الإسقاط
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو
إلقاء الشيء
وإيقاعه.
الإسقاط لغة: هو
إلقاء الشيء
وإيقاعه خارجاً كما في إسقاط المرأة ولدها ناقصاً، أو
اعتباراً كما في إسقاط
الخيار في المعاملات الخياريّة، وإسقاط
السلطان النقود من الاعتبار، ونحوها.
ويستعمل في الأخبار ولدى
الفقهاء بنفس
المعنى اللغوي .
وهو من البَرء
والبراءة بمعنى التباعد من الشيء ومزايلته،
وعند الفقهاء: إسقاط ما في الذمّة من
الدين ،
فهو إسقاط خاص.
وهو
التجاوز عن الشيء وفرضه كالعدم،
ومنه قول الفقهاء: يعفى عن
الدم في لباس المصلّي إذا كان أقلّ من درهم، وهو في الذنوب بمعنى ترك العقاب عليها، وفي الحقوق إسقاطها بمعنى ترك
المطالبة بها.
لا حكم للإسقاط في نفسه، بل قد تتعلّق به
الأحكام باعتبار ما يضاف إليه، فقد يكون
واجباً ، كإسقاط حقوق اللَّه المالية، بمعنى لزوم الخروج عن عهدتها
بالامتثال ، وكذا حقوق الناس المتعلّقة
بالذمم من المالية وغيرها، فيجب إسقاطها من جانب من عليه الحقّ، بمعنى الخروج عن عهدتها
وأدائها إلى أربابها.
وقد يكون
مستحبّاً كإسقاط صاحب الحقّ حقّه عن المستحقّ عليه والمديون، بإبراء ذمّته وإسقاط ما عليه من الدين، أو بالعفو عنه في جرائمه وما تعلّق بها من
قصاص أو
حدٍّ أو دية، قال اللَّه تعالى:«وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلْتَّقْوَى»،
وقال عزوجلّ أيضاً: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ».
وقال عزوجلّ: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».
أمّا ما يقبل الإسقاط فهو كلّ حقٍّ ممحّضٍ لصاحبه ما لم يمنع عنه مانع من عقل أو شرع؛ للقاعدة المسلّمة: أنّ (لكلّ ذي حقّ إسقاط حقّه) كما صرّح بها بعضهم.
ولها تطبيقات كثيرة في أبواب الفقه.
وقد يستدلّ له بفحوى أدلّة سلطنة الناس على أموالهم، بدعوى أنّ
الأمر في الحقّ أسهل من
الملك فهو أولى بهذا الحكم، أعني السلطنة عليه. وهذا في الحقوق العرفية والعقلائية واضح، وأمّا الشرعيّة- كحقّ الخيار ونحوه- فلأنّه لا معنى لتسلّط ذي الحقّ عليه إلّانفوذ تصرّفه فيه بالإسقاط، خصوصاً في ما كان غير قابل للنقل.
نعم، ذكر بعض الفقهاء أنّ إسقاط هذا النوع من الحقوق متوقف على ثبوتها؛
لاستحالة إسقاط ما لم يجب، وهي قاعدة معروفة تمسّك بها الكثير في مسائل متفرقة من الفقه، بل ذكر
المحقّق النائيني أنّها قاعدة عقلية لا تقبل التخصيص، فهي من مصاديق وهب الأمير ما لا يملك.
ومع ذلك فقد رفض
السيد الخوئي الالتزام بها على عمومها؛ لأنّ المتيقن منها العقود المعلّقة على أمر مجهول، دون ما كان من قبيل إسقاط الحق عن ذمّة الغير قبل
اشتغالها به؛ إذ لا دليل للمنع عن ذلك من
آية أو رواية إلّادعوى
الإجماع الذي يحتمل
استناده إلى بناء العقلاء، وهم لا يمنعون من الإسقاط قبل الثبوت مطلقاً كما في المورد المذكور.
