الانتفاع (الحكم التكليفي)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الانتفاع (توضيح).
الأصل في الأشياء جواز
الانتفاع بها إلّا ما خرج بدليل، و
الدليل قد يدلّ على
المنع عن نوع خاص من الانتفاع، كما دلّ على
حرمة أكل اللحم غير المذكّى؛ أو حرمة الأكل في
آنية الذهب والفضة ، فإنّه لا يدلّ على حرمة
الاستفادة منها في غير
الأكل و
الشرب مثلًا. واخرى يثبت بالدليل حرمة
مطلق الانتفاع بعين من
الأعيان ، فلا يجوز
استعماله والتصرّف فيه، بل يجب
إتلافه وهدمه ولو بهدم صورته وكسره ولو حفظت مادته؛ لزوال
عنوانه بذلك، وهذا هو محلّ البحث في هذا المصطلح. وقد ورد في
الفقه حرمة الانتفاع بهذا المعنى في موارد، أهمّها ما يلي:
اتّفق الفقهاء على حرمة الانتفاع
بالأعيان النجسة أكلًا أو شرباً، بل ادعي
الإجماع عليه. وكذا حرمة كلّ
طعام مزج ببعض هذه الأعيان كالخمر و
النبيذ المسكر و
الفقاع وإن قلّ، أو وقعت فيه
نجاسة وهو مائع، أو باشره كافر، حيث ينجس هذا الطعام فيحرم أكله.
أمّا سائر أنواع الانتفاع غير الأكل والشرب فقد ذهب بعض القدماء
إلى
المنع إلّاما ثبت جوازه، إلّاأنّه ذهب جمع كثير منذ زمن
الشيخ الطوسي وإلى يومنا هذا إلى
جواز الانتفاع بها إلّاما خرج بالدليل.
وهذا
الاختلاف مبني على
تنقيح الأصل في النجاسات والمتنجّسات، وأنّه هل يقتضي جواز الانتفاع بها في غير ما يشترط فيه
الطهارة إلّاما ثبتت حرمته؟ أو أنّه يقتضي حرمة الانتفاع بها إلّاما ثبت جوازه؟
وقد تمسّك بالثاني جمع، منهم
المحقّق النجفي حيث صرّح في أكثر من موضع من
الجواهر بأنّ مقتضى
النص عدم جواز الانتفاع بالنجس
مطلقاً ، فضلًا عن
التكسّب به، إلّاما خرج بدليل من
سيرة ونحوها،
كالتسميد بالعذرة ونحوها.
وقال في موضع آخر: «لو كانت نجاسته ذاتية-
كالألية المقطوعة من ميّت أو حيّ- لم يجز نقله ولا
انتقاله ولا استعماله حتى
بالاستصباح تحت
السماء بلا خلاف
معتدّ به أجده فيه... وكذلك
الكلام في
الدم و
أرواث و
أبوال ما لا يؤكل لحمه من
الأعيان النجسة التي قد أخرجها
الشارع عن حكم
التموّل ، بل... عدم جواز الانتفاع بها... بلا خلاف معتدّ به أجده فيه، بل
الإجماع بقسميه عليه، بل
المنقول منهما
مستفيض ».
وقد تقدّم أنّ
المختار عند المشهور من زمن الشيخ الطوسي هو
الجواز إلّافيما ثبت فيه المنع.
وما تمسّك به القائلون بحرمة الانتفاع بالعين النجسة، والذي يدلّ على ذلك بعنوانه ما روي عن
الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «...
البيع للميتة أو الدم أو
لحم الخنزير أو لحوم
السباع من صنوف
سباع الوحش و
الطير أو جلودها أو الخمر، أو شيء من وجوه النجس، فهذا كلّه
حرام و
محرّم ؛ لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وملكه و
إمساكه و
التقلّب فيه، فجميع تقلّبه في ذلك حرام...».
وهي رواية ضعيفة سنداً؛
لإرسالها .
وقد يدّعى ورود
الدليل على حرمة الانتفاع في بعض النجاسات بخصوصها، كما في المسكر و
الميتة ، إلّاأنّه قد يقال في المسكر- كما سيتّضح فيما بعد- بأنّ ما يكون دليلًا على حرمة الانتفاع فيه مناطه
الإسكار لا النجاسة، فلو تمّت
الدلالة تثبت حرمة الانتفاع بالمسكر ولو قيل بطهارته.
