الاستحباب
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
الاستحباب بمعنى
الاستحسان وهو حكم شرعي يبعث نحو الشيء الذي تعلّق به بدرجة دون
الإلزام والوجوب وفيه
ترخيص من جانب
الشارع على تركه.
الاستحباب- وزان
استفعال - من حبّ الشيء، واستحبّ الشيء: إذا أحبّه ورغب فيه، ويأتي الاستحباب بمعنى
الاستحسان .
واستحبّه عليه: آثره عليه،
ومنه قوله تعالى: «فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى».
الاستحباب لدى
الفقهاء والاصوليّين من الأحكام التكليفيّة الخمسة، وقد عرّف بأنّه حكم شرعي يبعث نحو الشيء الذي تعلّق به بدرجة دون
الإلزام ، ولهذا توجد إلى جانبه دائماً
رخصة من الشارع في مخالفته كاستحباب
صلاة الليل .
وهناك تعريفات اخرى للاستحباب تأتي
الإشارة إليها في تعريف الندب.
هناك عدّة آراء وأقوال في حقيقة الاستحباب وكذا في حقيقة الوجوب، فذهب المتقدّمون إلى أنّ الوجوب يكون مدلولًا لصيغة
الأمر أو مادّته، وإلى أنّه مركّب من جزءين: طلب الفعل والمنع من الترك، كما أنّ الاستحباب مركّب من جزءين: طلب الفعل و
الإذن في الترك.
وذهب المتأخّرون إلى أنّ الوجوب وإن كان مدلولًا لفظيّاً إلّا أنّه أمر بسيط غير مركّب، وهو المرتبة الشديدة من الطلب و
الإرادة ، كما أنّ الاستحباب أيضاً أمر بسيط غير مركّب، وهو المرتبة الضعيفة من الطلب والإرادة. وعليه فلا يكون المنع من الترك وعدمه مقوّمين لحقيقة الوجوب والاستحباب، بل هما من لوازم شدّة
الطلب وضعفه.
بينما ذهب
المحقّق النائيني إلى قول آخر وتبعه على ذلك بعض، وهو أنّ الوجوب ليس مدلولًا للدليل اللفظي، وإنّما مدلوله طلب الفعل أو
البعث إليه أو إبراز اعتباره على ذمّة المكلّف فحسب، ولا يدلّ على ما عدا ذلك. و
الوجوب إنّما يكون بحكم العقل، وذلك لأنّ كلّ طلب يصدر من المولى ولا يقترن بالإذن في المخالفة يحكم العقل بأنّ وظيفة العبوديّة تقضي بلزوم
امتثاله و
إطاعته ، وبهذا اللحاظ ينتزع منه عنوان الوجوب، بخلاف ما إذا أقام المولى قرينةً على
الترخيص وجواز الترك فإنّ العقل لا يلزم المكلّف بموافقة هذا الطلب، وبهذا اللحاظ ينتزع منه عنوان الاستحباب، فكلّ من الوجوب والاستحباب شأن من شئون حكم العقل المتعلّق بطلب المولى.
وهناك قول آخر: وهو أنّ الوجوب ليس مدلولًا وضعيّاً للدليل اللفظي، وإنّما مدلوله هو الجامع بين الإرادة الشديدة والضعيفة، بل الوجوب مستفاد من
إطلاق الدليل ومقدّمات الحكمة، وذلك لأنّ المولى إذا أمر بشيء وكان في مقام البيان ولم ينصب قرينةً على إرادة الجامع بين الإرادة الشديدة والضعيفة فمقتضى
الإطلاق وعدم نصب قرينة على إرادة المرتبة الضعيفة من الإرادة هو حمل الأمر على بيان المرتبة الشديدة، حيث إنّ بيانها لا يحتاج إلى مئونة زائدة دون بيان المرتبة الضعيفة.
وإذا نصب المولى قرينةً على عدم إرادة المرتبة الشديدة فلا يكون العبد ملزماً بالفعل، ويعبّر عن هذه المرتبة بالاستحباب، كما يعبّر عن المرتبة الشديدة المبرزة بالوجوب.
وتفصيل الكلام في هذه الآراء والمباني موكول إلى
علم الأصول .
وهو لغة
الدعاء إلى الشيء، وندب القوم يندبهم ندباً: دعاهم وحثّهم.
