الاستبصار (آثاره)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الاستبصار (توضيح) .
للاستبصار آثار متعدّدة في مجالات
مختلفة ، وهي :۱-عدم
وجوب قضاء العبادات السابقة عدا
الزكاة ، ۲-
أثر الاستبصار في
النكاح و
الطلاق ، ۳-أثر الاستبصار في
الميراث والوصيّة و
الوقف ونحوها، ۴-عدم
تأثير الاستبصار في بعض الأحكام.
المعروف بين
فقهائنا أنّ
المخالف إذا استبصر لا يجب عليه
قضاء ما أتى به من العبادات السابقة سوى الزكاة،
بل ادّعي
الإجماع على ذلك،
وفي
الحجّ بحث سيأتي.
وعلى كلّ حال فقد وردت في هذا الحكم روايات:
منها:
صحيحة بريد بن معاوية العجلي عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام في حديث قال: «كلّ
عمل عمله وهو في حال نصبه وضلالته، ثمّ منّ
اللَّه عليه وعرّفه
الولاية ، فإنّه يؤجر عليه إلّا
الزكاة ؛ لأنّه وضعها في غير موضعها؛ لأنّها
لأهل الولاية، وأمّا
الصلاة والحجّ و
الصيام فليس عليه قضاء».
ومنها: صحيحة
ابن اذينة قال: كتب إليّ أبو عبد اللَّه عليه السلام: «أنّ كلّ عمل عمله
الناصب في حال ضلاله أو حال نصبه، ثمّ منّ اللَّه عليه وعرّفه هذا
الأمر فإنّه يؤجر عليه ويكتب له إلّا الزكاة فإنّه يعيدها؛ لأنّه وضعها في غير موضعها، وإنّما موضعها أهل الولاية، وأمّا الصلاة والصوم فليس عليه قضاؤهما».
ومنها: صحيحة
الفضلاء عن
أبي جعفر وأبي عبد اللَّه عليهما السلام أنّهما قالا: في الرجل يكون في بعض هذه الأهواء
الحروريّة و
المرجئة و
العثمانيّة و
القدريّة ، ثمّ يتوب ويعرف هذا الأمر ويحسن رأيه، أ يعيد كلّ صلاة صلّاها أو
صوم أو زكاة أو حجّ، أو ليس عليه
إعادة شيء من ذلك؟: «ليس عليه إعادة شيء من ذلك غير الزكاة، لا بدّ من أن يؤدّيها؛ لأنّه وضع الزكاة في غير موضعها، وإنّما موضعها
أهل الولاية ».
وبهذه الأخبار يتّضح
التخصيص في أدلّة الأحكام الواقعيّة، وأنّها لا تعمّ المخالف الذي استبصر بعد
قيامه بالأعمال الناقصة.
وعلى أيّة حال فالمعروف بين
علمائنا عدم وجوب قضاء ما فات من العبادات، إلّا أنّ
العلّامة الحلّي استشكل في ذلك رادّاً على
الاستدلال بحديث الفضلاء بأنّه
حسن الطريق وليس صحيحاً، مضيفاً بأنّ علماءنا وإن حكموا بعدم وجوب قضاء الحجّ إذا لم يخلّ ببعض أركانه، إلّا أنّ في الصلاة والصوم إشكالًا من حيث إنّ
الطهارة لم تقع على الوجه
المشروع ، و
الإفطار قد يقع منهم في غير وقته. ثمّ قال: «ويمكن الجواب بأنّ الجهل عذر
كالتقيّة فصحّت الطهارة، والإفطار قبل الغروب إذا كان لشبهة قد لا يستعقب القضاء كالظلمة الموهمة فكذا هنا، وبالجملة فالمسألة مشكلة».
وكأنّ العلّامة صعب عليه الحكم بعدم وجوب القضاء، إلّا إذا كان العمل بنفسه صحيحاً مطابقاً للواقع؛ لأنّه هو المعيار للصحّة و
البطلان باعتقاده ، ولا دخل
للإيمان بالمعنى الأخصّ فيه وإن كان مشروطاً بالإسلام، كما يأتي بيان نظره في هذا المجال في البحوث المقبلة.
واورد
عليه بأنّ رواية الفضلاء وإن كانت حسنة في نقل
التهذيب إلّا أنّها مذكورة بسند صحيح في رواية
علل الشرائع ،
بل هناك روايات اخرى كثيرة وردت بنفس مضمون هذه الرواية.
