وثانياً: بأنّ الملكية الشرعية و العرفية من الاعتبارات لا من المقولات الحقيقية حتى يجري فيها الاشتداد و الخروج من حدٍ إلى آخر، والاعتبارات لا اشتداد فيها.
كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم و مسجد الكوفة و السهلة وغيرها، فعن الإمام الصادق عليه السلام : «يا هارون بن خارجة ،كم بينك وبين مسجد الكوفة، يكون ميلًا؟» قلت: لا، قال عليه السلام: «أفتصلّي فيه الصلوات كلها؟» قلت: لا، فقال: «أمّا أنا لو كنت حاضراً بحضرته لرجوت أن لا تفوتني فيه صلاة، وتدري ما فضل ذلك الموضع ؟ ما من عبدصالح ولا نبيّ إلّاوقد صلّى في مسجدكم، حتى أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لما اسري به، قال له جبرئيل عليه السلام : أتدري أين أنت يا رسول اللَّه الساعة ؟ أنت مقابل مسجد كوفان، قال: فاستأذن لي ربّي عزوجلّ حتى آتيه فاصلّي فيه ركعتين، فاستأذن له، وأنّ ميمنته لروض من رياض الجنّة ، وأنّ وسطه لروضة من رياض الجنّة، وأنّ مؤخّره لروضة من رياض الجنّة، وأنّ الصلاة المكتوبة فيه لتعدل بألف صلاة...».
وكما الرجحان تشتدّ المرجوحية أيضاً في الحرمة أو الكراهة ، ومن ذلك:
أ- القتل في الأشهر الحرم :
تصبح حرمة القتل في الأشهر الحرم أشدّ قبحاً وأكثر مرجوحيةً، ويرشد إلى ذلك تغليظالعقوبة على هذا القتل، من خلال تغليظ صومالكفارة الذي يصبح شهرين متتابعين ولو تخلّلهما عيد، ومن خلال الدية أيضاً حيث تصبح في هذه الأشهر ديةً كاملة وثلث الدية أيضاً.
ب- الاستنجاء مع خاتم فيه اسماللّه :
يكره اصطحاب خاتم أو لبسه في اليد في الخلاء وفيه اسم اللَّه تعالى أو شيء من القرآن الكريم ،
قال المحقّق النجفي : «ولعلّ الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيّد يقضي بتخصيص الكراهة فيما زاد على السبعين، لكنّه مخالف لفتوى المشهور، بل ظاهر إجماعالغنية ، فيتعيّن الجمع الأوّل، إلّاأنّ الذي يظهر من كثير من الأصحاب أنّ ما زاد على السبع في مرتبة واحدة من الكراهة إلّامن حيث كثرة فعل المكروه ، لا أنّه كراهة مخصوصة».
د- وطءالمسافر زوجته نهار شهررمضان :
صرّح بعض الفقهاء باشتداد كراهة وطء النساء للمسافر الذي يجب عليه التقصير في نهار شهر رمضان، وليس بمحرّم؛ لسقوط الصوم عنه.
جمعاً بين رواية الحسين بن زيد عن الإمام الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام، قال: «نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الأكل على الجنابة ... ونهى أن يكثر الكلام عند المجامعة ، وقال: يكون منه خرسالولد »،
من الحكم باستحبابه مطلقاً في غير محلّه، لا سيما وفي بعض النصوص عن مسّالمحتضر ؛ معلّلًا بأنّه إنّما يزداد ضعفاً . هذا فيما إذا لم يوجب أذاه، وإلّا فلا يجوز؛ لتحريمإيذائه ، والاستحباب لا يصلح لمزاحمة الحرمة.
وذلك لما رواه محمّد بن منصور الصيقل عن أبيه، قال: شكوت إلى أبي عبد اللَّه عليه السلام وجداً وجدته على ابن لي هلك حتى خفت على عقلي، فقال عليه السلام: «إذا أصابك من هذا شيء فأفض من دموعك ، فإنّه يسكن عنك».
وتدلّ عليه النصوص الكثيرة، كصحيح ابن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول:
«الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان ويتصدّق كلّ واحد منهما في كلّ يوم بمدّ من طعام ، ولا قضاء عليهما...».
وصحيحه الآخر عنه عليه السلام أيضاً، قال:
سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان؛ لأنّهما لا يطيقان الصوم، وعليهما أن يتصدّق كلّ واحدٍ منهما في كلّ يوم يفطران بمدّ من طعام، وعليهما قضاء كلّ يوم أفطرتا فيه تقضيانه بعد».
اتّفق الفقهاء على أنّ مطلق الرضاع غير كافٍ في نشرالحرمة ، بل لابدّ من مقدارٍ معيّن قدّروه بثلاثة تقديرات، أحدها:
التقدير بالأثر: وهو ما أنبت به اللحم واشتدّ به العظم ،
واستدلّ له بموثّقحنان بن سدير ، قال: سئل أبو عبد اللَّه عليه السلام وأنا حاضر عنده عن جدي رضع من لبن خنزيرة حتى شبّ وكبر واشتدّ عظمه، ثمّ إنّ رجلًا استفحله في غنمه فخرج له نسل، فقال عليه السلام: «أمّا ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربنّه، وأمّا ما لم تعرفه فكله، فهو بمنزلة الجبن ، ولا تسأل عنه».
وموثّق بشر بن مسلمة عن أبي الحسن عليه السلام: في جدي رضع من خنزيرة ثمّ ضرب في الغنم، فقال عليه السلام: «هو بمنزلة الجبن، فما عرفت أنّه ضربه فلا تأكله، وما لم تعرفه فكله».
وبهذين الموثّقين يقيّد إطلاق خبر السكوني- المعارض لهما الآمربالاستبراء الظاهر في تحقّق الحلّ بعده مطلقاً- عن أمير المؤمنين عليه السلام: سئل عن حملٍ غذّي بلبن خنزيرة؟ فقال عليه السلام: «قيّدوه واعلفوه الكسب
فيحمل على صورة عدم الاشتداد؛ وذلك أنّ إطلاق خبر السكوني وإن كان ظاهراً في تحقّق الحلّ بالاستبراء مطلقاً، فيما إطلاق موثّق بشر بن مسلمة شامل لصورتي الاشتداد وعدمه. إلّاأنّهم ذكروا أنّ ضمّ عدم الخلاف، بل ودعوى الإجماع، وظهور كلمة (يرضع) الواردة في بعض الأخبار في التجدّد و الاستمرارالمقتضي للاشتداد، دفعهم إلى الحمل على التفصيل بين الاشتداد فيحرم مطلقاً، وعدمه فيحصل الاستبراء ويكون مؤثراً.
واستدلّ عليه بخبر أبي داود عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «مررت مع أبي عبد اللَّه عليه السلام بالمدينة في يوم بارد وإذا رجل يُضرب بالسياط ، فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «سبحان اللَّه! في مثل هذا الوقت يضرب؟»، قلت له: وللضرب حدّ؟ قال: «نعم، وإذا كان في البرد ضرب في حرّ النهار، وإذا كان في الحرّ، ضرب في برد النهار»،
بل المحكي منهما صريحاً- فضلًا عن الظاهر - مستفيض أو متواتر . وتدلّ عليه نصوص كثيرة، كخبر كليب الأسدي : سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الرجل يقتل في الشهر الحرام ما ديته؟ قال: «دية وثلث».