وأمّا ما لا يقبل الإسقاط فأهمّ موارده ما يلي:
وهو الحقّ الثابت للأشخاص من دون أن يكون لهم حقّ إسقاطه كحقّ
الولاية الثابتة
للأب والجدّ على الصغير، وكحقّ
الاستمتاع وحقّ الجار، فإنّها من الحقوق غير القابلة للإسقاط، كسائر
الأحكام الشرعية من حيث عدم
إمكان إسقاطها من قبل المكلّفين؛ ولذا سمّيت بالحقوق الحكمية في مقابل الحقوق غير الحكمية القابلة للإسقاط كحقّ
الفسخ مثلًا.
والمرجع في كون الحقّ حكميّاً أو غير حكمي هو دليل اعتباره، ومع
الشكّ يرجع إلى الاصول العملية.
إنّ الحقوق الثابتة في ذمّة المديونين وإن كانت قابلة للإسقاط
والإبراء ذاتاً، إلّاأنّها لا تكون كذلك إذا تعلّق بها حقّ الغير فيمنع صاحب الحقّ من
التصرّف في حقه بإسقاط ونحوه ولو ببعضه.
قال
المحقّق النجفي : «لو كان له ( للمفلّس)حقّ فقبض دونه قدراً أو وصفاً على جهة الإسقاط والإبراء كان للغرماء منعه قطعاً؛ لأنّه تصرّف في المال بما ينافي حقّهم».
ومن ذلك أيضاً إسقاط المريض في مرض موته حقوقه الماليّة عن الغير؛ لأنّه
إضرار بالورثة، وكذا لو لزم من الإسقاط التصرّف فيما يكون أمره بيد الغير- كإسقاط المديون الأجل- فإنّه لا يُلزم الدائن بتسلّم الدين قبل أجله؛ لأنّه من شؤونه وحقوقه الحاصلة بالعقد- أي عقد القرض- فلا يمكن للمديون
إلزامه بذلك؛ فإنّه تصرّف فيما يرجع إلى الغير.
لا إشكال في صحّة إسقاط الحقوق المشتركة إذا اتّفق أصحابها على إسقاطها كما في حقّ القصاص وحقّ حدّ
القذف .
وأمّا إذا اختلفوا، بأن أراد بعضهم الإسقاط أو
النقل إلى الدية دون بعض فالمعروف بينهم في باب القصاص عدم سقوطه، بل يجوز للآخرين المطالبة به مع
ضمانهم الدية بنسبة ما أسقطه الآخرون، أو لسائر الورثة بشرط مطالبتهم الدية.
وأمّا في باب القذف فالحكم هو
استقلال كلّ من الورثة بالحقّ.
والميزان في إسقاط الحقوق المشتركة ما يستظهر من دليل اعتبارها، فإن استفيد منه أنّ هناك حقّاً واحداً للمجموع بما هو مجموع فيسقط بإسقاط البعض كما لا يخفى؛ لأنّه قائم بالمجموع على الفرض لا بكلّ أحد، وإن كان بنحو
الانحلاليّة لم يسقط بإسقاط البعض، ويجوز للباقي المطالبة به.
وربما يفصّل على هذا
الأساس بين حقّ القصاص المجعول ابتداءً
للأولياء ، وبين إرث حقّ القصاص، كما إذا مات المجنيّ عليه
بجناية دون النفس- كقطع اليد مثلًا- فانتقل حقّ قصاص العضو إلى ورثته، فيستظهر من دليل الأوّل الانحلاليّة، وأنّه قد جُعلت لكلّ وليٍّ السلطنة على
القتل ، بينما يستظهر من دليل التوريث كونه حقّاً واحداً يرثه مجموع الورثة، فلا يستقلّ كلّ منهم بذلك. وتفصيله في محلّه.
