الإمكان (الفقهي)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو
القدرة علي
الفعل و
التيسّر في
الأمر.
الإمكان: مصدر أمكن، ومكّنته من
الشيء تمكيناً: جعلت له عليه
سلطاناً وقدرة. وأمكنني الأمر:
سهل وتيسّر .
واستعمله
الفقهاء و
الاصوليّون بمعناه اللغوي، أي
القدرة .
ومرادهم منها تارة القدرة العقلية، واخرى القدرة
الشرعية .
ومعنى القدرة العقلية: قدرة المكلّف
تكويناً على
إتيان الفعل المأمور به، ويقولون: إنّ
التكاليف مشروطة عقلًا بالقدرة؛ لقبح تكليف
الإنسان بغير المقدور.
ومعنى القدرة الشرعية: القدرة المأخوذة في لسان
الدليل شرطاً للوجوب،
والتي يعتبر فيها- كما ذكر
الميرزا النائيني -
التشخيص العرفي، بمعنى أن يقال عرفاً: إنّه قادر، فلو ذهب
العرف إلى عدم قدرته، فيما حكم
العقل بالقدرة بالمعنى المتقدّم لها
عقلًا كانت هذه القدرة شرعية،
فالحجّ - مثلًا- من شروطه
الاستطاعة ؛ لقوله تعالى: «وَلِلّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا »
والتي لا تعني مطلق القدرة عقلًا، وإنّما
شكل من أشكال القدرة من خلال أخذ امور معيّنة، كوجود الزاد والراحلة، وسلامة البدن، وأمن الطريق.
فهنا قد يكون قادراً من
الناحية العقلية ويمكنه
الإتيان بالفعل ولو لم يكن
مستطيعاً كأن يذهب
مشياً في
مشقّة كبيرة، لكنه غير قادر شرعاً. وتفصيل
الكلام في هذه الموارد وغيرها يأتي في مصطلح قدرة.
كما استعمل الفقهاء والاصوليّون الإمكان بمعناه الاصطلاحي عند
الفلاسفة و
الحكماء ، وهو على أقسام:
وهو ما لا يوجد في ذاته
اقتضاء ضرورة
الوجود ولا اقتضاء
ضرورة العدم.
وهو سلب الضرورة عن
الجانب المخالف، سواء كان الجانب
الموافق ضرورياً أم غير ضروري، فيقال:الشيء الفلاني ممكن، أي ليس
بممتنع .
وهو كون الشيء بحيث لا يلزم من فرض
وقوعه محال، أي ليس ممتنعاً بالذات أو
الغير .
إضافة إلى موارد اخرى يشار إليها في شرح قاعدة الإمكان.وهذه الأبحاث كلّها و
الاستخدامات الفقهية والاصولية تبحث في مكانها؛ لعدم إمكان حصرها بعد كثرة تداول هذا
التعبير في كلماتهم. وإنّما نتعرّض هنا لما تعرّض له الفقهاء تحت عنوان قاعدة الإمكان، وذلك في عدّة مواضع، أهمّها في مبحث
الحيض من كتاب
الطهارة ، وفي مبحث
الحكم الظاهري و
الحجج الشرعية، وكذلك في الجمع بين الدليلين المتعارضين في
علم الاصول .
ذكروا من جملة
القواعد الفقهية ما سمّوه بقاعدة الإمكان، وهي قولهم: «كلّ دم يمكن أن يكون حيضاً فهو حيض».
والحديث حول هذه
القاعدة يمكن
إجماله كالتالي:
الحيض الوارد في القاعدة هو
الدم السائل الذي يقذفه رحم
المرأة المتّصف بصفات معروفة معيّنة، وله
شروط وقيود خاصّة تبحث في محلّها.
أمّا الإمكان فيقصد به الإمكان
القياسي ، بمعنى أنّ الدم المشكوك بالقياس إلى الشروط
المعتبرة في كون الدم حيضاً عند الشارع، يمكن أن يكون حيضاً.
وقد يعبّر عنه بالإمكان الشرعي
أيضاً؛ ولعلّه هو الظاهر ممّن عبّر عنه بالإمكان الوقوعي قاصداً ما لا يترتّب على وقوعه و
ثبوته محذور عقلي وشرعي.
فيكون مفاد
الجملة بناءً على هذا
المعنى : كلّ دم لا يلزم من كونه حيضاً محذور عقلي ولا شرعي في عالم
الإثبات ، فهو عند الشارع محكوم بالحيضيّة.
وذكر بعضهم أنّ المراد هو
الاحتمال بحسب الأدلّة الشرعية، ففي مورد الشكّ في شرطٍ أو قيد في
الشبهة الحكمية، وكذلك في احتمال وجود مانع- كالحمل مثلًا- في
الشبهة الموضوعية يحتمل أن يكون الدم حيضاً، فيحكم بحيضيّته بقاعدة الإمكان.