وكذلك ما ورد في الميتة من أدلّة، فبعضها يدلّ بظاهره على حرمة الانتفاع بها، مثل: رواية
علي بن أبي المغيرة ، قال: قلت
لأبي عبد اللَّه عليه السلام : جعلت فداك، الميتة ينتفع منها بشيء، قال: «لا...».
و
معتبرة سماعة ، قال: سألته عن جلود السباع ينتفع بها، قال: «إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده، وأمّا الميتة فلا».
وفي مقابل ذلك ما يدلّ على الجواز كمعتبرة سماعة، قال: سألته عن جلد الميتة
المملوح، وهو
الكيمخت ، (الكيمخت- بالفتح فالسكون-: جلد الميتة المملوح، وقيل: هو
الصاغري المشهور. )
فرخّص فيه، وقال: «إن لم تمسّه فهو أفضل».
ومقتضى
الجمع العرفي حمل المنع على
الكراهة .
قال في معرض
التعليق على ما ذكره
السيّد اليزدي في
العروة من جواز الانتفاع بالروث من غير مأكول اللحم في
التسميد ونحوه: «لعدم تمامية ما استدلّ به المانعون على عدم جواز الانتفاع بالنجس، ولو تمّ الدليل على ذلك لاقتضى سلب المالية عنه و
بطلان بيعه، و
الصحيح عدم وجود دليل يقتضي المنع من سائر الانتفاعات بالنجس على نحو يحتاج جواز الانتفاع إلى مخصّص، بل
الأصل جواز الانتفاع إلّاحيث يقوم دليل على حرمته، ولم يقم دليل على ذلك في
المقام ».
وقال : «
الأظهر - وفاقاً لشيخنا
الأنصاري قدس سره- عدم حرمة الانتفاع بالمتنجّسات، ولا بالأعيان النجسة، ولا
ملازمة بين نجاسة الشيء وحرمة الانتفاع به... وأمّا حرمة الانتفاع من النجس بعنوان أنّه نجس فلم تثبت بدليل، ومعه يبقى تحت
أصالة الحلّ لا محالة».
لا خلاف بين
المسلمين في حرمة
شرب الخمر ، بل هو من
ضروريات الدين على وجه يدخل مستحلّه في
الكافرين ، وكذا كلّ مسكر ولو لم يسمّى خمراً، وحرمة شرب سائر المسكرات عند فقهاء
الإمامية من المسلّمات، بل الضروريات، من غير فرق بين
القليل و
الكثير ، و
المطبوخ و
النيء ، و
المتّخذ من
العنب وغيره.
هذا بالنسبة للانتفاع بالخمر والمسكر في الشرب، أمّا بالنسبة لباقي الانتفاعات بالخمر والمسكرات عدا الشرب، فقد ذكر الخمر في جملة الأعيان النجسة التي لا يمكن الانتفاع بها، وقد وردت أدلّة خاصة كثيرة تصرّح بحرمة الانتفاع بها في غير صورة الضرورة، وهي في دلالتها على
تحريم الانتفاع بالمسكر على طوائف:
روايات تحريم
الاكتحال بالخمر، كرواية
هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في رجل اشتكى عينيه، فنعت له بكحل يعجن بالخمر، فقال: «هو
خبيث بمنزلة الميتة، فإن كان
مضطرّاً فليكتحل به».
وهي تدلّ على أنّ الحرمة لا تختص بالشرب؛ لشمولها للاكتحال، ولكن الاكتحال لمّا لم يكن
أجنبياً عن الشرب بالمرّة؛ لأنّه نحو
استدخال للمسكر إلى
الباطن ، فتحريمه لا يستلزم تحريم مطلق الانتفاع حتى
تدهين الأخشاب به- مثلًا- لوجود
احتمال الفرق.
روايات دلّت على حرمة
إنتاج المسكر وصنعه، من قبيل معتبرة
زيد بن علي عن
آبائه عليهم السلام قال: «لعن
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم الخمر وعاصرها و
معتصرها ...»،
وهذه دالّة عرفاً على حرمة الانتفاع به؛ إذ لو كانت للمسكر منافع محلّلة لما حرم
صنعه بلحاظها.
