أهل الخبرة (الرجوع إليهم في الأحكام)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
أهل الخبرة (توضيح).
تعرّض
الفقهاء للرجوع إلى
أهل الخبرة في الأحكام في جملة من المواضع أبرزها
إجمالًا ما يلي:
المثال المعروف للرجوع إلى أهل الخبرة في
الأحكام هو رجوع
العوام و
الجاهلين بالشريعة إلى
العارفين بها؛ لأنّهم من أهل الخبرة و
الاطّلاع في ذلك، وقد عدّ ذلك أحد الأدلّة
المعتمدة في باب
التقليد . ويمكن أن يستند في ذلك إلى قوله تعالى: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ».
قال في بيان
المستند الذي يرجع إليه
العامي في تقليده: «الذي يمكن أن يعتمد عليه العامي في حجّية فتوى
المجتهد في حقّه أمران، أحدهما:
الارتكاز الثابت ببناء العقلاء، حيث جرى بناؤهم في كلّ
حرفةٍ و
صنعة ، بل في كلّ أمرٍ راجع إلى
المعاش و
المعاد على رجوع
الجاهل إلى
العالم ؛ لأنّه أهل الخبرة والاطّلاع، ولم يرد من هذه
السيرة ردع في
الشريعة المقدّسة. وهذه السيرة و
البناء وإن جاز أن لا يلتفت إليهما العامي مفصّلًا إلّاأنّهما مرتكزان في ذهنه، بحيث يلتفت إليهما ويعلم بهما تفصيلًا بأدنى
إشارة و
تنبيه ».
و
المقصود بأهل الخبرة في مجال الأحكام أن يكون
المرجوع إليه مجتهداً؛ لعدم
صدق العالم على غيره حتى يتحقّق
عنوان رجوع الجاهل إلى العالم، وعدم صدق
التفقّه كذلك، بل قد شرط العديد من الفقهاء
الأعلمية في المرجوع إليه في الأحكام، فلا يكفي الرجوع إلى مطلق
مجتهد على تفاصيل تراجع في محلّها.
تطرّق الاصوليّون للبحث عن حجّية قول
اللغوي في مباحث حجّية
الظن من
الاصول ، وهناك تطرّقوا إليها من ناحيتين:
في
أصل حجّية قول اللغوي وعدمها، وقد اختلفوا في ذلك على قولين:
حجّية قول اللغوي بخصوصه،
وهو
المنسوب إلى المشهور، بل نسب إلى
السيّد المرتضى أنّه ادّعى
الإجماع عليها. (ولكن لم نعثر عليه في كلمات السيّد المرتضى.)
عدم حجّية قول اللغوي،
وهو
المشهور لدى علمائنا المتأخّرين.
لو سلّمنا وقلنا بحجّية قول اللغوي، فهل هو من باب أنّه من أهل
الفنّ ، أو من باب
الشهادة و
الإخبار ؟ وهي أيضاً خلافية. وتظهر
الثمرة في
اعتبار شرائط الشهادة وعدم اعتبارها، فإنّه بناءً على
القول بحجّيته من باب أهل الخبرة لا يشترط فيه إلّاإحراز خبرويته ووثاقته في الكلام.
وهذا بخلاف حجّيته من باب الشهادة فإنّه يعتبر فيها
التعدّد و
العدالة .
قد تطرّق إلى
إبراز حجّيته من باب الخبروية جماعة من العلماء، منهم:
المحقّق السبزواري ، حيث قال: «صحّة
المراجعة إلى
أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم في ما اختصّ بصناعتهم ممّا اتّفق عليه
العقلاء في كلّ عصر وزمان».