وقد يعبّر عنها بالمشتركة أيضاً؛ لاشتراك المتقابلين في الحقّ، وذلك مثل حقّ القسم المشترك بين الزوجين بمعنى حقّ
استمتاع كلّ منهما من الآخر، فإنّ هذا الحقّ لا يسقط بمجرّد إسقاط أحدهما حقّه، بل يعتبر رضا الآخر أيضاً، فلو أسقطت الزوجة حقّها من الزوج كان للزوج الخيار بين الرضا بذلك وعدمه؛ للاشتراك المزبور.
إنّما يصحّ إسقاط الحقّ ممّن هو أهل للإسقاط
بالبلوغ والعقل وعدم الحجر، ولمن يلي أمره من الوليّ الخاص أو العام، مع رعاية مصلحة صاحب الحقّ، ووكيله الخاص أو العام بمقتضى
إطلاق أدلّة نفوذ
الوكالة في كلّ ما يرجع تصرّفه إلى صاحب الحقّ، بل قد يقال: إنّ بالوكالة تنسب مثل هذه التصرّفات الوضعيّة إلى صاحب الحقّ حقيقة- على ما هو المقرّر في محلّه- وكذا المأذون من قبله بناءً على إرجاع
الإذن في إنشاء العقود والإيقاعات التي منها الإسقاط إلى التوكيل أو ما يفيد فائدته، كما صرّح به بعضهم.
هذا في الحقوق الخاصة المملوكة للأشخاص. وأمّا الحقوق العامّة كحقّ
الفقراء في
الزكاة ،
والسادة في
الأخماس ، وحقّ الموقوف عليهم في الوقف العام، ونحوها فإنّما يتولّاها
الإمام عليه السلام أو نائبه العام- أي الفقيه الجامع للشرائط- أو الخاص، أو المتولّي في موارد تعيينه، والواجب فيها رعاية مصلحة المولّى عليهم في جميع التصرّفات التي منها إسقاط الحقّ ولو ببعضه لو قيل بجوازه للولي.
هذا كلّه في حقوق الناس. وأمّا حقوق اللَّه تعالى فإسقاطها أيضاً بيده، أو بيد من يقوم
بإبلاغ رسالته ويجري أحكامه من
أنبيائه وأوصيائه ، الذين ربّما يفوّض إليهم جملة من الحقوق والتكاليف بما هم امناء على الرسالة
وشهداء عليها، وخلفاء اللَّه في الأرض وولاة أمر الناس، فلهم الأمر والتكليف حينئذٍ حسب ما يرونه من المصلحة ومقتضيات الولاية، قال اللَّه تعالى: «أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ».
وفي مثل ذلك يكون إسقاط تلك التكاليف بيدهم، كما في إسقاط التكليف
بالجهاد عمّن استأذن في تركه، وغير ذلك.وقد ينتقل هذا الحقّ إلى الفقيه أيضاً، ولعلّ من ذلك عفو الحاكم عن بعض الحدود فيما كان من حقوق اللَّه المحضة في شرائط خاصّة.
قد يدّعى
اتّفاق الفقهاء على
بطلان الإيقاع فضولة ولو مع لحوق
الإجازة ،
ومنه الإسقاط. وإن نوقش في دعوى الاتّفاق المذكور تارة في ثبوت الاتّفاق. واخرى في شموله وعمومه لجميع الإيقاعات حتى الإسقاط بدعوى أنّ المتيقن من
الإجماع موردي
الطلاق والعتاق دون غيرهما فلا تشمل الإسقاط. وثالثة في حجّيّته حتى فيما ثبت الإجماع فيه؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى بعض الوجوه التي قد لا تدلّ على البطلان.
قال
السيّد اليزدي في جملة كلام له في هذا المقام: «وبالجملة: التعويل على الإجماع في منع الجريان(أي جريان الفضولية) مشكل، خصوصاً في سائر الإيقاعات من الإذن والإجازة والإبراء
والجعالة والفسخ والردّ ونحو ذلك».