روايات دلّت على الأمر
بإراقة المسكر، وأنّ
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بإراقته، من قبيل معتبرة
محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «... إنّ رجلًا من
ثقيف أهدى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم
راويتين من خمر، فأمر بهما رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فاهريقتا...»،
وهذه تدلّ على
سقوط المسكر عن قابلية الانتفاع من سائر الوجوه.
ويناقش في
الطائفة الثانية والثالثة بأنّ
الأمر بالإراقة أو
النهي عن صنع الخمر إنّما يدلّ على سقوط الانتفاعات بالشيء فيما إذا لم تكن هناك
مفسدة معيّنة فيه تغري
الناس على
الإقدام عليها و
ممارستها ، وأمّا في هذه الحالة فقد يكون الأمر بالإراقة و
تحريم الصنع تحفّظاً من تلك المفسدة، وهي مفسدة الشرب.
روايات دلّت على تحريم تمام مراتب ومقدّمات
إعداد الخمر واستعماله، كما في رواية
جابر عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر عشرة:
غارسها و
حارسها و
عاصرها و
شاربها و
ساقيها و
حاملها و
المحمولة إليه و
بائعها و
مشتريها وآكل ثمنها»،
حيث إنّ
إطلاق لعن الحامل والمحمول إليه يدلّ على حرمة مطلق الانتفاع، وإلّا فلماذا يحرم الحمل لأجل المنفعة المحللة؟
ويناقش فيها بأنّ الظاهر من
الرواية والعناوين المأخوذة فيها أنّ النظر إلى تلك العناوين بوصفها
استطراقاً إلى الشرب لا في نفسها ولو لم تكن في طريق منفعة الشرب
المحرّمة ، ويشهد لذلك عنوان (غارسها)، فإنّ الخمر لا تغرس، وإنّما يغرس العنب، وهو ليس بمحرّم قطعاً إذا لم يكن من أجل شرب الخمر، فلابدّ أن يكون النظر في الرواية إلى تحريم الانتفاعات الاستطراقية إلى الشرب.
وممّا تقدّم يظهر عدم الدليل على حرمة بعض الانتفاعات بالخمر، كتدهين الأخشاب بها أو استعمالها
للتعقيم وباقي الاستعمالات التي لم تتناولها الأدلّة في هذا
الموضوع .
لا شبهة في أنّ استعمال
آنية الذهب والفضّة في الجملة محظور عند أغلب
المذاهب ، وقد ادّعي
الإجماع على حرمة الأكل والشرب منها عند الإمامية.
وقد وردت أدلّة كثيرة وبألسنة متعدّدة في هذا الصدد، إلّاأنّ الفقهاء اختلفوا في حدود
الحرمة المذكورة وسعة دائرتها، فهل تشمل مطلق
الاستعمال أو تختص بخصوص الأكل والشرب، وعلى الأخير هل تعمّ الحرمة الأكل والشرب من كلّ ما يسمّى
إناءً أو تختصّ بالأكل والشرب ممّا يكون معدّاً لهما من الأواني، وكذلك هل تختص بهما ممّا كان مباشرة من هذه الأواني، أو أنّها تعمّ الأكل والشرب منهما مطلقاً ولو
بالواسطة ؟
المشهور بين الفقهاء
التعميم وحرمة مطلق أنحاء الاستعمال لأواني الذهب والفضّة ولو في غير الأكل والشرب
كالتطهير .
نعم، اختلفوا في حرمة أو جواز مجرّد
الاتّخاذ و
الاقتناء من غير استعمال، وقد تقدّم تفصيل كلّ ذلك في مصطلح (
آنية )، و
إجماله في مصطلح (استعمال).
لا خلاف بين الفقهاء في تحريم بيع هياكل
العبادة المبتدعة ،
كالأصنام و
الصلبان ونحوها ممّا يحرم الانتفاع بها،
بل ادّعي الإجماع عليه.
وقيل: الأصل في
الهيكل أنّه بيت
الصنم ، وأمّا إطلاقه على نفس الصنم فلعلّه من باب المجاز؛ إطلاقاً
لاسم المحلّ على الحال.
وقال
الزبيدي : «الهيكل:
الضخم من كلّ شيء... والهيكل: بيت
للنصارى فيه صنم على صورة
مريم عليها السلام ... زاد في
المحكم : فيه صورة مريم و
عيسى عليهما السلام، وربّما سمّي
ديرهم هيكلًا... والهيكل:
البناء المشرف ، قيل: هذا هو الأصل ثمّ سمّي به بيوت الأصنام مجازاً».