قال
السيّد محمّد تقي الحكيم : «والظاهر أنّ
المنشأ في حجّية أقوالهم هو
البناء العقلائي في رجوع
الجاهل إلى
العالم الممضي من قبل الشارع قطعاً، وربما اعتبره بعضهم من الأحكام العقلية التي تطابق عليها العقلاء بما فيهم
الشارع المقدّس . نعم، يعتبر في هؤلاء أن يكونوا خبراء في فنّهم، وأن يكونوا موثوقين في
أداء ما ينتهون إليه؛ لأنّه
المتيقّن من ذلك
البناء أو الحكم العقلي،
فالتشكيك إذاً في حجّية أقوال اللغويين أو غيرهم من أهل الفنّ في غير موضعه».
ولكن رغم ذلك رفض كثير من
العلماء كون الرجوع إلى اللغوي من باب خبرويته الفنّية؛ لأنّ الرجوع إلى الخبرة إنّما يكون في الامور
الحدسية التي تكون بحاجة إلى
إعمال النظر و
الرأي ، لا في الامور الحسّية التي لا دخل للنظر والرأي فيها، و
تعيين معاني
الألفاظ من قبيل الامور الحسّية؛ لأنّ اللغوي ينقلها على ما وجده في
الاستعمالات والمحاورات، وليس له إعمال نظر ورأي فيها، فيكون
إخبار اللغوي داخلًا في الشهادة المعتبر فيها العدالة والتعدّد.
فتكون
حجّية قوله متوقّفة على توفّر شرائط
الشهادة فيه، فإذا توفّرت فيه فيكون حينئذٍ داخلًا في كبرى حجّية قول
الشاهد .
وهذا ما حاول جملة من الفقهاء من
تطبيق كبرى باب الشهادة على قول اللغوي، من جملتهم
الشيخ الأنصاري ، حيث قال ردّاً على
المحقّق السبزواري : «المتيقّن من هذا
الاتّفاق هو الرجوع إليهم مع
اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة ونحو ذلك، لا مطلقاً، ألا ترى أنّ أكثر علمائنا على اعتبار العدالة فيمن يرجع إليه من أهل الرجال، بل وبعضهم على اعتبار التعدّد، والظاهر اتّفاقهم على
اشتراط التعدّد والعدالة في أهل الخبرة في مسألة
التقويم وغيرها».
هذا، ولكنّ
السيّد الصدر رغم أنّه يرى حجّية قول اللغوي من باب الشهادة عن حسّ لموارد الاستعمالات، إلّاأنّه لا يعتبر فيه العدالة ولا التعدّد، بل أبدى كفاية كونه
ثقة ».
ولعلّه تبعاً لما تبنّاه استاذه
السيّد الخوئي في
الفقه من حجّية خبر الثقة في الموضوعات أيضاً كما في
الأحكام .
لا
إشكال أنّ دور علم الرجال في
استنباط الأحكام الشرعيّة دور أساسي لا يمكن
إنكاره ، خصوصاً بعد أن لم تكن
الأخبار التي هي مصدر جزئيّات الأحكام والشرائع قطعية الصدور، بل هي بحاجة
لإثبات صدورها إلى
القرائن والشواهد المتراكمة كي يحصل
الاطمئنان بصدورها عن
المعصوم عليه السلام، أو تقوم حجّة شرعية بها تستند إلى المعصوم عليه السلام، وإلّا يكون القول بمضمونها من دون
إحراز صدورها من
الافتراء المحرّم. ودور علم الرجال هو
تنقيح و
تمحيص حال الرواة من حيث
الوثاقة وعدمها ليتم بذلك صحّة
استناد الرواية إلى المعصوم أو عدم صحّة استنادها.
وإنّما الإشكال في أنّ الرجوع إلى علم الرجال من باب أنّ
الرجالي من ذوي الفنون ليكون الرجوع إليه من باب
تطبيق كبرى حجّية قول كلّ ذي فن في فنّهم من باب
بناء العقلاء أو حكم العقل.
أو أنّه من باب الشهادة والبيّنة، فلابدّ من توفّر شرائط حجّية الشهادة فيه من التعدّد والعدالة، أو من باب حجّية خبر الثقة، فلابدّ من تطبيق كبرى حجّية خبر الثقة عليه. ويبدو من تتبّع كتب
الرجال أنّه
مختلف فيه على أقوال:
أنّه من باب الرجوع إلى أهل الخبرة في فنّهم، وأنّ الرجالي يعتبر من ذوي
الفنون في
معرفة أحوال الرجال.