وهناك امور ينبغي
التنبيه عليها:
اشترط بعض الفقهاء في عدم وجوب قضاء العمل أن يكون
المستبصر قد أتى به صحيحاً، وفي ذلك
احتمالات :
أن يكون العمل الذي أتى به مطابقاً لمذهبه ومذهبنا معاً، بدعوى أنّ الأخبار ناظرة إلى
تصحيح عمله من جهة
فقدان الولاية، لا من جهة سائر الشرائط التي لا بدّ أن يكون واجداً لها، فإذا كان العمل فاسداً من غير جهة الولاية، فلا تشمله النصوص.
وهذا الاحتمال غير معقول؛
لاستلزامه حمل النصوص الكثيرة على فرد نادر التحقّق، أو على ما لا يتّفق وقوعه خارجاً، فإنّ من
المستبعد جدّاً أن يأتي المخالف بما يطابق مذهبنا ومذهبه معاً؛ إذ لا أقلّ من
اختلاف وضوئه مع وضوئنا فلا يحصل
التطابق .
أن يأتي بالفعل موافقاً لمذهبه وإن عُدّ مخالفاً لمذهبنا.
وهذا هو
القدر المتيقّن من دلالة الروايات، وقد أفتى الفقهاء بعدم وجوب قضائه،
بل لا بدّ من حمل الخبر الصحيح عليه؛ لأنّ غالب المخالفين لا يستجمعون شرائط صحّة العمل عندنا،
ولأنّ
الحكمة - كما يبدو- هي
التخفيف حتى لا يثقل عليه
الأمر حال الاستبصار، فلو كان
المطلوب الصحّة عندنا لما حصل التخفيف لندرتها.
أن يأتي بالفعل مخالفاً لمذهبه ومذهبنا معاً. وهو القدر المتيقّن ممّا خرج عن الروايات وفتاوى الفقهاء؛ لأنّهم اشترطوا في عدم وجوب القضاء عدم كون ما أتى به فاسداً على مذهبه.
وأمّا احتمال شمول الروايات لهذه الصورة أيضاً بدعوى أنّ الحكم
بالإجزاء منّة من اللَّه تعالى، ومقتضى
الامتنان تصحيح العمل و
إلغاء وجوب القضاء بعد
الاستبصار فهو مردود؛ بأنّ
الظاهر من الروايات أنّها ناظرة إلى الأعمال الصحيحة عندهم الفاقدة للولاية، وأنّ
السؤال عنها من جهة فساد العقيدة فقط، فكأنّ المخالف لا يرى مقتضياً لفساد عمله لو لا الولاية، إذ لو كان عمله فاسداً عنده لم يكن مصلّياً ولا حاجّاً على مذهبه- كما هو مفروض الروايات- مع أنّ السؤال فيها عن حجّه وصلاته.
وعلى أيّ حال فالروايات منصرفة إلى الصلاة التي كان يعتقد المستبصر صحّتها وعدم لزوم قضائها لو لا الاستبصار.
أن يأتي بالفعل مخالفاً لمذهبه موافقاً لمذهبنا. وقد تأمّل بعض الفقهاء
في شمول الروايات لهذا المورد.
بينما اختار آخرون الشمول؛ وذلك
لدلالة الأدلّة المتقدّمة عليه بالفحوى و
الأولويّة ؛ لأنّ الحكم بصحّة عمله
الموافق لمذهبه مع كونه ناقصاً يستلزم الحكم بصحّة العمل إذا لم يكن فيه نقص إلّا من جهة الولاية بطريق أولى،
فشمول رواية الفضلاء وغيرها له أوضح.
لكن هذا الكلام إنّما يصحّ إذا كان المستبصر معتقداً بصحّة ما يقوم به من الأعمال، كما لو كان مقلّداً شخصاً يفتي بجواز العمل طبق مذهب
الإمامية ، وإلّا فلا يصحّ الاستدلال بالأدلّة السابقة على هذه الصورة؛ لأنّ قوله عليه السلام: «فإنّه يؤجر عليه»
لا يتناسب إلّا مع
إتيان العمل باعتقاد كونه صحيحاً.
فالسؤال عن إعادة الصلاة أو الحجّ أو غيرهما من العبادات إنّما نشأ من جهة اختلاف العقيدة وتبدّلها، وإلّا فالمخالف لا يرى نفسه مأموراً بالإعادة لو بقي على عقيدته السابقة.
