الإتلاف (قاعدة الإتلاف)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الإتلاف (توضيح).
تطبّق في إتلاف المال
قاعدة فقهية مشهورة تدعى ب (قاعدة الإتلاف) نذكر أهم خصائصها فيما يأتي:
يعبّر الفقهاء عن مضمون
قاعدة الإتلاف عادة بأنّ (من أتلف مال غيره فهو له ضامن). ومرادهم من ذلك واضح، فإنّ من يُتلف مالًا يعود لجهة أو أحد من
الناس دون
إذن من صاحبه أو من
الشارع تشتغل ذمّته بعوضه.
وقد تمسّك الفقهاء بهذه القاعدة في موارد الإتلاف في أبواب مختلفة من
الفقه ، واعتبرها بعضهم من القواعد المسلّمة بين جميع فرق المسلمين، وربما قيل بأنّها من
ضروريات الدين أيضاً.
استدلّ بعض الفقهاء
كالشيخ الطوسي و
ابن ادريس على قاعدة الإتلاف بقوله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ».
كما استدلّ بعضهم
بقول
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : «حرمة مال
المسلم كحرمة دمه».
ونوقش في
الاستدلال بالآية الشريفة بأنّها غير واضحة
الدلالة على ضمان المتلَف، وإنّما تدلّ على جواز
القصاص في
الاعتداء أو المقابلة في
الحرب مع
الأعداء .
وكذلك نوقش في النبوي بأنّه لا يدلّ على الضمان، وإنّما يدلّ على عدم مشروعيّة أخذه والتصرّف فيه.
ومن هنا استند فقهاء آخرون إلى الروايات الخاصّة المتفرّقة في الأبواب الفقهية المختلفة
كالإجارة و
العارية و
المضاربة و
الشركة وغيرها، حيث دلّت على ضمان المتلِف والمفسِد لمال الغير من دون
إذنه .
ففي
صحيح الحلبي عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سُئل عن
القصّار يُفسد؟ فقال: «كلُّ أجير يعطى
الأجرة على أن يصلح فيُفسد فهو
ضامن ».
وفي صحيح
سليمان بن خالد عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سألته عن المملوك بين شركاء فيعتق أحدهم نصيبه؟ قال: «ذلك
إفساد على أصحابه، فلا يستطيعون بيعه ولا
مؤاجرته ». قال: «يقوّم قيمة، فيجعل على الذي أعتقه عقوبة، وإنّما جعل ذلك لما أفسده».
وعن
اسحاق بن عمار قال: سألت
أبا إبراهيم عليه السلام عن
الرجل يرهن الرهن بمائة درهم وهو يساوي ثلاثمائة فيهلك، أعلى الرجل أن يرد على صاحبه مائتي
درهم ؟ قال: «نعم؛ لأنّه أخذ رهناً فيه فضل وضيّعه».
وعن وهب عن
جعفر عن
أبيه عليهما السلام أنّ
عليّاً عليه السلام كان يقول: «من استعار عبداً مملوكاً لقوم فعيّب فهو ضامن».
وعن السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام:«أنّ
أمير المؤمنين عليه السلام رفع إليه رجل استأجر رجلًا ليصلح بابه فضرب
المسمار فانصدع الباب فضمّنه أمير المؤمنين عليه السلام».
وعن
أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجلٍ كان له
غلام فاستأجره منه صائغ أو غيره، قال: إن كان ضيّع شيئاً أو أبق منه فمواليه ضامنون».
وغير ذلك.
وهذه الروايات وإن كانت كلُّ واحدة منها واردة في مورد خاصٍّ وباب معيَّن إلّا أنّه يستفاد من مجموعها ومن
إلغاء الخصوصيّة في مورد كلّ منها القاعدة الكلّية التي لا تختصّ بباب دون
باب .
قال في القاعدة: «وهي بهذه الكيفية والخصوصية وإن لم تذكر في
رواية خاصّة، ولكنّها قاعدة كلّية متصيّدة من الموارد الخاصّة التي نقطع بعدم وجود الخصوصيّة لتلك الموارد. وعليه فتكون هذه القاعدة متّبعة في كلّ مورد تمسُّ بها الحاجة. والموارد التي اخذت منها هذه القاعدة هي
الرهن و
العارية و
المضاربة و
الإجارة و
الوديعة وغير ذلك من الموارد المناسبة لها، فانّه قد وردت فيها الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ إتلاف مال الغير موجب للضمان. وقد استفاد منها الفقهاء- رضوان اللَّه عليهم- قاعدة كلّية أعني بها: قاعدة من أتلف مال غيره فهو له ضامن».
وقد أضاف بعضهم في
الاستدلال على القاعدة الكلّية التمسك
بالسيرة العقلائية التي يستكشف
امضاؤها من عدم
الردع عنها شرعاً، بل ومن
التأكيد عليها في الموارد الخاصّة المعلّلة بنفس
النكتة العقلائية.
قال: «إنّ قاعدة الإتلاف قاعدة عقلائية ليست من مؤسسات
الشريعة ، وما عند العقلاء أوسع من نحو (من أتلف مال الغير) أو ما يستفاد منه القاعدة».
