الانتخاب
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو
الانتزاع و
الاختيار و
الانتقاء .
الانتخاب:
الاختيار و
الانتقاء ، انتخب
الشيء : اختاره، ومنه النُخبة- بالضم- وهم
الجماعة تختار من الرجال، فتنتزع منهم، و
النخبة المنتخبون من الناس.
واستعمله
الفقهاء في نفس
المعنى اللغوي، وغلب في
الفترة المتأخّرة
استعماله في أحد
مصاديقه، وهو الانتخاب في
المجال السياسي
والنقابي ونحو ذلك على ما سيأتي
توضيحه إن شاء
اللَّه .
وهو- لغةً-
مصدر اختار، معناه:
أخذ ما هو
خير .
و
اصطلاحاً :
القصد إلى أمر متردّد بين
الوجود و
العدم داخل في
قدرة الفاعل، بترجيح أحد
الجانبين على الآخر، فيرادف معنى الانتخاب.
وهي- لغةً-
المشيئة ،
يقال: أراد الشيء، إذا شاءه.
وقد تطلق
الإرادة بمعنى القصد والاختيار والانتخاب في
كلمات الفقهاء، فيقال:
الفعل الإرادي، أي الاختياري.
وهي- لغةً- يقال: شاورته في
الأمر ، واستشرته، أي راجعته لأرى رأيه فيه، واستشاره: طلب منه
المشورة ، وأشار عليه بالرأي، وأشار يشير، إذا ما وجّه
الرأي ، وأشار إليه باليد: أومأ.
و
الصلة بين
الشورى والانتخاب أنّ الشورى تكون عادةً قبل الانتخاب فيستشير
الإنسان لكي ينتخب خياراً من
الخيارات المطروحة أمامه.
وهو- لغةً-
العقل و
التدبير و
الاعتقاد ، ورجل ذو رأي، أي
بصيرة وحذق بالامور.
والصلة بين الرأي والانتخاب أنّ بينهما
عموماً وخصوصاً من وجه، فقد يكون انتخاب شيء عن عقل وبصيرة وقد لا يكون.
وهو الإرادة مع
الالتفات وتوجّه
النفس ،
والانتخاب يتضمّن ذلك أو يستلزمه عادةً.
عرّفت
القدرة بأنّها
التمكّن من الشيء أو
صفة تقتضي التمكّن،
وربما جعلت القوّة بمعناها،
لكنّ القدرة قد يراد بها
الذاتيّة، كما قد يراد بها الفعليّة. والصلة بين القدرة والانتخاب أنّ القدرة من مبادئ الانتخاب
فالعاجز لا يستطيع
اختيار أمرٍ كما لو كان
مجنوناً .
وهي- لغةً-
المبايعة و
الطاعة ، وقد تبايعوا على الأمر: كقولك أصفقوا عليه، وبايعه عليه مبايعة: عاهده، فهي
عبارة عن
المعاقدة و
المعاهدة ، كأنّ كلّ واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته و
دخيلة أمره.
وعرّفها بعض الفقهاء بأنّ
البيع و
البيعة مصدران لباع، و
حقيقتهم ا واحدة، فكما أنّ البيع
معاملة خاصّة تنتج
تبادل المالين فكذلك المبايع
للرئيس كأنّه ببيعته له يجعل ماله و
إمكاناته تحت تصرّفه، ويتعهّد هو في
قبال ذلك بالسعي في
إصلاح شؤونه و
تأمين مصالحه، فكأنّها نحو
تجارة بينهما.
وعلى هذا
الأساس فالذي ينسبق إلى
الذهن في ماهيّة البيعة أنّها
وسيلة لإنشاء التولية بعدما تحقّقت
المقاولة والرضا، فقد كانت القبائل إذا أحسّت
بالاحتياج إلى رئيس لحفظ نظامها و
الدفاع عنها في مقابل
الأجانب اجتمعت عند من تراه
أهلًا لذلك، فتقاولوا وذكروا الحاجات والشروط، وبعد حصول
التراضي كانوا ينشؤون ما تقاولوا عليه وتراضوا به بمصافقة الأيدي، وبالإنشاء كانت تثبت
الولاية ، كما في البيع طابق
النعل بالنعل.