اختلف الفقهاء في أنّ عدم وجوب القضاء على المستبصر هل هو
تفضّل من
اللَّه تعالى أو كاشف عن صحّة العمل؟ فيه وجهان بل قولان:
أنّ عدم وجوب القضاء تفضّل منه تعالى،
واستدلّ له:
بأنّ العمل في نفسه غير صحيح؛ لفقدانه شرط
الإيمان بالمعنى الأخص، أي الولاية؛ حيث دلّت روايات كثيرة على
بطلان العبادة المجرّدة عن الإيمان والولاية.
وأمّا الروايات المتقدّمة- كصحيحة الفضلاء وغيرها- فلا دلالة فيها على صحّة العمل، بل غاية ما تدلّ عليه عدم وجوب الإعادة.
أنّ عدم الإعادة تدلّ على صحّة العمل من حين الاستبصار أو تكشف عنها من حين العمل حيث يشتركان في أنّ العمل الصادر من المخالف إنّما يكون صحيحاً إذا تعقّبه الإيمان.
وذلك لتصريح الروايات- المتقدّمة- بعدم الإعادة، وبأنّ المخالف مأجور على ما فعل ممّا هو ظاهر في تصحيح العمل وأنّه يجتزئ به شرعاً، ومن هنا لا يجب عليه الإعادة أو القضاء. وأمّا الاستدلال بروايات
اشتراط الولاية والإيمان في صحّة العمل فإنّه وإن كان تامّاً إلّا أنّه لا بدّ من تقييدها بالروايات المتقدّمة المصرّحة بعدم الإعادة، و
بالاجتزاء بالعمل إذا تعقّبه الإيمان. ودلالة بعض الروايات على التفضّل لا تنافي صحّة العمل وتماميّته.
وأمّا ثمرة هذا البحث فقد تظهر في جواز
نيابته عن المؤمن فيما يشترط فيه قصد القربة بناءً على صحّة أعماله وعدم جوازها بناءً على عدم صحّتها، وأنّ
السقوط تفضّل منه تعالى.
واورد عليه بأنّ هذه الثمرة غير صحيحة؛ لظهور النصوص الشرعيّة- التي خرجنا بها عن
القواعد - في غير هذا المورد.
اختلف الفقهاء في وجوب إعادة الحجّ على المخالف إذا استبصر على أقوال:
وجوب الإعادة مطلقاً، سواء أتى به صحيحاً أو فاسداً عندنا أو عندهم. ونسب هذا القول إلى
ابن الجنيد ،
واختاره
ابن البرّاج .
واستدلّ له بروايتين:
الاولى: رواية
أبي بصير عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «لو أنّ رجلًا معسراً أحجّه رجل كانت له حجّة، فإن أيسر بعد ذلك كان عليه الحجّ، وكذلك
الناصب إذا عرف فعليه الحجّ وإن كان قد حجّ».
الثانية:
مكاتبة إبراهيم بن محمّد بن عمران الهمداني قال: كتبت إلى
أبي جعفر عليه السلام : أنّي حججت وأنا مخالف وكنت صرورة فدخلت متمتّعاً بالعمرة إلى الحجّ، فكتب إليه: «أعد حجّك».
واورد على الاستدلال بهما
:
أوّلًا: بأنّهما محمولان على
استحباب إعادة الحجّ جمعاً بينهما وبين الأخبار الدالّة على عدم وجوب الإعادة.
وثانياً:
باختصاص الرواية الاولى بالناصب دون مطلق المخالف.
وثالثاً: بعدم صحّة
الاعتماد على هاتين الروايتين لضعف سندهما؛ لأنّ الرواية الاولى فيها أبو بصير، وهو غير أبي بصير المعروف، بل هو
يحيى بن القاسم ، خصوصاً وأنّ في طريقه
علي بن أبي حمزة الذي قال
النجاشي في حقّه: إنّه كان أحد عُمُد
الواقفة .
وهو ضعيف عند
المشهور .
عدم وجوب الإعادة إذا كان صحيحاً عنده وإن كان فاسداً في مذهب
أهل البيت عليهم السلام .
والدليل على هذا القول
إطلاق الأخبار الواردة في هذا الباب:
منها: صحيحة بريد العجلي قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل حجّ وهو لا يعرف هذا الأمر ثمّ منّ اللَّه عليه بمعرفته و
الدينونة به، عليه
حجّة الإسلام أو قد قضى فريضته؟ فقال عليه السلام: «قد قضى فريضته، ولو حجّ لكان أحبّ إليّ».