استدلّ لهذه القاعدة- بعد
الإجماع المحتمل
المدركية - بأدلّة أهمّها:
الأصل ، وقرّب بعدّة تقريبات:
أ- بمعنى
الغلبة ، أي أنّ الغالب في الدم أن يكون حيضاً.
ب- بمعنى الظاهر، أي أنّ
الظاهر من الدم
الخارج منها هو
الحيض .
ج- بمعنى
أصالة الصحّة و
السلامة ، أي أنّ الأصل في المرأة الصحّة والسلامة، فيثبت كون الدم حيضاً؛ لأنّه الخارج عند
الصحّة والسلامة، وغيره يخرج حالة عدمهما.
د- بمعنى
الاستصحاب ، أي استصحاب عدم كونه من
قرحةٍ ونحوها، فيثبت كونه حيضاً.
واورد على هذه الوجوه جميعاً:
أمّا الأوّل فبأنّه لا دليل على
حجّيته؛ إذ غاية ما يفيد
الظن ، وهو لا يغني من
الحقّ شيئاً.
وكذا الثاني، ولو سلّم فثبوته مطلقاً- ولو مع فقد
الصفات - محلّ تأمّل.
وأمّا الثالث فبأنّه لا يصلح
لإثبات كون الدم حيضاً؛ إذ هو من اللوازم التي لا يصلح أصل الصحّة لإثباتها، بل هو أجنبي عن أصل الصحّة
المعروف في
الفقه ، فإنّ المقصود به صحّة
المعاملات لا السلامة في بدن المكلّف، على أن مثل هذه الامور ليست
عيوباً ولا مرضاً.
وأمّا الرابع فمعارض باستصحاب عدم كونه حيضاً،
على أنّ في هذا
النوع من الاستصحاب العدمي- المعبّر عنه بالعدم
الأزلي - كلاماً بين الاصوليّين.
بناء العرف، فإنّ المعروف أنّ المرأة التي من شأنها الحيض أنّها متى ما رأت ما يمكن أن يكون حيضاً تبني على كونه حيضاً.
واورد عليه بأنّ ذلك
مسلّم فيما يخرج من
الرحم ، لكنّ الظاهر أنّه
تطبيق حقيقي بحيث يرونه حيضاً ويعلمون أو يطمئنّون بذلك، لا بنحو يكون قاعدةً ظاهرية يرجع إليها عند
الشكّ، كما هو محلّ
الكلام .
سيرة المتشرعة، وذلك بادّعاء
استقرار سيرة المتشرّعة على جعل الدم الخارج من
الموضع حيضاً ما لم يعلم كونه دماً آخر.
وفيه: أنّها وإن كانت مسلّمة لكنّها في
الجملة ، والموارد
المتيقّنة منها لعلّها ممّا قام
الدليل على التحيّض فيها،
أو حصل اطمئنان بالحيضية بحيث كان الشكّ بدوياً لا مستقراً.
وهو ما أفاده بعض الفقهاء
من أنّه لو لم تعتبر قاعدة الإمكان عند الشكّ في كون الدم حيضاً لما أمكن الحكم بحيضيّة دم؛ لعدم
اليقين به غالباً، وعدم دليل آخر من أصلٍ أو
أمارة يدلّ على كونه حيضاً.
وفيه: أنّه قد جعل
الشارع أمارات لإثبات كونه حيضاً
كالخروج أيّام
العادة أو كونه بصفات الحيض وغير ذلك، فيمكن
الرجوع إليها، هذا فضلًا عن حصول
الاطمئنان العادي في كثير من الحالات حيث لا موجب للشكّ.
الأخبار، وهي عبارة عن جملة من النصوص مثل: قولهم عليهم السلام:«إنّ
الصفرة و
الكدرة في أيّام
الحيض حيض».
وما ورد من أنّ الصائمة تفطر بمجرّد
رؤية الدم،
وغير ذلك من الأخبار.
وناقش
الشيخ الأنصاري في
الاستدلال بالأدلّة المذكورة حيث قال: «إنّ كثيراً من المذكورات لا يدلّ على هذه القاعدة بوجه...».
ولعدم سلامة أيّ دليل من
النقد أنكر بعضهم أصل القاعدة ما لم يقم في مورد
إجماع عليه.