وكما أنّ
المصافقة بالأيادي في البيع كانت إحدى
الطرق للإنشاء ولكنّها أحكم الطرق عندهم فكذلك في الولاية، فلذا كانوا يهتمّون بخصوص البيعة.
وأمّا الانتخاب فقد ذكر بعضهم أنّه
ترشيح عدّة أفراد
لمنصب ما و
قيام الامّة أو بعضها بانتخاب بعض الأفراد المرشّحة، فهو يفترض وجود عدّة أفراد مرشّحين وتقوم الامّة بتعيين بعضهم أو أحدهم على حسب المنصب
المراد إنشاؤه.
وبذلك يفترق الانتخاب عن البيعة، بأنّ الأخيرة لا يفرض فيها وجود مرشّحين، إنّما تتمّ البيعة إمّا بعد
ثبوت إمامة أو ولاية شخص ما لتكون مؤكّدة، وإمّا
لتجديد العهد على ولاية شخص، وإمّا
لتعيين شخص واحد بعد
تصدّيه أو
ادّعائه .
و
الصحيح أن يقال: إنّ الانتخاب تارةً يُفرض بمعناه
العام واخرى يفرض بمعناه
الخاص سياسياً ، فإن اخذ المعنى الأوّل كانت
النسبة هي العموم والخصوص من وجه فقد تكون بيعة بلا انتخاب، كما لو كانت
بالإكراه و
الإجبار ، وقد تكون مع انتخاب واختيار، وقد يكون هناك انتخاب بلا بيعة، كما لو انتخب الإنسان
عملًا له فهذا يصدق عليه الانتخاب بالمعنى اللغوي العام ولا يصدق عليه بيعة.
أمّا إذا اخذ المعنى الثاني، فحيث كانت روح البيعة عبارة عن
العهد على الطاعة فيما بويع عليه كان كلّ انتخابٍ بيعة، لكن ليست كلّ بيعةٍ انتخاباً
لإمكان البيعة مع إكراه، وأمّا أخذ قيد الترشّح المسبق من قبل
الراغبين في ذلك فليس قيداً في حقيقة الانتخاب، وإنّما مقدّمة عادية له.
نقصر
الكلام هنا على الانتخاب بمعناه السياسي
والاجتماعي؛ لأنّ الانتخاب بمعنى
مطلق الاختيار بما له من معاني و
استعمالات يراجع فيه مصطلح (اختيار) حيث جرى هناك التعرّض لموارده:
ونبحث هنا عن الانتخاب بالمعنى الخاص، وذلك أنّ الانتخابات بشكلها الحالي كانت واحدة من ظواهر
تطوّر الفكر السياسي في
العالم ، وقد نشأت هذه
النظرية من الاعتقاد بحقّ
الشعب في
تقرير مصيره، من هنا قدّمت
صيغة قانونية
لممارسة الشعب هذا الحقّ، وذلك عبر
تفويضه اتّخاذ القرارات المتعلّقة بالشأن العام إلى
مجموعة من الأشخاص توكل إليهم مهمة
رعاية المصالح العامة، فيصبحون بالانتخاب أصحاب حقّ في ممارسة
الولاية السياسية على الناس.
ولم يقف حدّ نظرية الانتخاب على المجال السياسي العام والذي يتمثّل بانتخاب
رئيس الجمهورية أو أعضاء
المجلس النيابي مثلًا، بل تعدّاه لتصبح فكرة الانتخاب مهيمنةً على مجمل العمل السياسي و
الاقتصادي والاجتماعي، فصارت الانتخابات تجري لانتخاب أعضاء
المجالس البلدية، واللجان الطلّابية في المدارس و
الجامعات ، والهيئات
المشرفة على عمل النقابات على
اختلافها ، بل داخل مؤسّسات
الدولة والمجتمع
المدني قد يتم
استخدام الانتخابات كانتخاب أعضاء هيئةٍ ما لرئيسهم أو غير ذلك.