وغير ذلك من الأحاديث التي يستفاد منها عدم وجوب إعادة الحجّ ولو لم يكن صحيحاً عندنا.
وجوب الإعادة إذا أخلّ بركن من أركانه، وقد نُسب
هذا القول إلى
الشيخ الطوسي وأكثر الفقهاء.
إلّا أنّهم اختلفوا في
تفسير الركن هل هو ما كان عندنا أو عنده؟
فنصّ بعضهم على أنّ المراد بالركن ما كان عندنا لا عنده.
واورد عليه بأنّه يلزم منه حمل النصوص الكثيرة على الفرد النادر، أو على ما لا يتّفق وقوعه في الخارج
أصلًا بسبب مخالفة أعماله للواقع ولو من جهة
الوضوء الذي لا يأتي به إلّا
باطلًا .
ونصّ آخرون على أنّ المراد من الركن عنده لا عندنا؛ لأنّ مورد الأخبار هو ما كان صحيحاً عندهم، فيخرج من حكمها ما كان صحيحاً عندنا.
وهناك من ذهب إلى أنّ المقصود هو مجموع الأركان
المشتركة بين المذاهب المتمثّلة بالأركان التي عندنا؛ لأنّ كلّ ما كان ركناً عندنا فهو ركن عندهم، وليس العكس، وذلك- يعني توسيع دائرة أحكام الاستبصار- لتشمل التاركين لبعض الامور التي هي ركن عندهم؛ لعدم اشتراكها مع أركاننا.
قال : «قد يقال هنا: إنّ المراد بتقييد الركن عندنا الصحّة لو أخلّ بما هو ركن عندهم لا عندنا كالحلق، لا أنّ المراد وجوب الإعادة
بالإخلال بركن عندنا وإن لم يكن ركناً عندهم؛ إذ الظاهر ركنيّة كلّ ما كان ركناً عندنا عندهم، كما اعترف به في
الذكرى ، فلا يمكن حينئذٍ فرض ذلك، وحينئذٍ يكون المراد
تكثير ما يحكم بصحّته من فعلهم لا
تقليله كي يتّجه عليه
الإشكال بأنّ إطلاق النصوص يقتضي الصحّة وإن أخلّ بالركن عندنا، كما أنّه يكون حينئذٍ لا فرق بينه وبين الصلاة فإنّ الظاهر سقوط القضاء إذا جاء بها تاركاً فيها لما يفسد تركه عندهم ولا يفسد عندنا إذا فرض وقوعها منه على وجه لا ينافي
التقرّب وإن فقدت النيّة المفسد تركها عند الجميع، فيرتفع الإشكال حينئذٍ من أصله.
ولعلّ الذي دعاهم إلى هذا التقييد هنا دون الصلاة هو ما عرفته من أنّ كلّ ركن عندنا ركن عندهم ولا عكس، بخلاف الصلاة فإنّ وجوه المخالفة بيننا في التروك والأفعال متكثّرة، وقد أرادوا بذلك بيان سقوط الإعادة هنا عنه إذا كان قد جاء بالفعل وقد ترك ما هو ركن عندهم لا عندنا، والفرض أنّه استبصر، لا أنّ المراد
ثبوت الإعادة عليه بتركه ما هو ركن عندنا وليس ركناً عندهم كي يتّجه عليه الإشكال بأنّ إطلاق النصوص يقتضي الصحّة في هذا الفرد».
لا خلاف في وجوب إعادة أداء الزكاة بعد الاستبصار؛ لأنّها وضعت في غير موضعها،
كما نطقت بذلك نصوص متعددة:
منها: قول
الصادقين عليهما السلام في صحيحة بريد بن معاوية العجلي: «ليس عليه إعادة شيء من ذلك غير الزكاة، لا بدّ أن يؤدّيها؛ لأنّه وضع الزكاة في غير موضعها، وإنّما موضعها أهل الولاية».
ومنها: قول الصادق عليه السلام في صحيحته الثانية: «كلّ عمل عمله الناصب وهو في حال ضلالته أو حال نصبه ثمّ منّ اللَّه عليه وعرّفه الولاية فإنّه يؤجر عليه، إلّا الزكاة فإنّه يعيدها؛ لأنّه وضعها في غير موضعها، وإنّما موضعها أهل الولاية».