وقال
المحقّق الاصفهاني في حاشيته على
المكاسب : «التحقيق: أنّ بطلان الفضولية في الإيقاعات- عموماً أو خصوصاً- حتى بعد لحوق الإجازة لا دليل عليه...».
ويقع البحث فيه بالنسبة للحقوق والتكاليف
والعقوبات .
أمّا الحقوق فإسقاطها يتحقّق
بإنشاء الإسقاط مباشرة وبلفظه، كقوله: أسقطت حقّي أو خياري، أو بما يفيد فائدته كالإبراء، وهبة الدين لمن عليه بناءً على صحّتها وعدم إرجاعها إلى الإبراء.
وباشتراط عدم الحقّ- أو سقوطه- في نفس
العقد ، أو في عقد آخر على نحو شرط النتيجة، فيمنع من تحقّقه في الأوّل، ويسقط بتمامية العقد في الثاني.
وباشتراط عدم
الأخذ والمطالبة به أو إسقاطه على نحو شرط الفعل، فيجب على المشروط عليه الوفاء بما التزم به من عدم الفسخ أو إسقاط الحقّ، بل ظاهر بعضهم عدم نفوذ الفسخ بمجرّد الاشتراط في الصورتين.
وبالمصالحة على نفس الحقّ أو سقوطه أو إسقاطه بعوض، فيسقط بتمام عقد المصالحة.
وبعفو صاحب الحقّ عن المستحقّ عليه كحقّ القصاص أو بدله مع التصالح، بل الحدّ في ما كان من حقوق الناس محضاً كالقذف.وبعفو الحاكم
والقاضي في موارد جوازه.
وبتوبة المجرم قبل
القدرة عليه في حقوق اللَّه كما في
الزنا ونحوه.
وبفسخ العقد أو
إقالته الموجب لسقوط الحقّ المتعلّق بالعوضين بالعقد.
وباستيفاء الحقّ، وفي قوّته تهاتر الحقّين.وبحكم
الحاكم بنفي الحقّ، فإنّه موجب لسقوطه ظاهراً إذا كان القضاء مبنيّاً على القواعد والاصول.وبالإعراض عن الملك أو الحقّ، بناءً على القول بسقوطهما بمجرّد
الإعراض .
وبفقد متعلّق الحقّ وموضوعه، كتلف المال المنذور بعد وجوبه وقبل وقته المعيّن له، وتلف
الجاني بنفسه أو بعضوه الذي هو محلّ القصاص، وتلف الرهينة بأمر سماوي ومن غير تفريط؛ فإنّها توجب إمّا سقوط الحقّ من أصله كما في الأوّل؛
لامتناع الوفاء بالنذر المزبور، أو النقل إلى بدله فيما كان له بدل شرعاً.
وبطروّ مانع من استيفاء الحدّ كعروض الجنون بعد ثبوت الحدّ في بعض الحدود على بعض الأقوال.وفي حكم المسقط وجود ما يمنع من تحقّق الحقّ كالشبهة الدارئة للحد، وتملّك السارق للمال المسروق قبل ثبوت الحدّ.
وأمّا التكاليف من الأوامر والنواهي فهي تسقط
بالامتثال وتحصيل الغرض المطلوب، وبطروّ العناوين المعذّرة عقلًا أو شرعاً من عجز أو
عسر وحرج أو نسيان أو جهل معذور فيه الموجب لسقوط
التكليف واقعاً أو ظاهراً، بلا فرق بين سقوطه برأسه أو ببعض مراتبه أو شروطه وأجزائه على اختلاف الموارد.
كما يسقط بالعصيان الذي منه
إعدام موضوع التكليف الفعلي أو شرطه بما يوجب سقوط التكليف برأسه أو ببعض مراتبه أو ببعض شروطه وأجزائه الموجب
لاستحقاق العقوبة، فلا يجوز
ارتكابه إلّا في مواضع خاصّة قد دلّ عليها الدليل كجواز إجناب المسافر نفسه بالجماع بعد دخول الوقت مع علمه بفقد الماء.