وقد تعدّدت أساليب الانتخاب وأشكاله، كما غلب عليها
الطابع السرّي بحيث يحتفظ كلّ ناخبٍ بحقّه في
الإدلاء برأيه دون
إعلانه حمايةً لنفسه
وتجنيباً لها عن المخاطر
المحتملة؛ لهذا راج
الاقتراع السري، وظهرت صناديق الاقتراع تحقيقاً لذلك.
وأنواع الانتخاب متعدّدة:
منها: الأنواع التي تكون بلحاظ
المباشرة وعدمها، فقد يكون الانتخاب مباشراً كانتخاب
الشعب رئيس الجمهورية أو أعضاء المجلس النيابي، وقد يكون غير مباشر، كانتخاب أعضاء المجلس النيابي لرئيس الجمهورية كما في الأنظمة النيابية، فينتخب الشعب
النوّاب ثمّ ينتخب النوّاب
الرئيس .
ومنها: الأنواع التي تكون بلحاظ
إمكانية تبديل المنتخِب لأحد
الأسماء وعدمه، وذلك في الانتخابات التي تقوم على قائمة من المرشحين.
وهنا قد يكون بالإمكان للمقترع أن يشطب أحد الأسماء من القائمة، وهو نظام
التشطيب ، أو لا يسمح له
قانوناً بذلك بل يلزم باختيار القائمة أو
اللائحة بأكملها أو يستبدلها بلائحة اخرى، وهذا ما يسمّى
بالتجميد .
ويترتّب على دخول
نظام الانتخابات مجال العمل السياسي
حصول تحوّل- ولو نسبي- في
هوية النظام السياسي نفسه، فإذا كانت أعلى
السلطات في البلاد منتخبة من قبل الشعب وكذلك يكون
الدستور مصوّباً باختيار الشعب له عبر
استفتاء عام بحيث يكون الشعب هو الأوّل والآخر في النظام السياسي، كانت الدولة
ديمقراطية ليبرالية تتبع رأي الشعب في كل شيء.
أمّا إذا لم يكن للانتخابات أيّ دور
إطلاقاً في ممارسة السلطة السياسية كان الحكم ملكياً لو كان وفق نظام
الوراثة .
نعم، في بعض النظم
الملكية لا يمارس الملك سلطةً تذكر وإنّما يغلب عليه الطابع
التشريفي ، وهي
الملكية المشروطة أو المقيّدة، أو كان
عسكرياً كما لو جاء الحاكم إلى السلطة
بانقلاب عسكري دون
موافقة الشعب، وهكذا.
وبين هذه
النظم أشكال وسطى تسمح للانتخابات أن تأخذ دوراً بين
الإفراط و
التفريط .
من
الواضح أنّه لا دور للانتخابات والاستفتاءات الشعبية ونحوها في القوانين الشرعية المبيّنة في
الكتاب و
السنّة ، فإنّ
التشريعات الإلهية لا دخل ليد
البشر فيها، فسواء وافقوا عليها أم لم يوافقوا تظلّ على حالها لا تتغيّر ولا تتبدّل، فلا يصبح
الحرام حلالًا باستفتاء شعبي، ولا
الواجب مباحاً كذلك؛ لأنّ المشرّع الحقيقي هو اللَّه تعالى، قال سبحانه: «وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا مُّبِيناً ».
ولا يعارضه قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»؛
لظهوره في غير ما تدخل به الشرع، فتكون
الآية الاولى مقيّدةً- على
تقدير إطلاق الثانية- لإطلاقها.
أمّا في غير هذه
الدائرة فلا يحظر الشرع ممارسة
اسلوب الانتخاب بالتوافق
انطلاقاً من المصالح العامة و
الموازين الشرعية، فللعمّال أن يتواضعوا فيما بينهم على انتخاب رئيس لهم يتّفقون معه ما دام هذا
الأمر لا يختلف مع أيّ
حكم شرعي إلهي، وإنّما هو تدبير
إداري وزمني يخضع لنظام
المصلحة ؛
استناداً في ذلك كلّه إلى عمومات
الوفاء بالعقود
وأصالة البراءة .