فإنّ المستفاد من هذا النوع من النصوص أنّ موضع الزكاة المؤمنون من أهل الولاية، والدفع إلى غير
المؤمن ليس فيه تفريغ للذمّة، فهو نظير ما لو أدّى
المديون دينه إلى غير دائنه.
ولا يجب
أداؤها مرّة اخرى لو صرفت على فقراء
الشيعة أو في الجهات التي يجوز صرف الزكاة فيها،
وهو ما يمكن
استشعاره من كلّ مَن قيَّدَ وجوب إعادة أداء الزكاة بصرفها في غير موردها.
وقد يستدلّ على ذلك أيضاً بما دلّ على
إجبار الكفّار على الزكاة، فإنّ المستفاد من إجبار الكفّار على الزكاة أنّ في الزكاة جهة ماليّة معامليّة تتحقّق بمجرّد أداء الزكاة إلى أصحابها الحقيقيّين، وجهة ثواب لا تتحقّق إلّا بنيّة القربة، وهذه الجهة مفقودة ومع ذلك تسقط الزكاة. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ المخالف عند ما صرف الزكاة في موردها فقد أدّى ما عليه من الجهة الماليّة المعامليّة وإن لم يحصل على
الثواب ؛ لعدم
اقتران العمل بالنيّة.
لكنّ
المحقّق العراقي صرّح بلزوم مراعاة
الاحتياط في المسألة، ورفض هذا الاستدلال لاحتمال الفرق بين الموردين؛ لعدم
امتناع المخالف عن أداء الزكاة واعتقاده بوجوبها وتنجّزها عليه، بخلاف الكافر فلا تصحّ المقايسة بينهما مع هذا الفارق.
هذا، ولكنّ المستفاد من
التعليل الوارد في الروايات المتقدّمة عدم وجوب أدائها مرّة اخرى لو كانت قد صرفت في محلّها.
إذا استبصر المخالف والوقت باقٍ للصلاة ففي وجوب إعادتها قولان:
القول الأوّل: وجوب الإعادة؛
لاختصاص الروايات بالموارد التي فات وقتها دون ما كان وقتها باقياً، كما يستفاد ذلك من لفظ (القضاء) الوارد في بعض الروايات.
واورد عليه بأنّ
التعبير بالقضاء وإن ورد في جملة من نصوص الباب، إلّا أنّ المراد به في لسان الأخبار معناه اللغوي وهو
الإتيان بالفعل مرّة اخرى لا خصوص الإتيان به خارج الوقت؛ لأنّ ذلك
اصطلاح فقهي تداوله
الأعلام في كلماتهم، فلا يصحّ حمل الروايات عليه، سيّما بعد
التعميم الوارد في صحيحتي العجلي و
ابن اذينة، وهو قوله عليه السلام: «كلّ عمل» الشامل للأداء والقضاء على حدّ سواء.
القول الثاني: عدم وجوب الإعادة،
واستدلّ له بصحيحة الفضلاء التي تضمّنت التصريح بعدم الإعادة، فلو سلّم
انصراف القضاء في بقيّة النصوص إلى المعنى المصطلح فهذه الصحيحة بمفردها تكفي لإثبات عدم وجوب الإعادة من دون
الاستعانة بالتفسير اللغوي للقضاء، فقد ورد في هذه الصحيحة: أ يعيد كلّ صلاة صلّاها أو صوم أو زكاة أو حجّ أو ليس عليه إعادة شيء من ذلك؟ قال عليه السلام: «ليس عليه إعادة شيء من ذلك غير الزكاة».
ولم يستبعد
السيد الحكيم في
المستمسك هذا القول
إلّا أنّه احتاط في
المنهاج بوجوب الإعادة.
المعروف بين الفقهاء وجوب قضاء الفوائت على المستبصر، واستدلّوا له بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّ المستبصر كان مكلّفاً بها وقد فاتته فيتحقّق موضوع القضاء الذي هو الفوت، ويشمله عموم أدلّة القضاء.
الوجه الثاني: أنّ الموضوع في بعض نصوص الاستبصار هو «كلّ عمل عمله وكلّ صلاة صلّاها»، وهذا لا يتصوّر إلّا مع فرض تحقّق العبادة خارجاً دون ما لم تكن من أصلها مأتيّاً بها فإنّها لا تكون حينئذٍ مشمولة لأخبار الاستبصار.
الوجه الثالث: أنّ جملة (يؤجر عليها) الواردة في الرواية تتناسب مع صدور عمل من المخالف، فتبقى أدلّة القضاء سالمة عن التقييد بأمثال هذه النصوص.