وهذا القول
منسوب إلى
المحقّق المامقاني ، وقد نقل عنه أنّه قال: بأنّه «نوع تثبّت وتبيّن مورث للاطمئنان الذي هو
المدار والمرجع في
تحصيل الأحكام الشرعية من باب بناء العقلاء على
الاعتماد عليه... وحيث إنّه قد أخذ في الخبر
الابتناء على الحسّ المحض، و
إخبارات أهل الرجال إخبار بأمر غير حسّي؛ ضرورة عدم تعقّل محسوسية
العدالة ، تعيّن كون قبول إخباراتهم من باب
الأخذ لقول أهل الخبرة المأخوذ في
اعتباره الوثوق ، ولا يضرّ عدم قائل به بعد قضاء
الدليل به».
ونوقش بأنّ الرجالي لا يصدق عليه أهل الخبرة؛ لأنّ
الخبرة إنّما هي في الامور النظرية التي تكون بحاجة إلى نوع من
الممارسة وإعمال
الفكر و
التوثيق و
التعديل ، وليست من الامور النظرية، وإنّما هي من الامور الحسّية التي يعرفها كلّ أحد بالممارسة المباشرة مع المعدّل والموثّق، أو بالإخبار عمّن هو عاصره مباشرةً، فإذاً لا ينطبق على الرجالي أنّه من أهل الخبرة بالمعنى المصطلح لدى أهل الفنّ. وما ذكر من أنّ العدالة ليست من الامور الحسّية فتكون داخلة في الامور الحدسية، وحينئذٍ يكون الإخبار عنها بحاجة إلى نوع من إعمال النظر، فقد نوقش فيه:
أوّلًا: بأنّ العدالة غير معتبرة في المعدّل ليعتبر
الإخبار عنها في
علم الرجال .
وثانياً: بأنّها وإن كانت في نفسها من الامور الحدسية غير أنّ مبادئها وطرق إثباتها- كما ذكر في
ال فقه- امور حسّية والتي تنتهي إلى أنّ العدالة أيضاً من الامور الحسّية باعتبار كون مبادئها حسّية.
أنّه من باب
الشهادة ، وحينئذٍ يعتبر فيه ما يعتبر في الشهادة من التعدّد والعدالة، وهذا ما اختاره صاحب
المعالم ،
ونسب إلى الشهيد الثاني وصاحب المدارك.
قال: «وفي
الاكتفاء بتزكية الواحد العدل في
الرواية قول
مشهور لنا ولمخالفينا، كما يكتفى به- أي بالواحد- في
أصل الرواية. وهذه التزكية فرع الرواية، فكلّما لا يعتبر العدد في
الأصل فكذا في
الفرع ».
ونوقش فيه بأنّ اعتبار قول الرجالي في هذا الباب ضعيف جدّاً؛ لعدم وجود شرائط
الشهود في المعدِّلين، ولو قيل باعتبارها فيهم لبطل أكثر علم الرجال.
أنّه من باب
الفتوى والظنون
الاجتهادية المعتبرة بعد
انسداد باب العلم. ونسب هذا القول إلى
المحقّق الأصفهاني ، ولكن عبارته لا تنسجم مع هذه النسبة، حيث قال: «
المختار عندي جواز
التعويل في
تعديل الراوي أو
إثبات تحرّزه عن
الكذب على قول
العدل الواحد، بل على مطلق الظن، سواء استند إلى تزكية
العدل أو إلى سائر الأمارات الاجتهادية. لنا: أنّه قد ثبت... أنّ التعويل في أخبار الآحاد على الأخبار
الموثوق بصدقها وصحّة صدورها، ولا ريب أنّ الظن بعدالة الراوي وتحرّزه عن الكذب ممّا يفيد الوثوق بصدق الرواية، فيجب التعويل عليه».