وانطلاقاً من ذلك يمكن فتح مجال نظام الانتخابات
بشرطين اثنين:
الأوّل: أن لا يؤدّي ذلك إلى
مخالفة نصّ شرعي، وبهذا تمتاز
الدولة الإسلامية عن
الدولة الديمقراطية الليبرالية التي تعتقد أنّه لا يوجد نصّ فوق رأي الشعب.
الثاني: وهو يرجع في
روحه إلى الأوّل، ومحصّله أن لا يكون الانتخاب
مؤدّياً إلى
تسلّم شخص مسؤوليةً ما ورد في الشرع عدم حقّه في
استلامها، أو يؤدّي إلى سلب
صاحب الحقّ حقّه
الثابت له في
الشريعة ، فلو نصّت الشريعة على أن يكون حاكم
المسلمين - مثلًا- فقيهاً عادلًا، بحيث لا يحقّ لغيره
تسنّم هذا المنصب، فإنّ انتخاب الناس لغيره لا يصيّره الحاكم الشرعي للمسلمين، ما لم يمضه الحاكم الشرعي الحقّ. نعم، قد يجوز
التعامل معه وفقاً للعناوين الثانوية.
وبهذا يكون
النظام الإسلامي جامعاً بين
الهوية الدينية والهوية الشعبية في الدائرة التي يحقّ للشعب فيها ذلك.
تعرّض الفقهاء
لحاكمية الحاكم وأنّها هل تكون بالنصّ أم بالانتخاب ورأي الشعب، وقد طرحت ثلاثة أقوال هي:
الأوّل: أنّ
السيادة والحاكميّة للَّهتعالى فقط، وبيده
التشريع والحكم «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»،
و
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً لم يكن له حقّ الحكم إلّابعد ما فوّض اللَّه إليه ذلك، ولم يكن يتبع في حكمه إلّاما كان يوحى إليه، و
الأئمّة أيضاً قد انتخبوا من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر اللَّه تعالى بلا
واسطة أو مع الواسطة، حتى أنّ الفقهاء في
عصر الغيبة أيضاً نصبوا من قبل أئمّتنا عليهم السلام لذلك، وإلّا لم يكن لهم حقّ الحكم.
وليس لانتخاب الناس
أثر في هذا المجال أصلًا، إلّافيما يرجع إلى
تشخيص من فيه شرائط
الولاية العامّة في عصر الغيبة، حيث إنّ نصب الأئمّة عليهم السلام لم يكن لأشخاص بالخصوص بل بنحو عامّ للفقهاء
الامناء على الشريعة بشروط معيّنة، فيمكن أن يكون للانتخاب
الدور التشخيصي لمن تتمثّل فيه تلك الشروط بنحو أولى وأجدر.
وهذا القول هو
المعروف من علماء
الإماميّة .
القول الثاني: أنّ
الامّة بنفسها هي صاحبة السيادة ومصدر السلطات،
وأهل الحلّ والعقد يمثّلون سلطة الامّة.
ويشهد لذلك-
مضافاً إلى سلطة الناس على أنفسهم
تكويناً - قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»
الظاهر في كون امور المسلمين لا تقع إلّابالشورى، و
تعيين الحاكم من أبرز مصاديق امور المسلمين الأساسية.
وما ورد من الأخبار الكثيرة
المتضافرة في بيعة الناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم و
الخلفاء والأئمّة، ممّا يظهر منه أنّهم مبدأ
السلطة والسيادة.
نعم، ليس للحكّام
التخلّف عمّا أمر اللَّه تعالى به في كلّ مورد.
وربما يكون مرجع ذلك إلى أنّ
الأولوية بالحكم شيء والحقّ في الممارسة الفعلية للحكم شيء آخر، فقد يكون
الإمام أولى بالحكم من غيره لكن ممارسة الحكم تكون مشروطةً بانتخاب الناس له و
تأييدها لسلطانه، وبه يمكن
الجمع بين النصوص.