وأمّا في
اصطلاح الفقهاء والاصوليّين فهو كلّ ما رغب فيه بما يستحقّ المدح ولا يستحقّ بإخلاله الذمّ.
وقيل: إنّ المندوب هو
المطلوب فعله شرعاً من غير ذمّ على تركه مطلقاً.
وقيل: إنّه ما بعث المكلّف على فعله على وجهٍ ليس لتركه تأثير في
استحقاق الذمّ على حال.
وقيل: ما فعله خير من تركه.
وقيل: ما يمدح على فعله ولا يذمّ على تركه.
وغير ذلك من التعابير المختلفة الراجعة إلى مقصود واحد.
وقد صرّح بعضهم بأنّه يرادف المستحبّ المندوب والمرغّب فيه و
النافلة و
التطوّع والسنّة و
الإحسان .
وهو لغة الزيادة، ولذا سمّيت
الغنيمة نفلًا.
وأمّا في الاصطلاح فهو لفظ مرادف للاستحباب والندب كما تقدّمت الإشارة إليه.
وهو
التبرّع ، يقال: تطوّع بالشيء تبرّع به.
وأمّا في الاصطلاح فهو أيضاً مرادف للاستحباب كما تقدّم.
وهو لغة الطريقة و
السيرة .
وأمّا اصطلاحاً فقد تقدّم أنّ بعض الفقهاء والاصوليّين جعلوها مرادفةً للمستحبّ والمندوب، إلّا أنّ بعضهم عرّفها بأنّها هي المندوب الذي واظب
النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فعله.
وتطلق السنّة على ما صدر عن
المعصوم من قول أو فعل أو
تقرير ،
كما أنّها قد تطلق على ما يقابل
البدعة ، ويراد بها كلّ حكم يستند إلى اصول
الشريعة في قبال البدعة، حيث تطلق على ما خالف اصول الشريعة.
وعلى هذا فللسنّة معنى آخر غير المستحبّ والمندوب.
وهو بمعنى الظرف وحسن
التناول ،
يقال: أدُب- كحُسن- يأدُب أدباً: ظرف، فهو أديب وأدِب،
وأدبتَهُ: علمته
رياضة النفس ومحاسن
الأخلاق .
و
أصل الأدب: الدعاء، وسمّي أدباً لأنّه يدعو الناس إلى
المحامد .
وقد أطلق الفقهاء الأدب على الفعل المطلوب لكمال فعل آخر من عبادة أو معاملة أو غيرهما
كالاستياك و
التمضمض و
الاستنشاق ، فإنّها مطلوبة لغرض كمال
الوضوء .
ويستفاد من كلماتهم أنّه لا فرق في ذلك بين ما إذا كان الحكم المتعلّق بالفعل الأدبي حكماً ندبيّاً كالاستياك فإنّه من
آداب الوضوء المندوبة، أو حكماً كراهيّاً كالتوضّي في مكان
الاستنجاء ، أو وجوبيّاً كستر العورة عن
الناظر المحترم عند التخلّي، أو تحريميّاً
كاستقبال القبلة عند التخلّي.
ومن الظاهر أنّ ما يكون أدباً ومطلوباً من المكلّف في موردي الحرمة و
الكراهة هو ترك الفعل، وحينئذٍ فما هو من آداب التخلّي إنّما هو ترك
الاستقبال ، كما أنّ من آداب الوضوء هو ترك التوضّي في مكان الاستنجاء لا فعله.
وقد ظهر بما
ذكرنا أنّ الأدب من الجهة المتقدّمة يكون أعمّ وأوسع من المستحبّ؛ إذ قد يستعمل الأدب فيما إذا لم يكن الفعل مستحبّاً، كما أنّه لا يصحّ إطلاق الأدب على الفعل الذي لم يكن دخيلًا في كمال فعل آخر
كالتصدّق ، فإنّه لا يتّصف بالأدب، بل يتّصف بالاستحباب والندب، وعليه فيكون الأدب من هذه الجهة أخصّ من المستحب، وللأدب إطلاقات اخر. والتفصيل في موضعه.
كثيراً ما يستفاد حكم الاستحباب من مادّة الأمر مثل (آمرك) وصيغته مثل (صلّ) إذا اقترنتا بقرينة تدلّ على الترخيص في الترك، وهي قد تكون متّصلة وقد تكون منفصلة، كما أنّها قد تكون لفظيّة، وقد تكون غير لفظيّة.
