمكاتبة محمّد بن عبد اللَّه بن جعفر الحميري إلى
صاحب الزمان عليه السلام يسأله عن
سجدة الشكر بعد
الفريضة ، فإنّ بعض أصحابنا ذكر أنّها بدعة، فهل يجوز أن يسجدها
الرجل بعد الفريضة؟ وإن جاز ففي
صلاة المغرب هي بعد الفريضة أو بعد الأربع ركعات
النافلة ؟ فأجاب عليه السلام: «سجدة الشكر من ألزم السنن وأوجبها،
من آكدها ولم يقل: إنّ هذه السجدة بدعة إلّامن أراد أن يحدث في دين
اللَّه بدعة...»،
وغيرها.
ومن الواضح عدم صدق هذا المعنى على موارد العمل بشيء من باب
الاحتياط أو
الرجاء ، بل الاستحباب على مبنى
التسامح في أدلّة السنن؛ وذلك لعدم
استناد شيء إلى
الشارع في الأوّلين،
ووجود
الدليل على
الحكم الشرعي في الأخير. نعم، بناءً على ما هو
الصحيح من عدم دلالة
أخبار (من بلغ) على الاستحباب فلابدّ من
الإتيان برجاء الثواب لا
التعبّد الجزمي بالحكم الشرعي؛ حذراً من محذور البدعة والتشريع.
هذا ما ذهب إليه
المشهور من فقهاء
الإمامية في
تعريف البدعة، ولكن يظهر من
المحقّق النراقي تعريف آخر لها، وهو: جعل شيء شرعاً للغير، لا أن يعتقد به لعمل نفسه، قال قدس سره: «والمهمّ
تحقيق معنى البدعة ومصداقها، فإنّي أراه
مشتبهاً على كثير من
الأعلام ، فإنّهم يقولون: إنّ الفعل الفلاني لم يثبت من الشرع، فلو فعل لا بقصد
العبادة والثبوت من الشارع و
إطاعته فهو لغو لا ثواب عليه ولا عقاب، وإن فعله أحد بقصد العبادة والإطاعة وباعتقاد ذلك يكون
حراماً موجباً للعقاب؛ لأنّه يكون بدعة وتشريعاً. ومقتضى ذلك أنّ البدعة هي: (كلّ فعل يُفعل بقصد العبادة و
المشروعية وإطاعة الشارع مع عدم ثبوته من الشرع). ولا معنى محصّل لذلك»،
ثمّ قال: «وبالجملة،
المناط في الابتداع والتشريع و
الإدخال في الدين: وضع شيء شرعاً للغير، وجعله من أحكام الشارع له لا لنفسه؛ لأنّه غير ممكن، فالبدعة فعل قرّره غير الشارع شرعاً لغيره من غير دليل شرعي... وأمّا ما لم يكن كذلك،
فإطلاق البدعة عليه غير معلوم، ولم يثبت كونه بدعة وتشريعاً»، ثمّ استشهد بكلام
الشيخ الصدوق : «الوضوء مرّة مرّة، ومن توضّأ مرّتين لم يؤجر، ومن توضّأ ثلاثاً فقد أبدع»،
وقال: «ففرّق (الصدوق) بين ما لم يثبت من الشرع وبين البدعة، وجعل المرّتين ممّا لم يثبت من الشرع؛ ولذا نفى
الأجر عنهما، بل صرّح في موضع آخر من أبواب الوضوء: أنّ من توضّأ مرّتين مرّتين فقد تعدّى حدود اللَّه، وقال (تعالى): «وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَد ظَلَمَ نَفسَهُ»، وجعل ثلاث مرّات من البدعة؛ لأنّها ممّا ابتدعه العامّة فقال: ومن توضّأ ثلاثاً فقد فعل البدعة.