وأمّا الحيلولة دون ثبوت التكليف بالمنع من تحقّق شرطه أو موضوعه-
كإهراق الماء قبل الوقت، وبذل المال قبل وصوله إلى حدّ
الاستطاعة ، أو إلى حدّ النصاب في متعلّق الزكاة والخمس فيما كان فيه نصابٌ، وبذل أرباح المكاسب وصرفها قبل تمام سنة الخمس، ونحوها- فإنّها جائزة على القاعدة إلّاإذا كان البذل خارجاً عن المتعارف بحسب حال الشخص، بحيث يعدّ فراراً من الخمس ونحوه، وتضييعاً للأحكام الإلهيّة، فلا يجوز حينئذٍ كما ثبت في محلّه.
وأمّا العقوبات فقد مرّ الكلام في حكم الدنيوية منها كالقصاص وبعض الحدود، وأمّا الاخرويّة فهي تسقط بالتوبة الكاملة بفضل اللَّه تعالى على العباد؛ إذ وعدهم بقبول التوبة عنهم، وهو لا يخلف الميعاد.
وكذا بإجراء الحدود في الدنيا، بناءً على ما ورد من أنّ اللَّه تعالى أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرّتين.
كما أنّه تعالى قد يعفو عن العبد بشفاعة الشافعين ودعاء المؤمنين، بل
ابتداءً منه تعالى من دون سبق شيء ممّا ذكر، كما فعل ذلك في الدنيا؛ إذ قال:«وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ»،
ولكن ليس ذلك ممّا وعد اللَّه به حتى يجب عليه الوفاء بمقتضى الآية، كما لا يخفى.
إنّ الإسقاط بما أنّه إنشاء- كالإبراء والفسخ- يحتاج إلى ما يبرزه ويدلّ عليه دلالة واضحة، من قول أو فعل أو ما يجري مجراهما في بعض الأحيان من
الإشارة والكتابة والسكوت، فتصرّف البائع في
الثمن والمشتري في المثمن- مثلًا- مسقط للخيار،
كما دلّت عليه روايات
متعدّدة،
كصحيحة علي ابن رئاب عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «... فإن أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل الثلاثة الأيّام فذلك رضاً منه، فلا شرط»، قيل له: وما
الحدث ؟ قال: «إن لامس أو قبّل أو نظر منها إلى ما كان يحرم عليه قبل الشراء...».
قابليّة إسقاط شيء- كالحقّ- للتبعيض وعدمه تابعة لقابليّة محلّه للتبعيض وعدمه، فإن كان المحلّ قابلًا له بحسب الأدلّة فكذلك الإسقاط المتعلّق به يكون قابلًا له.
نعم، يجوز تبعيضه بحسب الزمان كما إذا أسقط خيار الحيوان بالنسبة ليوم أو يومين منه، ولا يلزم منه محذور بعد كونه حقّاً قابلًا للإسقاط ولو بالنسبة لبعضه بحسب الزمان؛ لإطلاق الأدلّة كما صرّح به بعضهم.
ولا بأس بذكر بعض الأمثلة للمقام:فمن أمثلة ما يقبل
التبعيض في إسقاطه الديون المتعلّقة بالذمم، فإنّها قابلة له بلا شكّ، فإنّ الدائن مخيّر بين إسقاط بعضها أو كلّها، بعوض أو بدونه، إلّاأنّه لابدّ من رضا المديون لو كان بعوضٍ، كما إذا أسقط بعض الدين عوضاً عن الأجل حتى صارت معجّلة.