والقرينة إذا كانت متّصلة فهي تمنع من ظهور مادّة الأمر أو صيغته في الوجوب، وتصرفهما إلى الاستحباب. وأمّا إذا كانت منفصلة فإنّها وإن لم تمنع من ظهورهما في الوجوب، إلّا أنّ مقتضى الجمع العرفي بين الدليل المتضمّن للقرينة الدالّة على الترخيص في الترك والدليل المتضمّن لمادّة الأمر أو صيغته هو حمل دليل الوجوب على الاستحباب، كما إذا أمر المولى
بإكرام أحد فإنّه يدلّ على وجوب إكرامه، ولكن لو صدر منه في دليل آخر ما يدلّ على الترخيص في تركه- كأن يقول: لا بأس بتركه- فالجمع العرفي بينهما يقتضي حمل الأمر بالإكرام على الاستحباب.
قال
السيّد الحكيم : إنّ «أكثر المستحبّات قد استفيد استحبابها من الجمع العرفي بين دليلي الإلزام والترخيص».
وقد يستفاد حكم الاستحباب من بعض العناوين كعنوان النفل والنافلة والتطوّع.
وكذا مثل لفظ (ينبغي)، كما أشار إلى ذلك غير واحد من الفقهاء،
بل قيل: إنّه اشتهر ظهوره في الاستحباب، إلّا أنّ بعضهم
كالمحقّق البحراني أنكر ذلك. وحينئذٍ فلا يدلّ على الاستحباب، إلّا إذا اقترن بقرينة دالّة عليه.
وكذلك من ألسنة الاستحباب
ذكر الثواب وترتيبه على عمل كما إذا ورد «من زار مؤمناً فله كذا وكذا من
الثواب ».
وهناك قاعدة عامة وردت في أحاديث معتبرة أنّ من بلغه شيء من الثواب على عمل فعمله كان له ذلك الثواب وقد استفاد منها بعض الفقهاء استحباب كل عمل يبلغ عليه ثواب ولو في رواية غير معتبرة وتسمّى بقاعدة (من بلغ) أو (التسامح في أدلّة السنن) سيأتي البحث عنها.
للمستحبّ عدّة تقسيمات:
فالأوّل: ما يكون مستحبّاً لنفسه لا لأجل مستحبّ آخر ككثير من المستحبّات، مثل النوافل اليوميّة والصوم المندوب في أيّام مخصوصة و
النكاح و
زيارة المشاهد المشرّفة. والثاني: ما يكون مستحبّاً لغيره، مثل قطع المسافة للحجّ المندوب والطهارات الثلاث التي تستحبّ لأجل غاياتها المستحبّة بناءً على عدم استحبابها نفساً، كالوضوء للصلاة المندوبة أو لدخول المسجد، وكذا
غسل الجنابة أو التيمّم للصلاة المندوبة.
فالأوّل: ما يكون مستحبّاً من دون أن يكون شيء آخر عدلًا له وبديلًا عنه في عرضه كغالب المستحبّات. والثاني: ما يكون له عدل وبديل، فلا يتعلّق به حكم الاستحباب بخصوصه، بل المستحبّ هو أو عدله، ومن ذلك حكاية حيعلات
إقامة أو
أذان الغير، فإنّها مستحبّة تخييراً بينها وبين تبديلها بالحوقلة، بأن يقول: لا حول ولا قوّة إلّا باللَّه. و
التبديل هو الأولى.
فالأوّل: ما يتعلّق بكلّ أحد، ولا يسقط بفعل الغير كغالب المستحبّات. والثاني: ما يستحبّ على الجميع، إلّا أنّه يكتفى بفعل البعض فيسقط عن الآخرين مثل أذان
الإعلام و
الابتداء بالسلام على المشهور، فإذا كان الداخلون جماعة يكفي سلام أحدهم،
وكذا الأمر بالمستحبّ والنهي عن المكروه.
أو
التعبّدي و
التوصّلي ، فالأوّل: مثل النوافل والصوم المستحبّ و
الصدقة .
والثاني: مثل النكاح وزيارة
الاخوان وأذان الإعلام على أحد القولين.