بل استدل عليها بقاعدة
لا ضرر ولا ضرار الفقهية.
قال: «واعلم أنّه كما يوجب
الغصب الضمان كذلك الإتلاف يوجبه أيضاً بلا خلاف، ولعلّه لحديث: «لا ضرر ولا ضرار»
ولا فرق في
التلف بين كونه عيناً أو منفعة».
وقد ناقش فيها آخرون
كما استدل بعضهم على ضمان الاتلاف بقاعدة ضمان
اليد ،
بل جعل بعضهم قاعدة الإتلاف من المسلّمات والبديهيّات في
العرف والشرع والعقل، وأنّ عدم ضمان المال المتلف لصاحبه ظلم قبيح عقلًا.
قاعدة الإتلاف من القواعد الكلّية التي لا تختصّ بباب دون آخر، فهي تعمّ كلّ إتلاف للمال المحترم، سواء حصل بيد المتلِف بغصب أو رهن أو عارية أو مضاربة أو إجارة أو وديعة أو غيرها كما صرّح بذلك
السيّد الخوئي في عبارته المتقدّمة، وسواء كان الإتلاف بالمباشرة أو بالتسبيب. كما لا تختص القاعدة باتلاف
الأعيان بل تجري في المنافع والأعمال؛ لأنّها أموال أيضاً، فمن أتلف شيئاً منها
بالاستيفاء أو بغيره ضمن قيمتها، وعمّم بعضهم القاعدة للحقوق المالية أيضاً.
قال: «إنّ ضمان إتلاف المال أعم من ضمان الملك، فإنّ حق
التحجير مال للمحجّر وضمان إتلاف المال شامل له، وكذا سائر الحقوق التي لها مالية».
كما أنّ القاعدة تعمُّ الإتلاف بجميع مراتبه ولا تختص بمرتبة دون اخرى.
قال: «والإتلاف بمراتبه يوجب الضمان؛ لأنّ هذا
الموضوع الخاص- وهو المال المضاف
بإضافة الملكية إلى الغير- رُتّب على إتلافه الضمان. وإتلافه بما هو موضوع خاص يتحقق بإتلاف اضافة الملكية أو بإتلاف حيثية المالية أو بزيادة ذاته الموصوفة بهاتين الحيثيتين».
•
الإتلاف (شروط قاعدة الإتلاف)، يستفاد مما أشرنا إليه في مضمون القاعدة أنّها مشروطة بجملة شروط، أهمها: ۱-
تحقق الإتلاف، ۲- أن يكون المتلَف مالًا شرعاً، ۳- أن يكون المتلَف راجعاً للغير، ۴- أن لا يكون الإتلاف بإذن المالك، ۵- أن لا يكون الإتلاف بحقّ، ۶- أن لا يكون الإتلاف مأموراً به شرعاً، ۷-
أهلية المتلِف للضمان، ۸- أن لا يكون مكرهاً على الإتلاف.
الذي يثبت بالإتلاف على المتلف إنّما هو ضمان المال الذي أتلفه، وكيفية هذا
الضمان عند مشهور الفقهاء،
بل لا نعلم خلافاً فيه أنّ المتلف إن كان مثلياً ضمن بمثله وإن كان قيمياً أو مثليّاً وتعذّر المثل ضمن بقيمته.
لكن وقع بين الفقهاء كلام في أنّ المضمون بالقيمة هل هو الشيء بقيمته حين الأداء أو حين التلف أو أعلى القيم من حين التلف إلى حين
الأداء أو غير ذلك؟
قال: «إذا غصب عيناً من ذوات الأمثال وتلفت في يده أو أتلفها والمثل موجود فلم يسلمه حتى فقد، اخذت منه
القيمة لتعذّر المثل فأشبه غير المثلي.
و
المراد من الفقد أن لا يوجد في ذلك البلد وما حواليه، فإذا لم يقبض القيمة وقت
الإعواز حتى مضت مدّة يختلف فيها القيمة وجب عليه القيمة يوم
الإقباض لا يوم الاعواز.
ولو أعوز فحكم الحاكم بالقيمة فزادت أو نقصت لم يلزم ما حكم به الحاكم وحكم بالقيمة وقت
تسليمها لأنّ الثابت في الذمّة إنّما هو المثل. وقال الشيخ: يكون له المطالبة بقيمة يوم القبض ولا
اعتبار بحكم الحاكم به...».
قال في ضمان مهر
الزوجة : «متى ثبت لها مطالبة الزوج بالقيمة ففي تعيُّن القيمة التي تستحق المطالبة بها
احتمالان :
أحدهما: أعلى القيم وأكثرها من حين
العقد إلى حين التلف، لأنّه مضمون في جميع الأحوال ومن جملتها زمان علو القيمة، فلا تسقط الزيادة بتجدّد النقص.
والثاني: قيمة يوم التلف؛ لأنّ العين ما دامت موجودة لا تجب القيمة قطعاً، إنّما يجب ردّ العين، ومعنى ضمانها حينئذٍ كونها بحيث لو تلفت وجب
الانتقال إلى
البدل فيكون الانتقال إليه حين التلف وهو الأصح».