وهذا صريح في أنّ كلّ ما لم يثبت من الشرع ليس ببدعة، ومقتضى إطلاقه عدم
اشتراط الابتداع بقصد المشروعية واعتقادها بل إذا وضعها لغيره كذلك يكون بدعة، ومن أتى به فيكون آتياً بالبدعة، ولكن يشترط في
إبداع الغير فعله لأجل أنّه
مشروع لا مطلقاً، فمن غسل وجهه ثلاثاً لا بنيّة
الوضوء لا يكون مبتدعاً. هذا، وأمّا الفعل الذي لم يثبت من الشرع ويفعله أحد من غير
إراءة شرعيّته للغير، فلا يحرم من هذه
الجهة أصلًا ولو قارنه شيء من
الاعتقاد بالشرعية. نعم، قد يكون محرّماً فعله إذا لم يثبت من الشرع من جهة اخرى، ولا كلام فيه».
ولكن سيتّضح أنّ كلامهم في حرمة البدعة والتشريع ومفسديّته للعمل المشروع فيه وعدمها إنّما هو في
إتيان الشخص العمل
ملتزماً أنّه من الشرع ولو لم يكن بصدد جعله شرعاً للغير قولًا أو عملًا، ومن راجع
استدلالاتهم في المقام يجدها شاهد صدق على ذلك، فالمحقّق النراقي مخالف للجميع في هذا
الاصطلاح . نعم، بعض الأخبار الواردة في ذمّ المبتدعة ولزوم
تبهيتهم والقدح فيهم لا يبعد
انصرافها إلى خصوص من أراد جعل شيء شرعاً للغير في
القول أو العمل خصوصاً إذا كان من ذوي
الأتباع أيضاً، لا كلّ عامل لما لم يثبت من الشرع
مسنداً إليه.
وأمّا تعريف البدعة بكلّ جديد وحادث لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان مشمولًا لعمومات
الكتاب والسنّة، ثمّ تقسيمها بعدد
الأحكام الخمسة - كما فعله بعض
أهل السنّة - فهو خلاف ما اصطلح عليه علماء الإماميّة،
(نعم، ظاهر الشهيد في
الذكرى اتّصاف البدعة بالأحكام الخمسة، إلّاأنّه أحال كلامه إلى ما ذكره في
القواعد والفوائد ، وكلامه فيها صريح في
انحصار البدعة في المحرّم، فكأنّه قدس سره أراد في الذكرى اتّصاف مطلق المحدثات بالأحكام الخمسة لا البدعة. )
بل مشهور
علماء أهل السنّة أيضاً.
وإنّما فعله من فعل تصحيحاً لما وقع من بعض
الخلفاء من البدعة، وإن خرج بذلك عن الاصطلاح وخالف الأخبار الواردة بذمّ البدعة بقول مطلق، فإنّ
المستفاد من هذه الأخبار- كما سيأتي ذكر بعضها- أنّ البدعة إنّما تطلق على المحرّم من المحدثات لا على جميعها.
ومن ذلك ما روي متواتراً من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وكلّ بدعة
ضلالة »
فكيف يجمع بين الضلالة و
الوجوب أو
الاستحباب ؟! فلا يبقى حينئذٍ وجه لجعل مفهوم البدعة عامّاً ثمّ تقسيمها إلى الأقسام الخمسة. نعم، سيجيء تقسيم السنّة ببعض معانيها إلى حسنةٍ وسيّئةٍ، كما يصحّ
تقسيم البدعة بمعنى مطلق
الحادث إلى ذلك، لكنّها غير البدعة بمعناها المصطلح عند الفقهاء وفي الأخبار كما لا يخفى.
الظاهر من تعريفهم للبدعة (بإدخال ما ليس من الدين في الدين) عدم انحصار البدعة في الفروع الفقهيّة، وما يرتبط بعمل المكلّفين، بل هي جارية في ما يرتبط
بالاصول أيضاً كما هو صريح بعضهم،
بلا فرق فيه بين
أصول الدين و
أصول الفقه .