قال : «لو ترك
العبادة بالكلّية أو أتى بها باطلة في مذهبه فالظاهر أنّه لا خلاف بين
الأصحاب في وجوب القضاء هنا؛
استناداً إلى عموم ما دلّ على وجوب القضاء في تلك العبادة من صلاة أو صيام أو حجّ، وهو كذلك فإنّ التارك لها مع كونه مكلّفاً بها ومخاطباً باقٍ تحت العهدة حتى يأتي بها، وغاية ما يستفاد من تلك الأخبار- الدالّة على عدم وجوب القضاء- هو عدم وجوب قضاء ما أتوا به صحيحاً على مذهبهم بترك الولاية لا ما لم يأتوا به بالكلّية، وحينئذٍ فمتى أتوا بها صحيحة على مذهبهم ولم يبق إلّا شرط قبولها فبعد حصول الشرط يتفضّل عليهم اللَّه بالقبول، بخلاف ما لو لم يأتوا بها بالكلّية وكذا ما في حكمه، فإنّهم باقون تحت عهدة
الخطاب ، فيجب القضاء البتّة».
وفي قبال ذلك فقد مال
المحقّق النجفي إلى عدم وجوب القضاء، حيث قال: «إنّ احتمال سقوط القضاء أصلًا ورأساً- فعلوا أو لم يفعلوا فضلًا عن أن يُخلّوا بترك شرط ونحوه- لا يخلو من وجه».
ولعلّه لرواية عمار الساباطي قال: قال
سليمان بن خالد لأبي عبد اللَّه عليه السلام وأنا جالس: إنّي منذ عرفت هذا الأمر اصلّي في كلّ يوم صلاتين، أقضي ما فاتني قبل معرفتي؟ قال: «لا تفعل فإنّ الحال التي كنت عليها أعظم من ترك ما تركت من الصلاة».
ونوقش فيها بأنّها ضعيفة سنداً ودلالة، أمّا سنداً فب (
علي بن يعقوب الهاشمي). وأمّا دلالةً
فبإمكان تفسير جملة (ما تركت من الصلاة) بترك شرائط الصلاة وأفعالها دون تركها من الأساس، وإنّما سمّاها السائل فائتة لأنّها باعتقاده بحكم الفائتة.
وهو
استظهار حسن لا بأس به فراراً من طرح الرواية.
لم تنقّح هذه المسألة من قبل الفقهاء وإن أمكن معرفة حكمها من خلال ما ذكره السيد الحكيم جواباً على
استفتاء ورد فيه:
أنّ رجلًا من المخالفين طلّق زوجته طلاقاً غير جامع للشرائط عندنا وجامعاً للشرائط عنده ثمّ استبصر، وكذا إذا طلّقها ثلاثاً بإنشاء واحد فهل له الرجوع إلى زوجته بعد الاستبصار أو لا؟
فأجاب بأنّ الظاهر جواز الرجوع إلى زوجته؛ للأدلّة الدالّة على بطلان الطلاق الفاقد للشرائط المقرّرة عندنا؛ لعدم ما يوجب الخروج عنها، إلّا ما قد يتوهّم من دلالة النصوص على بينونة
المرأة المذكورة إذا كان الزوج من المخالفين حسب ما يقتضيه مذهبه، لكنّ التوهّم المذكور ضعيف؛ لأنّ النصوص الواردة في الباب على ثلاث طوائف:
ما دلّ على قاعدة
الإلزام ، مثل رواية
عبد الله بن جبلة عن غير واحد عن علي بن أبي حمزة: أنّه سأل أبا الحسن عليه السلام عن المطلّقة على غير السنّة أ يتزوّجها؟ فقال عليه السلام: «ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، تزوّجوهنّ فلا بأس بذلك».
ومن المعلوم أنّ جواز الإلزام أو وجوبه لا يدلّ على صحّة الطلاق المذكور، وإنّما يدلّ على مشروعيّة الإلزام بما ألزم به نفسه، والإلزام بذلك إنّما يصحّ مع بقاء الزوج على الخلاف لا مع تبصّره، فإنّه مع تبصّره لا يلزم نفسه بالطلاق، وإنّما يلزمها بالزوجيّة، فلا مقتضي لعدم مشروعيّة
الرجوع إليها.