ومن أمثلته أيضاً حقّ الخيار؛
لأنّه تعلّق بتمام ما وقع عليه العقد، لا كلّ جزء منه، فحينئذٍ لو تجزّأ تبعّضت الصفقة، كما لو رأى بعض
المبيع ووُصِف له الباقي ثمّ تبيّن خلافه، أو كان المبيع متعدّداً فظهر بعضه معيباً، حيث ذهب
المشهور إلى ثبوت الخيار في المجموع، لا القدر الموصوف والمعيب؛
لاستلزامه تبعّض الصفقة.
خلافاً للسيد الخوئي الذي اختار تعلّق الخيار بخصوص المعيب فله فسخ العقد فيه، ويثبت خيار تبعّض الصفقة له.
ومن أمثلته أيضاً حقّ القصاص، فإنّه إن كان في النفس فلا شكّ في أنّه لا يقبل التجزّؤ؛ لأنّ محلّ الحقّ فيه نفس الجاني، وهي شيء واحد يذهب بإزهاقها، ولا يعقل إزهاق بعضها دون بعض، وإن كان في الطرف فإنّه وإن أمكن تصوّر التبعيض فيه إلّاأنّ المسلّم من كلمات الفقهاء أنّهم عاملوه معاملة الحقّ الواحد.
لا طريق في الشريعة للتخلّص من عهدة التكاليف والحقوق بعد ثبوتها إلّابأدائها؛ إذ يجب بحكم العقل تحصيل الفراغ وبراءة الذمّة منها، بلا فرق بين حقوق اللَّه تعالى وحقوق الناس.
وما ورد من جواز ترك تحصيل الواقع في بعض المواطن حتى مع إمكانه، مثل الأمر بإهراق الماءين المشتبهين بعد دخول الوقت
والانتقال إلى
التيمّم من دون حاجة إلى
الاحتياط .وذلك بتحصيل الطهارة المائية بالتوضّؤ من أحدهما والصلاة بعده، ثمّ التطهّر من الآخر والتوضّؤ منه، ثمّ الصلاة.
وكذا جواز جماع المسافر مع علمه بفقد الماء
للغسل ، فإنّما هو من باب
الاكتفاء بالبدل في مقام
الامتثال ، وليس من إسقاط التكليف، فضلًا عن
الاحتيال فيه كما لا يخفى.
كما أنّ ما قد يفعله المكلّف ممّا يوجب المنع من تحقّق موضوع التكليف أو شرطه قبل فعليّته- كبيع المستطيع ماله قبل أوان
الحج مؤجّلًا، وإهراق الماء قبل دخول وقت
الصلاة ، بل السفر قبل الظهر في أيّام شهر
رمضان اختياراً ، وأخذ الزيادة في بيع المتجانسين باشتراطها في معاملة اخرى ونحوه- ليس من الاحتيال في إسقاط الحكم بعد ثبوته، بل من الحيلولة دون تحقّق موضوعه، وهذا جائز على القاعدة. نعم، في بعض المقامات قد يستظهر من أدلّتها أنّ الشارع طالب لتحقّق أمر على كلّ حال بحيث لا يرضى بالمنع من تحقّق موضوعها بنفسه، أو يستظهر عدم رضايته بتحقّق شيء على كلّ حال- كما قد يدّعى ذلك في أدلّة تحريم الربا- إلّاأنّ ذلك كلّه أمر خارج عن القاعدة كما لا يخفى.
والتعبير عنه أحياناً بالاحتيال- كما في باب
الربا - إنّما هو
لاشتماله على ظرافة وعلم بحدود الأحكام وموضوعاتها موجب لنيل المقصود من دون ارتكاب محرّم، لا أنّ الحكم يسقط به بعد تحقّقه وفعليّته.
يحرم إسقاط
الجنين مطلقاً- سواء كان قبل ولوج
الروح فيه أو بعده- إلّاإذا كان
بقاؤه حرجيّاً ومضرّاً
بالأم ضرراً معتدّاً به، فيجوز لها حينئذٍ إسقاطه قبل ولوج الروح فيه، وأمّا بعده فالمشهور عدم جوازه مهما بلغ الضرر؛ لحرمة قتل النفس المحترمة، وعدم شمول أدلّة حفظ النفس لما استلزم إضراراً بالغير.