بل الظاهر من كلمات العلماء وخصوصاً المتقدّمين
أنّ أكثر إطلاق هذه
الكلمة ومشتقّاتها كانت بالنسبة للفرق
المنحرفة وذوي المذاهب المختلعة، الكلامية والاصولية، الذين كان سبب
افتراقهم غالباً اعتقادهم بمذهب وطريقة خاصّة في اصول الدين وما يتعلّق بها-
كالأشاعرة و
المعتزلة ، و
الجبرية و
المفوّضة ، و
الخوارج و
الغلاة و
المجسّمة ، و
الزيديّة و
الإسماعيلية و
الواقفة ، و
الوهابيّة و
البهائيّة و
الصوفيّة و
أضرابهم - أو بمذهب خاص في ما يرتبط بمقام
استنباط الأحكام الفرعية- المعبّر عنه باصول الفقه-
كأصحاب الرأي و
القياس و
الاستحسانات الظنية ونحوها ممّا لم يرد دليل في
الشريعة على حجّيتها في هذا
المقام .
بل البدعة في هذه المجالات أعظم وأكثر إثماً منها في مجال الفروع؛ إذ هي متولّدة منها على الغالب ومسبّبة عنها. ولعلّ تشديد النكير من
الأئمّة عليهم السلام- خصوصاً
الإمام علي عليه السلام والإمامين و
الصادقين عليهما السلام - على أهل البدع و
الأهواء كان لهذه الحيثيّة كما سيأتي ذكر بعض أخباره في بواعث البدعة، فانتظر.
ومع كلّ ما تقدّم يبقى هناك سؤالان يتّصلان بحقيقة البدعة:
هل البدعة خصوص إدخال ما ليس من الدين
حقيقة في الدين، أو أنّها تعمّ إسناد ما لم يعلم كونه من الدين إليه أيضاً، وإن كان في
الواقع من الدين؟ وبعبارة اخرى: هل للبدعة والتشريع واقع خارجي قد ينطبق عمل
المكلّف عليه وقد لا ينطبق، أو أنّه ليس لها واقع كذلك، بل هي مجرّد إسناد ما لم يعلم كونه من الشارع إليه، وإن كان من الشرع في الواقع؟
أنّ البدعة والتشريع- المحكوم بالأحكام- هل هو عنوان للفعل القلبي
الجوانحي الذي هو مجرّد
البناء و
الالتزام بكون شيء من الشرع، أو أنّه عنوان لنفس العمل المشرّع والمبدع فيه، أي الخارج؟
وفي
إطار الجواب عن
التساؤل الأوّل ظهر رأيان هنا:
ما ذهب إليه
جماعة من العلماء
من أنّ تمام المناط في نظر
العقل هو الإسناد إلى الشرع ما لا يعلم أنّه منه، من غير دخل للواقع في ذلك، فلو فرض أنّ المتعبّد به كان في الواقع ممّا شرّعه الشارع، ولكن المكلّف لم يعلم بتشريعه وأسنده إلى الشارع من غير علم، كان ذلك من التشريع
القبيح ؛ لتحقّق تمام المناط والموضوع الذي يستقلّ العقل بقبحه، ولو انعكس
الأمر وأسند المكلّف إلى
الشارع ما علم بتشريعه إيّاه وكان في الواقع ممّا لم يشرّعه الشارع لم يكن المكلّف مشرّعاً، لا أنّه يكون مشرّعاً ولمكان جهله يكون
معذوراً عند العقل.
قال
المحقّق النائيني : «وبالجملة، ليس للتشريع واقع يمكن أن يصيبه المكلّف أو لا يصيبه، بل واقع التشريع هو إسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إيّاه، سواء علم المكلّف بالعدم أو ظنّ أو شكّ، وسواء كان في الواقع ممّا شرّعه الشارع أو لم يكن...».