قال: «إنّ الضمان
المعهود المغروس في أذهان العقلاء هو عهدة
الغرامة و
الخسارة ، ففي المثلي بالمثل وفي القيمي بالقيمة يوم الإتلاف، وأنّ ضمان العين بمعنى أنّ نفس العين على عهدة الضامن في المثليات والقيميّات خلاف
المتعارف والمعهود عندهم. وفي مثله لا بدّ من ورود دليل صريح مخالف لبنائهم وديدنهم كما في دية الكلب التي وردت فيها روايات صريحة معتبرة...».
قال في ضمان المتلف: «فرق بين التالف القيمي والتالف المثلي فالأوّل مضمون بقيمته يوم قبضه والثاني مضمون بمثله فإن أدّاه بعين مثله، وإلّا فبقيمة المثل يوم
أدائها ».
لا إشكال في ضمان
الأمين - كالأجير و
الطبيب و
المستعير - لما يتلفه إذا كان عن تعدٍّ و
تفريط ، وأمّا إذا لم يكن كذلك وإنّما وقع منه خطأً وسهواً فهل يكون ضامناً أيضاً لما تقدم من عدم
اشتراط القصد والعمد في الضمان بالإتلاف والمفروض عدم حصول
التعدي والتفريط أو لا يكون ضامناً باعتبار
أمانته ؟ المشهور هو الضمان؛ لعموم من أتلف وللروايات الخاصة الواردة في ضمان الأجير إذا استؤجر ليصلح فأفسد.
قال: «والطبيب إذا عالج عاقلًا بالغاً أو طفلًا بما حصل فيه تلفهما أو تلف عضوٍ لهما وشبهه ضمن، إلّا أن يكون أخذ
البراءة من العاقل، أو ولي الطفل».
قال: «والمستأجر أمين لا يضمن إلّا بالتفريط أو التعدّي أو
تسليم العين بغير إذن لا
بالتضمين ..ويضمن
الصانع كالقصّار بحرق الثوب أو بخرقه والطبيب و
الختّان و
الحجّام وغيرهم وإن كان حاذقاً واحتاط واجتهد. ولو تلف في يده من غير سببه فلا ضمان. ولا يضمن
الملّاح و
المكاري إلّا بالتفريط».
قال: «إذا أفسد الصانع ضمن ولو كان حاذقاً كالقصّار يحرق الثوب أو يخرقه أو الحجّام يجني في
حجامته أو الختّان يختن فيسبق موساه إلى
الحشفة أو يتجاوز حدّ الختان، وكذا
الكحّال و
البيطار مثل أن يحيف على
الحافر أو يقصد فيقتل، أو يجني ما يضر الدابّة، ولو احتاط واجتهد من غير فرق عندنا في جميع هؤلاء بين
المشترك والأجير الخاصّ منهم، وبين كون العمل في ملكه أو ملك المستأجر، وبين
حضور ربّ المال أو
غيبته بلا خلاف أجده في شيء من ذلك بين المتقدّمين والمتأخرين منّا... ثمّ إنّ الظاهر عدم الفرق بين البيطار والطبيب في كثير من الأدلّة السابقة، وحينئذٍ ينبغي
اتحاد حكم الطبيب معه، بل هو أحد
الصناع ... بل عن ظاهر ديات
التنقيح الإجماع على ضمان العارف إذا عالج صبياً أو مجنوناً أو مملوكاً بدون
إذن الولي والمالك وهو كذلك، بل يقوى الضمان أيضاً في
العارف الماهر علماً وعملًا المأذون بأُجرة وغيرها فأتلف... ولم أجد خلافاً صريحاً في ذلك إلّا من المحكي عن
ابن إدريس و
التحرير فلم يضمِّناه. ومن هنا اتفق من عداهما من الأصحاب على الضمان.
وكيف كان فما ذكرناه في
أصل المسألة -من ضمان الصانع- إنّما هو
التلف وما شابهه بيده. أمّا لو تلف في يد الصانع لا بسببه من غير تفريط ولا تعدّ لم يضمن على الأصح، للأصل وكونه أميناً. وكذا الملّاح يضمن ما يتلفه بيده وحذقه أو ما يعالج به
السفينة من الأحبال والأخشاب بلا خلاف أجده فيه. وكذا يضمن ما يتلفه المكاري
آدمياً وغيره بقوده وسوقه و
انقطاع الحبل الذي شدّ به حبله مثلًا كما نصّ عليه غير واحد..».
قال: «إذا أفسد الأجير
للخياطة أو
القصارة أو تفصيل الثوب ضمن، وكذا الحجّام إذا جنى في حجامته أو الختّان في ختانه وكذا الكحّال والبيطار وكل من آجر نفسه لعمل في مال المستأجر إذا أفسده يكون ضامناً إذا تجاوز عن الحدّ المأذون فيه وإن كان بغير قصده لعموم من أتلف..».
الموسوعة الفقهية، ج۳، ص۲۲۲-۲۲۵.