القول الثالث: الجمع بين القولين بنحو الطوليّة، فإن كان الحاكم
منصوباً بالتعيين من قبل اللَّه تعالى- كما في النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والأئمّة الإثني عشر عليهم السلام عندنا- فهو المتعيّن للإمامة.
ولا تنعقد
الإمامة لغيره مع وجوده والتمكّن منه، ويجب على الامّة
اتّباعه واختياره ولو عصت فلا يضرّ ذلك بحقّه في الحكم.
أمّا إذا كان الحاكم غير معيّن للحكم بالنصّ من المولى سبحانه وتعالى كان للُامّة حقّ الانتخاب، ولكن لا مطلقاً بل لمن وجد الشرائط والمواصفات
المعتبرة .
وهذا قول آخر لبعض فقهاء الإمامية في عصر الغيبة، فالإمامة تنعقد أوّلًا وبالذات بالنصب، وبعده بانتخاب الامّة بمرحلة واحدة أو بمراحل، بأن ينتخب أهل كلّ
صقع و
ناحية بعض
أهل الخبرة، ثمّ يجتمع أهل الخبرة وينتخبون
الفقيه الواجد للشرائط والياً على المسلمين.
وتفصيل البحث في محلّه.
قد تكون
المشاركة في الانتخابات حراماً، كما لو كانت انتخاباً لمن لا يجوز
تولّيه الأمر، أو كان في انتخابه ضرر على
الإسلام والمسلمين، أو كان في
المشاركة ما يقوّي الأنظمة
الظالمة التي لا يجوز تقويتها، بأن تبدو أنظمةً عادلةً يؤيّدها الشعب، كلّ ذلك على مقتضى
القاعدة .
وقد تكون المشاركة في الانتخابات واجبةً، كما لو كان في ذلك تقويةً
للنظام الإسلامي بحيث يظهر أمام العالم
عادلًا مدعوماً من قبل الشعب، الأمر الذي يمنع
الأعداء الخارجيين من
استغلال عدم حضور الشعب
لتضعيفه .
وكذلك تجب المشاركة عندما يتوقّف عليها صعود الأكفّاء
المستحقّين لهذا
المنصب أو ذاك بحيث كان ينافسهم من ليس كذلك، فيكون في
صعوده ضررٌ أو خلاف
المصلحة اللازمة، وكذلك عندما يتوقّف فصل
النزاعات بين المسلمين على
الرجوع إلى رأي الشعب في اختيار
شخص أو أشخاص، فتجب المشاركة لرفع
الفتنة الداخلية. كلّ ذلك وفقاً للقواعد العامة أيضاً.
وقد تكون المشاركة فعلًا مباحاً غير واجب ولا حرام، وذلك عندما لا يكون هناك ما يوجب أحد هذين الحكمين، كما لو قام من به
الكفاية أو انعدمت
المبرّرات المتقدّمة وأمثالها.
وعلى
تقدير المشاركة يتعيّن انتخاب من يجوز شرعاً
إيصاله إلى هذا المنصب بأن يكون حاوياً للصفات المأخوذة في
الشرع لهذه المهمة
الموكلة إليه، ولا يجوز انتخاب غيره، وعلى تقدير
التساوي في الصفات
المعتبرة يكون
المقترع مخيّراً، وفقاً للقواعد في ذلك كلّه.
هذا كلّه في المشاركة بمعنى الانتخاب، أمّا المشاركة بمعنى
الترشّح للمنصب الذي يراد
إجراء الانتخابات له، فلا
دليل على حرمته في نفسه، بل يكون راجحاً بل واجب أحياناً عندما يتطلّب
الموقف الشرعي
الكون في هذا المنصب، كأن يكون فيه
دفاع عن مصالح المسلمين و
قضاء لحوائجهم، و
حيلولة دون نفوذ
الأجانب أو سنّ تشريعات منافية للقانون الإلهي وما شابه ذلك.