وقال أيضاً: «فبمجرّد عدم
إحراز المشروعية يتحقّق تمام ما هو موضوع حكم العقل بقبح
الاستناد والتشريع، فلا يبقى مجال للشكّ حتى يتشبّث بذيل
أصالة الحلّ للحلّية التشريعيّة».
ثمّ قال: «هذا (كلّه) بناءً على ما هو التحقيق عندنا من أنّ تمام الموضوع لقبح التشريع هو عدم العلم بالمشروعية... وأمّا بناءً على
الاحتمال الآخر من أنّ حكم العقل بقبح التشريع إنّما هو مترتّب على عدم المشروعية الواقعيّة، وكان حكمه بقبح التشريع عند الشكّ في المشروعية من أجل
التحرّز عن الوقوع فيما هو
الموضوع الواقعي... فلأصالة عدم المشروعية مجال».
وقال في موضع آخر: «إنّ الشكّ تمام الموضوع لحرمة التشريع وعدم جواز التعبّد، فجريان
الاستصحاب لإثبات هذا الأثر يكون من تحصيل الحاصل، بل أسوء حالًا منه».
نعم، قد يظهر من بعض كلماته أنّ مراده جريان حكم التشريع وهو قبح الإسناد في ما لا يعلم، لا أنّه البدعة والتشريع موضوعاً.
وقال
السيّد الحكيم : «وبالجملة،
المستفاد من أدلّة حرمة التشريع- عقليّها ونقليّها- أنّ موضوعها عدم العلم بالمشروعيّة لا عدم المشروعيّة واقعاً، فمع الشكّ في المشروعية يتحقّق موضوع
حرمة التشريع واقعاً فتثبت، لا أنّه مع الشكّ في المشروعية يشكّ في حرمة التشريع كي يتحقّق قاعدة الحلّ وتكون هي
المرجع ، ولو سلّم كون موضوع حرمة التشريع هو عدم المشروعيّة واقعاً، فالشكّ في المشروعية وعدمها وإن كان يستوجب الشكّ في
الحلّية والحرمة، إلّاأنّه لا مجال
لإجراء أصالة الحلّ؛ أوّلًا: من جهة جريان أصالة عدم المشروعيّة؛ فإنّه على هذا القول لا مانع من إجرائها لترتّب
الأثر على مجراها وهي حاكمة على أصالة الحلّ. وثانياً: من جهة أنّه على هذا القول يتعيّن حمل ما دلّ على عدم جواز التعبّد بما لم يعلم على كونه حكماً ظاهريّاً، لا واقعياً- كما هو مبنى القول الأوّل- وإذا ثبت مثل هذا
الحكم الظاهري وجب
رفع اليد عن عموم أصالة الحلّ لتخصيص دليلها بدليله. وبالجملة، فهذا
التقريب موهون جدّاً...».
وهذا أيضاً هو الظاهر من كلام
الشيخ الأنصاري حيث قال: «إنّ التشريع هو أن ينسب إلى الشرع شيئاً علم أنّه ليس منه، أو لم يعلم كونه منه، لا أن يفعل شيئاً
لاحتمال أن يكون فعله مطلوباً في الشرع».
وقال أيضاً في موضع آخر: «إنّ العمل بالظن والتعبّد به من دون توقيف من الشارع تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة».
وصريح
السيّد الخوئي حيث قال: «إنّ التشريع
عبارة عن إسناد شيء لا يعلم به إلى الشارع»،
وإن قال في موضع آخر: «إلّاأن يكون ذلك على
سبيل التشريع الذي مورده العلم بالخلاف»،
إلّاأنّ الظاهر أنّه لم يكن في مقام
التحديد . ولعلّه الظاهر من آخرين أيضاً.