وكيف كان، فقد نوقش بعدم
انطباق شرائط الفتوى على قول الرجالي، والتي منها لزوم حياة
المفتي في جواز
التقليد كما عن
المشهور ، ولزوم الاجتهاد المطلق فيه، وكلّ منهما لا ينطبق على الرجالي؛ لأنّ قول الرجالي حجّة عند من يقول بها وإن لم يكن حيّاً ولم يكن مجتهداً بالمفهوم الذي اصطلح عليه في الاجتهاد والتقليد.
أنّ حجّية قول الرجالي من باب حجّية خبر الواحد، فمن باب انطباق كبرى حجّية الخبر الواحد عليه يكون حجّة. وهو ما نسب إلى المشهور.
وهذه
النسبة تنافي ما هو المشهور عنهم من عدم حجّية خبر الواحد
العدل فضلًا عن
الثقة في الموضوعات الشرعية.
وكيف كان، يبدو هذا القول من
السيّد الخوئي الاعتماد عليه، حيث ذكر أنّ
استنباط الأحكام في الغالب لا يكون إلّا من الروايات المأثورة عن
أهل بيت العصمة عليهم السلام و
الاستدلال بها يتوقّف على إثبات أمرين:
الأوّل: إثبات حجّية
خبر الواحد .
الثاني: إثبات حجّية ظواهر الروايات
بالإضافة إلينا.
وقد حقّقناهما في علم
الاصول ، إلى أن يقول: «ولكن ذكرنا أنّ كلّ خبر عن
معصوم لا يكون حجّة، وإنّما الحجّة هو
خصوص خبر الثقة أو
الحسن ، ومن الظاهر أنّ
تشخيص ذلك لا يكون إلّا بمراجعة علم الرجال و
معرفة أحوالهم، و
تمييز الثقة والحسن عن
الضعيف ».
فإنّ
إطلاق عبارته
مشعر بأنّ حجّية قول الرجالي من باب
تطبيق كبرى حجّية خبر الثقة عليه. ويتأيّد ذلك بمختار بعض تلامذته حيث ذكر أنّه لا شكّ في بناء العقلاء على قبول خبر الثقة في أحكامهم الكلّية العرفية والموضوعات الخارجية وفي جميع اموراتهم حتى
الخطيرة ، والشارع المقدّس لم يردع عنه، فيكون عنده ممضياً معتبراً، بل وردت الأخبار المعتبرة بحجّيته في الأحكام الشرعية، وكذا في بعض الموضوعات الخارجية للأحكام الجزئية.(
الوكالة ثابتة حتى يبلغه
العزل عن الوكالة بثقة)
فعلى هذا إذا كان الرجالي ثقة- أي
صادقاً مأموناً- وجب قبول قوله في
الجرح والتعديل.
يذكر أنّ
نتيجة هذا
المبنى أن يكون
إخبار الرجالي حجّة حتى لأهل الخبرة؛ لأنّ خبر الثقة حجّة لكلّ أحد، بخلاف القول بأنّه من جهة الخبرة، فإنّه قد لا يكون حجّة لخبير آخر مثله. وهناك إشكال على من يرى حجّية قول الرجالي من باب خبر الثقة، وهو أنّ خبر الثقة لابدّ وأن يكون عن حسّ، مع أنّ بعض من يشهد الرجالي-
كالنجاشي والشيخ- بوثاقته يفصلهم عن الرجال عشرات- بل مئات- السنين، فكيف يمكن أن تكون شهادته بحقّه عن حسّ؟
وجوابه أنّ الحسّ لا يقصد به
الحضور و
الإحساس الخارجي، بل يعمّ ما يكون واضحاً
مسلّماً أو
متواتراً ولو كان عن زمان سابق أو مكان بعيد، فإنّ مثل هذا الإخبار حسّي أيضاً، وكلّما احتملنا ذلك جرت
أصالة الحسّ.
الموسوعة الفقهية، ج۱۹، ص۴۹-۵۶.