قال
المحقّق النجفي - بعد
مناقشة الأدلّة التي ذكروها للقاعدة-: «لكنّ
الجرأة على خلاف ما عليه
الأصحاب - سيما بعد نقلهم الإجماع نقلًا
مستفيضاً معتضداً بتتبّع كثير من كلمات الأصحاب- لا يخلو من
إشكال ، وخصوصاً بعد ما سمعت من
الإشارات المتقدّمة في الروايات، إلّاأنّه ينبغي القطع بعدم
إرادة العموم منها على
الوجه الذي فهمه بعض متأخّري المتأخّرين حتى تمسّك بها في نفي
الشرائط حيث تدّعى،
كالتوالي ونحوه، وفيما يرى من الدم قبل
إحراز ما علم شرطيّته، ونحو ذلك؛ لعدم الدليل حتى
الإجماع المدّعى، فالأولى حملها حينئذٍ على إرادة ما علم إمكانية حيضه...».
وأمّا الشيخ الأنصاري فقد قال: «فالعمدة في
المقام الإجماعات، ولولاها لأشكل الحكم...».
تجري قاعدة الإمكان- على
تقديرها - في موارد تتّصل بحقيقتها، وهي:
أ- إنّها من قبيل
الأصل لا يرجع إليها مع وجود الدليل
من نصٍّ أو إجماع أو أمارة شرعية على الحيضية أو عدمها، بل لا مورد لها حينئذٍ؛ لأنّ موردها ما إذا لم يقم دليل معتبر على
التحيّض أو عدمه.
ب- إنّها تجري في
الشبهات الموضوعية فقط، ولا تجري في الشبهات الحكمية؛
لأنّه مقتضى ما تقدّم من
الأدلّة التي استند إليها في إثباتها.
اتفقّ الفقهاء والاصوليّون على أنّ القطع حجّة، ووقع نقاش في حجّية الظن تارةً على
المستوى الإثباتي وأنّه هل تعبّد المولى بظنٍّ ما؟ واخرى على المستوى الإمكاني الثبوتي وأنّه هل يمكن أن يتعبّدنا
المولى بالظنون و
الأحكام الظاهرية أم لا؟
نسب
المحقّق الحلّي إلى
أبي جعفر بن قبة الرازي أنّه ساق أدلّة تمنع ثبوتاً
التعبّد بالظنون والأحكام الظاهرية،
وقد تناول الاصوليّون باستمرار هذه الأدلّة التي عبّر عنها فيما بعد بشبهات ابن قبة، وناقشوها فيما عرف بينهم ببحث إمكان التعبّد بالظن، أو الجمع بين
الحكم الظاهري و
الواقعي .
وأبرز الإشكالات الواردة على أصل إمكان التعبّد بالظن و
إعطاء الحجّية له وجعل الحكم الظاهري هي:
۱- إنّ للَّهسبحانه حكماً واقعياً، فإذا أدّت
الإمارة إليه وأصابه الظن واعطيت الحجّية للحكم الظاهري
الآتي من الأمارة كان معنى ذلك التعبّد بحكمين متماثلين، أحدهما واقعي والآخر ظاهري، ومجرّد
الاختلاف بينهما في
المرتبة لا يغيّر من واقع الأمر شيئاً.
فإذا كانت
الصلاة واجبةً واقعاً ودلّ الخبر الآحادي على وجوبها، وكان حجّةً، ثبت
الوجوب الظاهري ببركة
الخبر إلى جانب الوجوب الواقعي
الثابت من الأوّل، و
اجتماع وجوبين من اجتماع المتماثلين، وهو محال.
أمّا إذا لم يطابق مؤدّى الأمارة الحكم الواقعي فإنّ معنى ذلك أنّ الصلاة واجبة واقعاً، لكنها صارت بالأمارة الدالّة- مثلًا- على
حرمتها حراماً، فاجتمع الوجوب والحرمة، وهما متضادّان لا يجتمعان، وهذا ما يعرف بشبهة
التضاد .
۲- ما يسمّى بشبهة نقض
الغرض ، وحاصلها: أنّ صلاة
الفجر إذا كانت واجبةً مثلًا، ثمّ جاء خبر آحادي دالّ على وجوبها، فإنّ
القول بحجّيته وجعل الحكم الظاهري في مورده معناه أنّ
المولى قد نقض غرضه؛ لأنّ غرضه تحصيل
العبد للمصلحة الموجودة في صلاة الفجر، لكنه بسماحه له بالأخذ بالظن الآتي من خبر
الواحد يكون قد فوّت عليه
مصلحة صلاة الفجر الواقعية، ونقض الغرض مخالف للحكمة الإلهية، فيقبح صدوره من
الحكيم تبارك وتعالى.
ولحلّ هذه الإشكالات طرح علماء الاصول عدّة نظريات
لتبرير التعبّد بالظن، وأهمّها:
التي دافع عنها الشيخ الأنصاري، وحاصلها: أنّ قيام الظن المعتبر على أمرٍ ما يجعل مصلحةً في
اتّباعه ، فنفس اتّباع الظن المعتبر يحقّق مصلحةً حقيقية، وهذه المصلحة تجبر الذي فات من مصلحة الواقع، وبهذا لا ينقض المولى غرضه.