وهذا هو الصحيح؛ فإنّ إسناد ما لا يعلم المكلّف أنّه من الدين إلى الدين معناه أنّه شرّع وتعبّد وألزم نفسه بما لا يعلم أنّه من الدين، فيكون
الإلزام من قبل نفسه لا محالة لا بلحاظ
الكشف و
رؤية أنّ الشارع قد ألزمه به. ومن هنا يكون التشريع في موارد عدم العلم صادقاً مطلقاً، كما أنّه في موارد العلم لا يصدق مطلقاً، أي حتى إذا كان علمه خطأً و
جهلًا مركّباً؛ لأنّه يراه من قبل الشارع وأنّ الشارع ألزمه به، لا أنّه هو الذي يفترضه ويجعله على نفسه. وهذا واضح بعد
التأمّل في المسألة؛ ولهذا لا يشكّ أحد في عدم حرمة ذلك لا بعنوان البدعة ولا
الافتراء ولا التشريع، وهذا بنفسه دليل على أخذ العلم وعدم العلم في مثل هذه
المفاهيم عرفاً وشرعاً.
ما ذهب إليه في مقابل هؤلاء بعض العلماء، من لزوم
التفكيك بين الأمرين وحصر التشريع في (إدخال ما ليس من الدين واقعاً فيه) وأمّا إسناد ما لم يعلم كونه من الشارع إليه فهو داخل في القول و
الإفتاء بغير العلم.
قال: «الثاني: ربما وقع
الخلط بين عنواني التشريع والقول بغير علم، فاستدلّ بما يدلّ على حرمة القول بغير علم على حرمة التشريع، مع أنّ بينهما فرقاً؛ فإنّ التشريع عبارة عن إدخال ما ليس في الشريعة فيها، وإن شئت قلت: تغيير
القوانين الإلهيّة والأحكام الإلهيّة بإدخال ما ليس في الدين فيه، و
إخراج ما هو منه عنه، وهذا ما يسمّى (بدعةً)، فلا كلام في حرمته و
مبغوضيّته .
وأمّا تفسير التشريع بالتعبّد بما لا يعلم جواز التعبّد به من قبل الشارع، فإن اريد منه التعبّد الحقيقي جدّاً (أي الاعتقاد) فلا شكّ أنّه أمر غير ممكن خارج عن
اختيار المكلّف؛ إذ كيف يمكن التعبّد الحقيقي بما لا يعلم أنّه عباديّ؟ فإنّ
الالتزامات النفسانية ليست واقعة تحت اختيار النفس حتى توجدها في أيّ وقت شاء. وإن اريد منه إسناد ما لم يعلم كونه من الشريعة إليها فهو أمر ممكن لكنّه غير التشريع، بل عنوان آخر محرّم أيضاً، ويدلّ على حرمته ما ورد من حرمة القول بغير علم، وما ورد من أدلّة حرمة الإفتاء
والقضاء بغير علم، على إشكال في دلالة القسم الثاني بلحاظ أنّ الحكم
إنشاء لا إسناد إلى الشرع. وممّا ذكرنا يظهر الخلط فيما أفاده بعض
الأعاظم قدس سره حيث جعل العنوانين واحداً.
الثالث: الظاهر أنّ للتشريع واقعاً قد يصيبه المكلّف وقد لا يصيبه؛ فإنّ تغيير القوانين الشرعيّة كسائر المحرّمات مبغوض واقعي، قد يتعلّق بها العلم وقد لا يتعلّق، فهو مبغوض بمناطها الواقعي، كما أنّ القول بغير علم وإسناد شيء إلى الشارع بلا حجّة مبغوضٌ بما له من المناط.
وما أفاده بعض أعاظم
العصر قدس سره من أنّه ليس للتشريع واقع يمكن أن يصيبه أو لا يصيبه، بل واقع التشريع هو إسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إيّاه- سواء علم المكلّف بالعدم أو ظنّ أو شكّ، وسواء كان في الواقع ممّا شرّعه الشارع أو لم يكن- غير واضح؛ إذ قد عرفت أنّ التشريع غير الإسناد من غير علم ولا حجّة، وأنّ الأوّل عبارة عن تغيير القوانين الإلهيّة و
التلاعب بأحكام اللَّه تعالى، وهو من العناوين الواقعيّة متّصفة بالقبح كالظلم، بل هو منه، فلو جهل المكلّف به لما اتّصف بالقبح الفاعلي مع كون الفعل حراماً واقعاً».