ما تضمّن اللزوم دون الإلزام، كرواية
عبد الله بن طاوس قال: قلت: أ ليس قد روي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال: «إيّاكم والمطلّقات ثلاثاً في مجلس فإنهنّ ذوات الأزواج»، فقال: «ذلك من
إخوانكم لا من هؤلاء؛ إنّه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم».
ودلالة هذا النوع من الأخبار على صحّة الطلاق أيضاً غير ظاهرة، فإنّ اللزوم أعمّ من الصحّة، خصوصاً بلحاظ ما يستلزمه
تطبيق الحديث من تعارض فيما لو كان أحد الزوجين مخالفاً والآخر مستبصراً، فإنّ المستبصر يدين بفساد الطلاق والمخالف يدين بصحّته، ولا يمكن الجمع بينهما؛ لأنّ الطلاق لا يقبل الوصف بالصحّة والفساد من جهتين، فلا بدّ أن يكون المراد مجرّد الحكم على من دان منهما بما دان، فإذا استبصر المخالف وصارا مستبصرين كان مقتضى الحديث جواز ترتيب أحكام الزوجيّة منهما؛ لأنّهما معاً يدينان بذلك.
ما تضمّن تحريم المطلّقة ثلاثاً على الزوج إذا كان يعتقد ذلك، كما في رواية
الهيثم بن أبي مسروق عن بعض أصحابه قال: ذكر عند
الرضا عليه السلام بعض العلويين ممّن كان ينتقصه، فقال: أما إنّه مقيم على حرام. قلت: جعلت فداك! كيف وهي امرأته؟ قال عليه السلام: «لأنّه قد طلّقها، قلت: كيف طلّقها؟ قال عليه السلام: طلّقها، وذلك دينه، فحرمت عليه».
إلّا أنّ هذه الرواية ضعيفة سنداً قاصرة دلالة؛ لعدم تعرضه أنّ طلاقها كان على خلاف المشروع، وغير صالحة
لاثبات نفوذ الطلاق غير الجامع للشرائط إذا كان مذهب المطلّق ذلك؛ لأنّ
التحريم عليه أعمّ فإنّ من الجائز أن يكون التحريم بما أنّه دينه ولو استبصر فإنّ دينه حلية الزوجة كانت له حلالًا، بل قوله عليه السلام «وذلك دينه» ظاهر في ذلك، فيدل على التحليل لو استبصر. والذي تحصّل من هذه الأخبار لزوم العمل على من تديّن بدينه على حسب دينه، وجواز إلزامه بذلك، وكلا الأمرين لا يقتضي التحريم في مورد السؤال المذكور. وبذلك تعرف أنّ الطلاق الواقع منهم ليس صحيحاً، وإنّما اقتضى إلزامهم به بما أنّه مذهبهم، فإذا استبصروا خرج عن كونه مذهبهم، فلا موجب للإلزام به.
لو ورث المخالف مالًا غير مستحقّ له على المذهب
الإمامي ثمّ استبصر لم يخرج ذلك المال عن ملكه؛ لقاعدة الإلزام. نعم، لا يبعد لزوم
التخلّص من حقّ الغير لو استبصر المأخوذ منه والمدفوع إليه معاً.
وأمّا ما ورد فيمن زاحم الامّ في سهمها رغم استبصارها بعد ذلك فهو محمول على إلزامها بما ألزمت به نفسها سابقاً، فقد ورد في صحيحة
محمّد بن إسماعيل بن بزيع أنّه قال: سألت الرضا عليه السلام عن ميّت ترك
امّه و
إخوة وأخوات فقسّم هؤلاء ميراثه فأعطوا الامّ السدس وأعطوا الإخوة والأخوات ما بقي، فمات
الأخوات فأصابني من ميراثها فأحببت أن أسألك: هل يجوز أن آخذ ما أصابني من ميراثها على هذه
القسمة أم لا؟ فقال: «بلى»، فقلت: إنّ امّ الميّت- فيما بلغني- قد دخلت في هذا الأمر- أعني
الدين - فسكت قليلًا، ثمّ قال: «خذه».
وتوضيح ذلك: أنّ الامّ تكون في
الطبقة الاولى من الميراث، والإخوة والأخوات في الطبقة الثانية، ومن المعلوم أنّ الطبقة الاولى تمنع الثانية من الميراث، خلافاً لمن يورثون الإخوة والأخوات مع الامّ، فالمراد من أخذ الأخوات من الامّ أخذهنّ من حقّها.