وأمّا المشاركة في الانتخابات بمعنى
الإشراف عليها و
مراقبة سير جريانها، كما تقوم به
المجالس الدستورية وأجهزة
وزارة الداخلية، فهو أمر واجب من باب الحيلولة دون
الكذب و
التزوير ، وداخل في عمومات نظم امور المسلمين.
من هنا يجب على المجالس الدستورية التي تشرف قانونياً على قبول الانتخابات والترشيح أن تأخذ بعين
الاعتبار تمام الشروط المأخوذة شرعاً في المرشّحين، ولا يجوز لها
إبعاد أحد بلا مبرّر شرعي، فإنّ ذلك يندرج في عمومات
حرمة سلب
المؤمن حقّه.
على تقدير شرعية الانتخاب وعدم وجود
محذور فيه تترتب بعض
الآثار ، وذلك أنّ الانتخاب يمكن أن يكون
عقداً بين المنتخِبين والمنتخَبين، يتّفق فيه
الطرفان على أن يتولّى المنتخَب مسؤولية
رعاية مصالح المنتخِبين، ويجب على الطرفين
الوفاء بالعقد؛ لعمومات الوفاء بالعقود مع شمولها للعهد
الابتدائي ، فعلى المنتخَب السعي
لتحقيق مصالح الناس
الموافقة للشرع، وعلى المنتخِبين
إطاعته فيما أولوه من سلطةٍ عليهم، و
إعانته و
النصيحة له، وهذا هو مفهوم البيعة التي لا يجوز نقضها في
الفقه الإسلامي .
نعم، إذا جُعل العقد المذكور بين الطرفين
مندرجاً في عنوان
الوكالة فقد يحكم بحقّ الشعب حينئذٍ في عزل
الوكيل في أيّ
لحظة حتى لو لم يتهاون في
الاتّفاق الموقع بينهما، إلّاأنّه لا يبعد تخريج
الإلزام في هذه
الوكالة بحيث لا تكون عقداً جائزاً على بعض المباني، وفقاً لتفصيلات تطرح في محلّها.
أمّا لو قلنا بأنّ الانتخاب من
العقود الجديدة أو الراجعة للبيعة والمشمولة مباشرةً للعمومات الملزمة بالوفاء بلا
حاجة إلى
إرجاعها إلى
عقد الوكالة كان الأمر أوضح.
وتتقيّد هذه الأحكام في
إطار المتّفق عليه بين الطرفين، فلو كان الانتخاب لمدّة زمنية محدودة، كما في
المجالس النيابية والبلدية والنقابية
ورئاسة الجمهورية ونحو ذلك، فإنّ الأحكام تترتّب في هذه المدّة، فلا يحقّ له ممارسة سلطته على
الناس بعدها، ولا يجب عليهم إطاعته، ما لم يكن هناك عنوان آخر ملزم بإطاعته، وإذا كان الانتخاب مشروطاً بالعمل بقانون
الشرع لزم التقيّد بهذا الشرط أيضاً من هذا الباب، وهكذا.
ويظلّ هناك بحث في
تخريج ترتيب آثار الانتخاب المتقدّمة على اولئك الذين لم ينتخبوا هذا
الشخص بل انتخبوا غيره، أو الذين لم يشاركوا في الانتخابات أساساً، وهذا ما يسمّى في
الفقه الدستوري و
الفلسفة السياسية بإلزام الأكثرية للأقلّية، وهنا يمكن ذكر بعض التخريجات:
أن يلتزم بوجود عقد
اجتماعي إجماعي عام على
القبول بنتائج الانتخابات، وهذا العقد هو الذي يلزم
الأقلية بالانصياع لرأي
الأكثرية ، ويفهم هذا الاتّفاق الضمني من
أصل المشاركة في نظام الانتخابات بما يحمله من آثار ولوازم معروفة، أو قد يصاغ
بتقييد رأي كلّ ناخب بأنّه يأخذ برأيه بشرط عدم مخالفته الأكثرية.
وهذه الصيغة جيدة إلّافي حقّ من لا يؤمن أساساً بنظام الانتخابات، فإنّ إلزامه بالنتائج مشكل بعد عدم
دخوله طرفاً في المتعاقدين.