أمّا التساؤل الثاني الذي يدور حول كون البدعة من الأفعال الجوانحية أم هي عنوان لنفس العمل المبدع فيه، فقد كان فيه أيضاً كلام وخلاف، حيث ظهر بينهم قولان في ذلك:
ما ذهب إليه جماعة من أنّ البدعة والتشريع عنوانان للبناء والالتزام القلبي .
فحسب،
كالمحقّق العراقي حيث قال: «إنّ حقيقة التشريع بعد أن كانت من سنخ
البناء القلبي الذي هو من أفعال الجوانح دون الفعل الخارجي الذي هو من أفعال
الجوارح ...».
وقال أيضاً: «حيث إنّ
روح التشريع وحقيقته من سنخ البناءات القلبيّة من غير دخلٍ فيه للإخبار أو
الفتوى على طبقه، بل ولا للفعل الخارجي الجوارحي بشهادة تعلّق التشريع بحكم فعل الغير كالتشريع في
إيجاب الصلاة و
الصوم على
الحائض و
النفساء ، فلا جرم ما هو المحرّم بالحرمة التشريعيّة أيضاً لا يكون إلّانفس البناء القلبي الذي هو من فعل الجوانح، دون العمل الخارجي أو الإفتاء بشيء كما هو واضح. وحينئذٍ فما افيد من حرمة الإفتاء والعمل الخارجي بالحرمة التشريعيّة أيضاً- بتخيّل أنّ التشريع عبارة عن الفعل
الصادر عن البناء المزبور، كان الفعل هو الإفتاء بشيء أو العمل الخارجي، دون نفس البناء القلبي مجرّداً عن العمل والإفتاء، ودون الفعل الخارجي مجرّداً عن كون نشوئه عن البناء المزبور، وأنّ الفعل الناشئ عن البناء القلبي هو
مصداق التشريع المحرّم-
منظور فيه؛ لما عرفت من أنّ روح التشريع وحقيقته ليس إلّا عبارة عن نفس البناء القلبي، وأنّ العمل والإفتاء
كالإخبار به خارج عن حقيقة التشريع؛ حيث كان مرجع الإفتاء إلى كونه
إظهاراً و
إبرازاً لذلك البناء القلبي كالإخبار، ومرجع العمل إلى كونه
امتثالًا لما شرّعه بحسب بنائه على
الوجوب أو الحرمة، وعليه فلا يكاد يوجب حرمة التشريع حرمة الإفتاء والعمل الخارجي الجوارحي حتى يوجب فساده إذا كان
عبادة ».
وما ذهب إليه المحقّق العراقي هو صريح كلام السيّد الحكيم حيث قال: «إنّ موضوع الحرمة التشريعيّة التشريع القلبي، لا العمل الجوارحي، وظاهر النصوص كون موضوع الحرمة هو الثاني. ويمكن
الخدش فيما ذكر... (ثمّ قال:) والتشريع وإن كان
جنانيّاً إلّاأنّ الجري عليه محرّم أيضاً شرعاً، كما يفهم ممّا ورد في البدعيّات، بل لعلّه محرّم عقلًا، بل لعلّه أقبح في نظر
العقل من التشريع القلبي».
وكأنّ نظره إلى
سراية القبح إلى العمل والجري العملي.