والمستحبّ التعبّدي لا يقع صحيحاً إلّا إذا اقترن بنيّة القربة، ولا يعتبر فيه أن ينوي كون الفعل مستحبّاً ومندوباً، بل يكفي أن يأتي به طاعةً للَّه تعالى ولو لم ينو الاستحباب والندب. بخلاف المستحبّ التوصّلي، فإنّه يقع صحيحاً وإن لم ينو به
القربة إلى اللَّه تعالى، إلّا أنّه لو نواها استحقّ بلطف اللَّه الثواب.
فالأوّل: مثل الصوم المندوب والنوافل الراتبة وغسل الجمعة. والثاني: مثل الصدقة و
الإقراض وعيادة المريض.
فالأوّل مثل النافلة، فإنّه قد تعلّق به الأمر الاستحبابي لا في ضمن فعل آخر، والثاني مثل
القنوت فإنّه قد تعلّق به الأمر الاستحبابي في ضمن الصلاة.
فالأوّل هو ما أدرك العقل حسنه ورجحانه، والثاني هو ما ورد في الشرع ما يدلّ على حسنه ورجحانه، والفعل قد يكون حسناً وراجحاً عقلًا وشرعاً كالعفو عن الناس والإحسان إليهم.
فالأوّل ككثير من المستحبات مثل الصدقة فإنّها في حدّ نفسها ومع عدم عروض عنوان آخر عليها مندوبة شرعاً، والثاني هو ما إذا لم يكن الفعل في حدّ نفسه مندوباً ومحبوباً إلّا أنّه من أجل عروض عنوان ثانوي عليه يصبح مندوباً ومستحبّاً، مثل الفعل
البالغ عليه الثواب، فإنّ الفعل قبل أن يبلغ عليه الثواب لم يكن مستحبّاً ولكن بعد بلوغ الثواب عليه وبعد
اتّصافه بهذا الوصف يصير مستحبّاً، هذا بناءً على دلالة أخبار من بلغ على استحباب الفعل بالعنوان الثانوي، وكذا مثل الفعل الذي لم يحتمل حرمته ومع ذلك لم يقم دليل على وجوبه فإنّه حينئذٍ يستحبّ
الإتيان به؛ وذلك لعروض عنوان ثانوي عليه وهو عنوان
الاحتياط .
ثمّ إنّ من المستحبّات ما يكون استحبابه استحباباً أدبيّاً ويراد به
الرجحان والمطلوبيّة المستفادة من مشروعيّة أصل الأدب واستحبابه أو من ممارسة مذاق الشرع ونحو ذلك، ولا حاجة في
إثبات هذا النوع من الاستحباب إلى دليل خاصّ، كما أشار إليه
المحقّق النجفي في
آداب القاضي حيث قال: «إنّ كثيراً منها (المستحبّات) لا دليل عليها بالخصوص، ولكن
ذكرها الأصحاب وغيرهم من غير
إشعار بتوقّف في شيء منها، ولعلّه لعدم
احتياج الاستحباب الأدبي إلى دليل بالخصوص، ويكفي فيه مشروعيّة أصل الأدب...».
للاستحباب مراتب مختلفة، فمن المستحبّات ما يكون استحبابه مؤكّداً مثل
صلاة الجماعة وغسلي الجمعة
و
الإحرام و
الأذان والإقامة والنوافل الراتبة
و
الاعتكاف وصلاة جعفر
وزيارة المشاهد المشرّفة
والقنوت في
صلاة الفريضة والنكاح
و
عيادة المريض و
العقيقة وتعجيل قضاء الصلوات الفائتة
و
إقراض المؤمن.
ومنها ما لا يكون استحبابه مؤكّداً ككثير من المستحبّات مثل
المرابطة في حال غيبة الإمام عليه السلام وإن كانت مستحبّةً مؤكّدةً في حال حضوره عليه السلام.
ونظيرها الكتابة، فإنّها مستحبّة ابتداءً مع
الأمانة و
الاكتساب . نعم، قد يتأكّد استحبابها بسؤال
المملوك ذلك.
وقد يكون مستحبّ أفضل من مستحبّ آخر في حقّ بعض المكلّفين، ولا يكون كذلك في حقّ بعض آخر منهم، كما في
الطواف المستحبّ فإنّه بالنسبة إلى
المسافر أفضل من الصلاة المستحبّة، وأمّا بالنسبة إلى
أهل مكّة فلا يكون الأمر كذلك، بل الصلاة أفضل من
الطواف .