كما لا يوجد تضاد بين الأحكام؛ لأنّ الحكم الواقعي انصبّ على شيء والظاهري على شيء آخر، والمصلحة البديلة جاءت من نفس سلوك طريق الأمارة لا من متعلّقها.
التي دافعت عنها
مدرسة الميرزا النائيني، وحاصلها: أنّ الأمارات الظنية لها
إضاءة جيدة على الواقع لكنها ليست تامة كالقطع، وعندما يجعل المولى الحجّية لها فإنّه يتمّم كشفها، فبدل أن تفيد الظن تصبح
مفيدةً للعلم، لكن لا واقعاً؛ لأنّ دليل الحجّية لا يصيّر الظن علماً واقعاً، وإنّما بالتعبّد و
الاعتبار ، فيعتبر
الاحتمال المخالف بمثابة العدم وينزّل الظن منزلة
العلم .
وبهذا يكون عندنا علم وجداني وآخر تعبّدي اعتباري، فليس الحكم الظاهري حكماً شرعياً آخر في عرض الواقع حتى يلزم
التماثل أو التضاد أو نقض الغرض، وإنّما هو محض تتميم لحيثية
الكشف الموجودة في الظن.
التي طرحها السيّد
الشهيد الصدر، والتي تعتقد أنّ ملاكات
الأحكام الظاهرية ليست سوى ملاكات الأحكام الواقعية عينها، فإنّ المولى لما رأى وقوع المكلّف في
الحيرة والشكّ وأنّه تاهت عنه الأحكام الواقعية، جعل له طريقاً لضمان
الحفاظ الممكن على هذه
الملاكات، فعندما يرى المولى قوّة الكشف في بعض الطرق الظنية وغلبة
إصابتها للواقع فإنّه يعطي الحجّية لها ضماناً
لتحصيل أكبر قدر ممكن من ملاكات الواقع، حيث لا يمكن
الحصول عليها بأجمعها.
وعندما يتم
افتقاد الطرق الظنية المذكورة يوازن المولى بين
المصالح والمفاسد، فيأمر في بعض الموارد
بالاحتياط؛ سعياً لتحصيل الواقع المردّد بين محتملات، وقد يأمر اخرى
بالبراءة؛ حفاظاً على اقتضاء
الإباحة وضرورة
الفسحة للمكلّف.
فليس وراء الحكم الظاهري إلّامصالح الحكم الواقعي، ومعه فلا تضاد ولا
تماثل ولا جعل حكم ثانٍ أصلًا، فضلًا عن نقض الغرض، فإنّ المولى بذلك يقترب أكثر من
أغراضه .
من هذا كلّه- إلى جانب نظريات اخر- أطبقت كلمة الاصوليّين على إمكان التعبّد بالظن.
وتفصيل هذه الأبحاث يراجع في علم الاصول.
يظهر من طريقة بعض القدماء أنّهم يعتمدون في
الجمع بين الأخبار
المتعارضة على كفاية مطلق إمكان الجمع بأيّ طريقة كانت، ما دامت غير
مستحيلة .
إلّاأنّ المحقّقين من علماء الاصول، لا سيّما المتأخّرين، أعادوا
النظر في هذه القاعدة، وقالوا بأنّ الإمكان فيها إن اريد منه الإمكان العرفي، بحيث يرى
العرف هذا الجمع بين الخبرين المتعارضين أمراً
مقبولًا أمكن
الأخذ بهذه القاعدة، وصار معناها أنّه كلّما أمكن الجمع العرفي بين الخبرين فإنّه لا تصل
النوبة إلى مرحلة
طرح أحدهما، فضلًا عن كليهما.
ومن هنا بحثوا في باب
التعارض من علم الاصول بالتفصيل عن قواعد الجمع العرفي من
التخصيص و
التقييد و
الحكومة ونحو ذلك.
أمّا إذا اريد بالإمكان مطلق إمكان الوقوع والإمكان العقلي مقابل
الاستحالة ، فهذا غير صحيح؛ لأنّ
المرجع في تحديد فهم
الألفاظ والتراكيب و
الربط بين الجمل
المتّصلة و
المنفصلة هو العرف، وقد جرى الشارع على طريقة العرف في ذلك، فإذا اعتبر العرف ذلك غير مقبول لم يمكن الجمع كيفما كان.
وعليه فهذه
القاعدة مقبولة بمعنى الإمكان العرفي، وغير مقبولة بمعنى آخر.
وتفصيله يراجع في علم الاصول.
الموسوعة الفقهية، ج۱۷، ص۲۶۹-۲۷۷.