وكذا
السيّد الروحاني ناقلًا عن
الآخوند الخراساني ؛ إذ قال: «إنّ التشريع ليس من صفات الفعل الواقع كي تكون حرمته حرمةً للفعل، بل هو من صفات القلب؛ فإنّ التشريع عبارة عن البناء القلبي على جعل الحكم، ولا يكون العمل سوى كاشف عن البناء والتشريع، لا أكثر، فلا وجه
لتحريمه . وبعبارة اخرى: التشريع عبارة عن إدخال ما ليس في الدين فيه، وليس العمل إدخالًا لما ليس في الدين فيه كما لا يخفى. نعم، الإخبار عن الجعل محرّم؛ لأنّه افتراء، ولكنّه لا يرتبط بالعمل المأتيّ به. وبالجملة، فالتشريع من صفات الفاعل لا الفعل، وليس هو كالتجرّي الذي قد يقال فيه: إنّه من صفات الفعل باعتبار أنّ الفعل في مورد
التجرّي بنفسه يتعنون بعنوان
الهتك للمولى الذي هو مورد التحريم و
العقاب ».
وقد يستظهر ذلك من بعض كلمات
المحقّق الخراساني أيضاً، حيث قال: «وبالجملة، الالتزام بحكمٍ للعمل من قبل المولى مع الجهل به لا يوجب حدوث عنوان له، يكون بذلك
العنوان مبغوضاً، بل حاله كالقطع لا يوجب تغيّر
المقطوع عمّا هو عليه من العنوان... نعم، يوجب
إثماً قلبيّاً حيث إنّه بهذا البناء والالتزام تصرّف في ما هو
سلطان المولى من تشريع الأحكام، فيستحقّ بذلك ذمّاً وعقاباً، حيث إنّه بنفسه هتك حرمة المولى، وما كان من قبيل ذلك يوجب الذمّ والعقاب من دون خطاب
كالمعصية والتجرّي بقصدها، كما عرفت في باب التجرّي».
وقال في مبحث التجرّي من
الكفاية : «الحقّ أنّه (التجري) يوجبه (العقاب)؛ لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته وذمّه على تجرّيه وهتكه لحرمة مولاه، وخروجه عن رسوم عبوديّته، وكونه بصدد
الطغيان وعزمه على
العصيان ... ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرّى (به) أو المنقاد به على ما هو عليه من
الحسن أو
القبح ، والوجوب أو الحرمة واقعاً».
وقال في مباحث
اقتضاء النهي عن العبادة للفساد من الكفاية: «مع أنّه لا ضير في اتّصافه (العمل) بهذه الحرمة (الذاتية) مع الحرمة التشريعيّة، بناءً على أنّ الفعل فيها لا يكون في الحقيقة متّصفاً بالحرمة، بل إنّما يكون المتّصف بها ما هو من أفعال القلب، كما هو الحال في التجرّي و
الانقياد ».
فلعلّ المستفاد من مجموع كلماته أنّ التشريع كالتجرّي من الأفعال القلبيّة ووصف للفاعل لا الفعل الخارجي، فيترتّب عليه القبح الفاعلي لا الفعلي. بل لعلّ ذلك- أي كونه من أفعال القلب- ظاهر كلّ من حكم بسراية القبح والحرمة من البناء إلى العمل؛ إذ مع العينيّة لا معنى للسراية، كما لا يخفى.
قال السيّد الخوئي: «بل له وجه آخر يقتضي
بطلان العبادة مع التشريع... وهو مبغوضية العمل وحرمته المانعة عن كونه مقرّباً؛ لأنّ حرمة البناء والتشريع تسري إلى العمل المأتيّ به في الخارج، وبه يحكم بحرمته ومبغوضيّته، ومعهما كيف يكون العمل مقرّباً به ليحكم بصحّته؟».
وقال أيضاً: «بل الوجه في بطلانه هو أنّ حرمة التشريع تسري إلى العمل وتوجب حرمته ومبغوضيّته...».