نعم، صرّح السيد الخوئي بجواز إسقاط الجنين إذا توقّفت حياة الامّ عليه.
قد تقوم الدولة بإسقاط النقود عن
الاعتبار ، وقد لا تسقطها وإنّما يعرضها التضخّم فتقلّ قيمتها بسبب ذلك.
وفي الصورتين إمّا أن يكون الساقط من النقود الحقيقية التي لمادّتها قيمة على كلّ حال، كالدراهم والدنانير، وإمّا أن يكون غير ذلك كالأوراق التي ليس لذاتها قيمة، وإنّما الماليّة لاعتبارها وضربها المسمّاة بالنقود الاعتباريّة.
أمّا النقود الحقيقية فقد وردت فيها أخبار، كخبر صفوان، قال: سأله معاوية ابن سعيد عن رجلٍ استقرض دراهم من رجل، وسقطت تلك الدراهم أو تغيّرت، ولا يباع بها شيء، ألصاحب الدراهم الدراهم الاولى أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال: «لصاحب الدراهم الدراهم الاولى».
وخبر يونس ، قال: كتبت إلى الرضا عليه السلام أنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيّام، وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إليّ: «لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس».
وخبر آخر عنه أيضاً، قال: كتبت إلى
أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه كان لي على رجل دراهم، وأنّ السلطان أسقط تلك الدراهم، وجاءت دراهم أعلى من الدراهم الاولى، ولها اليوم وضيعة، فأيّ شيء لي عليه، الاولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب:«لك الدراهم الاولى».
ورواه
الصدوق بإسناده عن يونس نحوه، ثمّ قال: «كان شيخنا محمّد بن الحسن (الصفار)رضى الله عنه يروي حديثاً في أنّ له الدراهم التي تجوز بين الناس».
وقد حكم
الشيخ في
النهاية بالتخيير بين الدراهم الاولى أو
سعرها بقيمة الوقت، بينما حكم
العلّامة في
التذكرة بمقتضى الخبر الأوّل والثالث، وزاد
الاستدلال له بأنّها من ذوات الأمثال فكانت مضمونة بالمثل.
وحكم الصدوق في
المقنع بمقتضى الخبر الثاني.
وجمع في الفقيه بين الأخيرين بأنّه «متى كان للرجل على الرجل دراهم بنقد معروف فليس له إلّا ذلك النقد، ومتى كان له على الرجل دراهم بوزنٍ معلوم بغير نقد معروف فإنّما له الدراهم التي تجوز بين الناس».
وذكر بعضهم وجوهاً اخرى.
وأمّا النقود الورقيّة الاعتبارية فيجب أداء قيمتها بعد الإسقاط أو السقوط عن الاعتبار؛ لأنّها كالتالف فيجب أداء قيمتها يوم القرض أو يوم التلف وهو يوم الإسقاط هنا.
قال السيد الخوئي: «إذا اقترض الأوراق النقدية المسمّاة ب (اسكناس)، ثمّ اسقطت عن الاعتبار، لم تسقط ذمّة المقترض بأدائها، بل عليه أداء قيمتها قبل زمن الإسقاط».
هذا كلّه في سقوط أو إسقاط النقد عن
الاعتبار رأساً. وأمّا نقصان القيمة ففيه بحث من حيث ضمان النقص وعدمه يطلب من محلّه.
وهو أن يسقط
البائع وزن ظرف المبيع- كالسمن ونحوه- بالتخمين المعتاد بين التجّار المحتمل للزيادة والنقصان، ويعبّر عنه في اصطلاح الفقهاء
بالإندار ، وهو ممّا لا خلاف في جوازه
إجمالًا ، بل ادّعي عليه الإجماع.
الموسوعة الفقهية، ج۱۲، ص۴۷۹-۴۹۱.