قال السيد الحكيم: «ولا ريب في أنّ مقتضى قاعدة الإلزام جواز أخذ الأخوات من الامّ إلزاماً لها بما تدين، وبعد الأخذ والتملّك لا يستوجب الاستبصار تبدّل الحكم».
وتفصيل ذلك في مصطلح (إلزام).
هناك بعض الأحكام الشرعيّة التي لا تتأثّر بالاستبصار نفياً أو إثباتاً، وهي كالتالي:
رغم كون الطهارات الثلاث من الامور العباديّة، إلّا أنّها تختلف عن بقيّة العبادات من حيث عدم وضوح دخولها في أخبار الاستبصار، ومن هنا ذكر الأعلام في خصوصها ثلاثة وجوه:
الوجه الأوّل: سقوط إعادتها
إلحاقاً لها بسائر العبادات؛ لعموم ما دلّ على عدم وجوب إعادة عباداته لو استبصر، والمفروض أنّه لم يخلّ بشيء منها حسب مذهبه وإن كان مخلّاً بحسب المذهب الحقّ.
الوجه الثاني: عدم سقوطها؛ لأنّ المخالف ليس أولى من الكافر الأصلي الذي ورد في حقّه: أنّ «
الإسلام يجبّ ما قبله»،
فقد أجمع الأعلام على ثبوت الغسل في حقّه؛ لأنّ الظاهر من الأدلّة أنّها ناظرة إلى الخطابات التكليفيّة دون الوضعيّة كالجنابة مثلًا؛ لتحقّقها بأسبابها الخاصّة الموجبة للحوق الوصف بالأشخاص رغم تلبّسه بالإسلام، فكذا الحكم بالنسبة للمخالف.
الوجه الثالث: التفصيل بين ما إذا كان منشأ البطلان عدم الإيمان، وبين ما كان منشؤه
اختلال سائر الشرائط، فلا يعيد في الأوّل ويعيد في الثاني، بدعوى أنّ المقدار المستفاد من النصّ و
الإجماع في حقّ المستبصر أنّ إيمانه اللاحق
كإجازة الفضولي مصحّح لأعماله السابقة المشروطة بالإيمان لا أكثر. والظاهر من عبارة
المحقّق الهمداني الميل إلى هذا التفصيل.
الظاهر أنّه لا إشكال في عدم وجوب إعادة
تطهير المتنجّسات إذا كان تطهيرها موافقاً لمذهب الإماميّة؛ لأنّها من
الامور التوصّلية التي لا تحتاج إلى نيّة، ولا مانع آخر يمكن تصوّره. إنّما الإشكال فيما إذا كان التطهير على مذهب المخالف بغسلة واحدة- مثلًا- مع أنّه يحتاج إلى غسلتين على المذهب الحقّ، فهل تكفي الواحدة؟
ذكر صاحب
الجواهر أنّ في المسألة وجهين، ثمّ قوّى وجوب الإعادة حيث قال: «وفي وجوب إعادة غسل المتنجّسات إذا كان فاسداً عندنا وجهان، أقواهما ذلك؛ للأصل، وقصور الأدلّة عن
التناول ».
لا شكّ في عدم شمول الأخبار المتقدّمة لحقوق الناس؛ لوضوح أنّها ناظرة إلى الأعمال والعبادات التي فيها إعادة أو قضاء ومسئوليّة في قبال اللَّه سبحانه، وأمّا حقوق العباد فهي أجنبيّة عن مفاد تلك الروايات، على أنّ المستفاد من التعليل الوارد في الزكاة لزوم التخلّص و
براءة الذمّة من حقوق الناس، فإنّ في قوله عليه السلام: «لأنّه وضع الزكاة في غير موضعها، وإنّما موضعها أهل الولاية» دلالة على لزوم التخلّص من حقوق الفقراء والجهات القانونيّة فضلًا عن حقوق الأفراد الحقيقيّين، فإنّ الخروج عنها أولى من الزكاة.
قال المحقّق النجفي: «نعم، استثنى
المحقّق الثاني ممّا يسقط عن الكافر بعد إسلامه حكم الحدث- كالجنابة- وحقوق
الآدميّين ، فلعلّه هنا (استبصار المخالف) كذلك أيضاً، مع أنّه يمكن منعه عليه هنا في الأوّل خاصّة؛ لعموم الأدلّة، بخلاف الثاني؛
لإشعار تعليل الزكاة به، بل بعضها أولى من الزكاة».
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۱۰-۲۵.