أنّ التشريع عنوان نفس العمل المأتي به بهذا القصد، دون البناء القلبي، ولازمه قبح نفس العمل من دون حاجة إلى البحث عن السراية وعدمها وإن كان يحتاج إلى بحث آخر، وهو تلازم هذا القبح للحرمة الشرعية وعدمه كما سيأتي ومرّ شطر منه في كلام المحقّق الخراساني.
وهذا القول ظاهر جماعة، كالسيّد الخوئي في مباحث
الاجتهاد و
التقليد ، حيث قال: «إنّ مقتضى الروايات
المتقدّمة حرمة
صدور القضاء ممّن لا
أهلية له وهو
أصل ثانوي- وإن كان الأصل الأوّلي يقتضي جوازه وإباحته- فعلى هذا الأصل الثانوي يكون القضاء والحكم بعنوان الأهليّة من التشريع المحرّم؛ لأنّه عنوان للفعل الخارجي».
والسيّد البجنوردي ، حيث قال: «إنّ المحرّم هل هو نفس العمل الذي يتحقّق التشريع به، أو خصوص
التديّن والتعبّد به؟ الظاهر أنّ العقل يحكم بقبح نفس العمل الذي يصدر بعنوان أنّه من الدين، ويكون العمل الصادر بهذا العنوان مصداقاً للتشريع القبيح عقلًا، فبقاعدة
الملازمة نستكشف حرمة نفس
العمل الكذائي».
والشهيد الصدر، حيث قال: «إنّ حرمة التشريع لا تقف على الإسناد القلبي، بل تنبسط على الفعل الخارجي- كما هو الصحيح- لأنّ التشريع يكون وجهاً وعنواناً للعمل، فيحرم إذا حرم هذا العنوان...».
وقد يجمع بين القولين، فيقال بصدق البدعة والتشريع على كلّ من البناء القلبي، والعمل المأتي بهذا القصد معاً، فيكون كلّ منهما مصداقاً للتشريع المحرّم، ولا ينحصر في أحدهما؛ لأنّ ظاهرة البدعة قد تتمثّل في العمل الجوانحي، وقد تتمثّل في العمل الجوارحي.
ولعلّ بعض كلمات
المحقّق النجفي ناظرة إلى ذلك، حيث قال: «وأمّا
دعوى عدم حرمتها حتى لو جيء بها على جهة المشروعيّة زعماً منه أنّ المحرّم الاعتقاد دون الفعل، فهو ممّا لا ينبغي أن يلتفت إليه، بل يمكن دعوى
الإجماع على خلافه، كما أنّ الظاهر أنّ التشريع ليس مخصوصاً
بالجاهل الذي يتصوّر منه الاعتقاد، بل يجري فيه وفي العالم؛ لأنّ المحرّم هذه الصورة، و
النيّة الجعليّة، سيّما في
الرئيس ذي الأتباع
كأبي حنيفة و
مالك ».
ثمّ إنّ التشريع على مبنى
المشهور - وهو الالتزام بشرعيّة شيءٍ- لا فرق فيه بين أن يكون متعلّقه فعل نفس المشرّع أو فعل الغير.
وأمثلته من الأوّل كثيرة، ومن الثاني ما ابتدعه بعض
الخلفاء مثل: ما روي بالنسبة لصلاة
التراويح ، رواه
عبد الرحمن القاري ، قال: خرجت مع عمر ليلة في
رمضان إلى
المسجد ، فإذا
الناس أوزاع (أوزاع: أي يصلّون متفرّقين غير
مجتمعين على
إمام واحد، أراد أنّهم كانوا يتنفّلون فيه بعد
العشاء متفرّقين. )
متفرّقون، يصلّي الرجل لنفسه، ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته
الرهط ، فقال عمر: لو جمعت هؤلاء على قارئٍ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على
ابيّ بن كعب ، قال: ثمّ خرجت معه ليلة اخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه!!.
الموسوعة الفقهية، ج۲۰، ص۱۰۲-۱۱۶.