واستدلّ
على الحرمة أيضاً بقوله تعالى: «فَاجتَنِبُوا
الرِّجسَ مِنَ
الأَوثَانِ »،
وبقوله تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ
الْمَيْسِرُ وَ
الْأَنْصَابُ وَ
الْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ»،
وقوله تعالى: «وَ
الرُّجْزَ فَاهْجُرْ».
واستدلّ على الحرمة أيضاً بما روي عن
الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «... وكلّ أمر يكون فيه
الفساد ممّا هو منهيّ عنه... أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد...وكلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير اللَّه- إلى أن قال-: إنّما حرّم اللَّه
الصناعة التي هي حرام كلّها التي يجيء منها الفساد محضاً، نظير
البرابط و
المزامير ... والصلبان والأصنام فحرام
تعليمه و
تعلّمه و
العمل به، وأخذ
الأجر عليه، وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات...»،
وإن نوقش فيها بضعف سندها.
وقد استدلّ
على الحرمة أيضاً بأنّه قد ورد المنع
من بيع
الخشب ممّن يجعله
صليباً أو صنماً، فإذا حرم بيع الخشب لذلك، فإنّ بيع الصليب والصنم أولى بالتحريم، كما قامت
السيرة القطعية المتّصلة إلى زمان
المعصوم عليه السلام على حرمة بيع هياكل العبادة، والحكم بوجوب إتلافها؛
حسماً لمادّة الفساد، كما أتلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام أصنام
مكّة ، فلو جاز الانتفاع بها وبيعها لما جاز إتلافها.
ولم يستبعد بعض المحقّقين جواز البيع إن أمكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم، وكان
لمكسورها منفعة مقصودة غير نادرة جدّاً،
إلّاأنّ
الأكثر - كما ذكرنا- أطلقوا المنع في المقام.
المراد بكتب
الضلال : كلّ ما وضع لغرض
الإضلال و
إغواء الناس، وأوجب
الضلالة و
الغواية في
العقائد أو
فروع الدين ، فتشمل كتب
الفحش و
الهجو و
السخرية ، وكتب
القصص و
الحكايات و
الجرائد المشتملة على الضلالة، وأضاف إليها بعض الفقهاء بعض كتب
الحكمة و
العرفان و
السحر و
الكهانة ونحوها، ممّا يوجب الإضلال.
ولا خلاف
في حرمة بيع و
شراء وحفظ كتب الضلال عند المشهور، قال
الشيخ الطوسي : «إذا وجد في
المغنم كتب نظر فيها، فإن كانت... كتباً لا تحلّ
إمساكها -
كالكفر و
الزندقة وما أشبه ذلك- فكلّ ذلك لا يجوز بيعه...»،
ثمّ حكم بوجوب
تمزيقها وإتلافها، كما أنّه حكم بكون
التوراة و
الإنجيل من هذا القبيل؛ لوقوع
التحريف فيهما. ونحوه
العلّامة في
التذكرة ،
والفاضل المقداد في التنقيح،
والمحقّق الثاني في
جامع المقاصد .
واستدلّ على حرمة
الحفظ بعدّة أدلّة. وتفصيل ذلك في محالّه.
حرمة السحر ممّا لا خلاف فيه بين
الفقهاء ، وقد تظافرت عليه الأدلّة، وأجمع
المسلمون على ذلك.
وقد اختلفت كلمات
أهل اللغة في تحقيق موضوع السحر وبيان حقيقته، كما اختلفت كلمات الفقهاء
في ذلك أيضاً.
أمّا
الشعبذة (الشعوذة) فهي حرام أيضاً بلا خلاف،
وقد عرّفها أهل اللغة بأنّها خفّة في اليد وأخذ- كالسحر- يري الشيء بغير ما هو عليه
أصله في رأي العين. وقيل: هي
الخفّة في كلّ شيء.
وقد استدلّ على حرمتها بالإجماع، وأنّها من
اللهو و
الباطل ، وأنّها يصدق عليها بعض تعاريف السحر فتكون مشمولة لما دلّ على حرمته.
وقد ناقش البعض في هذه الوجوه.
وتفصيل ذلك في محالّه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۷، ص۴۲۶-۴۳۴.