أن يفرض أنّ الأقلية
الخاسرة قد تنازلت عن حقّها وأعرضت عنه بعد
فوز الأكثرية، و
بالإعراض عن الحقّ و
التنازل عنه يسقط، حيث يدّعى بأنّ هذا من الحقوق التي تسقط
بالإسقاط، و
فرضية الإعراض تغدو أوضح في الذين لم يشاركوا أساساً.
وهذا
الوجه جيّد لولا أنّ فيه
دعوى بلا
دليل ؛ فإنّه لا يحرز هذا الإعراض دائماً، فقد يكون
سكوت الأقلية لعجزها عن مواجهة الأكثرية، أو لتقديمها مصلحة السلم على مصلحة الفوضى الداخلية دون تنازل عن الحقّ، وقد تبدي
امتعاضها أيضاً، ومعه لا يحرز تحقّق الإعراض عن الحقّ في هذه الموارد.
أن نبطل
الشخصية الحقيقية
الفردية الناخبة ونلتزم بأنّ طرفي العقد هما المنتخَبون و
المجتمع بما هو مجتمع، فإذا حصلت الأكثرية على رأي ينسب للمجتمع بما هو مجتمع أنّه انتخب المرشّح الفلاني، ولا ينظر للأفراد في هذه الحال.
ويمتاز التخريج الثالث عن الأوّلين بأنّه يتجاوز بعض
الإشكالات، مثل بلوغ عدد كبير من المواطنين بعد وقوع الانتخابات، فهؤلاء في
الفترة الرئاسية أو النيابية المتقدّمة لا وجه لإلزامهم بالمنتخَبين؛ لفرض عدم مشاركتهم من
رأس لكن من دون إعراض أو تنازل، كما لم يشاركوا في العقد الاجتماعي العام بعد فرض عدم
أهليّتهم لذلك.
أن تلزم الأقلية بالعنوان الثانوي؛ إذ لو لم تلتزم بقرارات رئيس
البلاد أو المجلس النيابي أو من كان مثلهم يلزم
الهرج والمرج، فيجب
الالتزام شرعاً، وقد قلنا سابقاً بأنّ المجال الذي يتدخّل فيه الشرع لا يخضع لأذواق
البشر . ومثله ما لو ثبتت
ولاية شخص بالشرع أو بالإجماع العام، وكان من ضمن ولايته البتّ بولاية من تحته بعد انتخابهم، فإنّ
تصويبه ولاية من تحته يحقّق
الموضوع لإلزام شرعي بإطاعته في ذلك.
يعمد المرشّحون للانتخابات على
المستوى السياسي وغيره،
للقيام بدعايات انتخابية تسبق موعد
إجراء الانتخابات، ليروّجوا لأنفسهم.
و
الموقف الشرعي في
الدعاية الانتخابية هو
الجواز من حيث
العنوان الأولي، إلّاأنّه يجب أن لا تصاحب هذه الدعاية أيّ أعمال
محرّمة ، وهي عديدة هنا:
منها:
الكذب على الناس، فإنّه من
أعظم الكذب لأنّه يطال جمعاً كبيراً من الامّة، فلا يجوز الكذب عليهم في صفات المرشّح أو أعماله أو ميزاته؛ لعمومات
حرمة الكذب على الآخرين و
التغرير بهم.
ومنها:
الإسراف في
الإنفاق على الدعاية الانتخابية، فإذا بلغ الإنفاق حدّاً
مفرطاً يصدق عليه الإسراف حرم شرعاً؛ لحرمة الإسراف.
ومنها: تجريح
المؤمنين الآخرين المرشّحين للانتخابات بهدف
تسقيطهم للفوز في الانتخابات، فإنّه تشمله عناوين
الغيبة و
البهتان و
إشاعة الفاحشة وهتك الحرمات ونحوها؛ لهذا يجب أن تكون الدعاية الانتخابية نزيهة من هذه الناحية أيضاً.
الموسوعة الفقهية، ج۱۷، ص۳۶۷-۳۷۸.