قد يجب الفعل المستحبّ لسبب طارئ، كما إذا نذر المكلّف للَّه تعالى أن يصوم أو حلف على ذلك يميناً باللَّه سبحانه أو عاهده على
الصيام ، وكذا لو أمر به أحد
الوالدين ، كما لو أمره بصلاة الجماعة فإنّه لم يستبعد بعض الفقهاء وجوبها حينئذٍ على الولد بناءً على وجوب إطاعتهما مطلقاً،
وكذا ذهب بعضهم إلى وجوب الجماعة على من لا يحسن
القراءة مع قدرته على التعلّم إذا ضاق الوقت عن تعلّمها،
وكذا إذا ضاق الوقت عن
إدراك الركعة وكان هناك
إمام في حال الركوع فيجب حينئذٍ
الاقتداء به،
وتجب الجماعة أيضاً إذا كان ترك
الوسواس موقوفاً عليها.
فإنّ جميع هذه الموارد من تحوّل المستحبّ إلى الواجب، ومنه أيضاً إقراض المضطرّ أو
إطعامه .
ثمّ إنّ مقتضى دليل الترخيص في المخالفة والترك في المستحبّات جواز مخالفتها وتركها وعدم تحوّلها إلى الواجبات حتى بعد الشروع فيها، وعليه فلا يوجب الشروع في المستحبّ أن يتحوّل إلى الواجب، على أنّه هو مقتضى الأصل في المسألة وهو
استصحاب عدم الوجوب الثابت قبل الشروع، وعلى تقدير عدم جريانه يجري
أصل البراءة عن الوجوب.
ويظهر من كلام
الشهيد الأوّل أنّ الإماميّة قد أجمعوا على عدم وجوب النفل بالشروع فيه إلّا
الحجّ و
الاعتمار ، وكذا الاعتكاف على أحد الأقوال، وفيه قولان آخران: الوجوب بالشروع فيه، والوجوب بمضيّ يومين.
قد تقدّم أنّ المستحبّ لا يتحوّل إلى الواجب بسبب الشروع فيه، بل يبقى على استحبابه إلى نهاية العمل. وعلى هذا فالمستحبّ قد يكون غير عباديّ، وقد يكون عباديّاً، أمّا الأوّل فلا
إشكال في جواز
إبطاله وقطعه، وأمّا الأخير فقد صرّح الشهيد الأوّل بجواز قطعه إلّا أنّه مكروه، وتتأكّد الكراهية في الصلاة وفي الصوم بعد
الزوال .
وفي قبال ذلك ذهب بعض الفقهاء إلى حرمة قطع
العبادة المندوبة مطلقاً.
وتفصيل ذلك في محلّه.
لا إشكال في صحّة
الإجارة وجواز أخذ
الاجرة على الأعمال المستحبّة التوصّلية، وأمّا أخذ الاجرة على العبادة المستحبّة فالكلام فيها في محلّه.
المشهور جواز ترك جميع المستحبّات،
وتدلّ عليه الأخبار كقول
الإمام الصادق عليه السلام : «من أتى اللَّه عزّ وجلّ بما افترض عليه فهو من أعبد الناس»،
فإنّ مقتضى الإطلاق أنّه من أعبد الناس مع العمل بالفرائض وإن ترك المستحبّات كلّها، وكذا ما يدلّ على أنّ من أتى بالواجبات لا يسأله اللَّه تعالى عن غيرها.
على أنّ المستفاد من ثبوت
الإذن والترخيص في الترك في باب المستحبّات عدم الفرق بين ترك البعض وترك الكلّ، كما أنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الترك لعذر أو
لتثاقل و
تكاسل ، ولو فرض عدم صحّة
الاستدلال بما تقدّم لكفى أصل البراءة للحكم بالجواز وعدم الحرمة. ولكن يظهر من بعض الفقهاء القول بحرمة ترك المندوبات إذا علم منه
التهاون و
التواني بالسنن وقلّة
المبالاة بها.
واورد عليه بأنّه إن كان المراد التهاون العملي بمعنى عدم امتثالها وتركها في الخارج فهو ليس بحرام، بل هو جائز كما تقدّم. وأمّا إن كان المراد
الاستهانة بأحكام الشرع وعدم
الاعتقاد بها فهو كفر، مع أنّه لا يعبّر عن ذلك ببلوغ الترك حدّ التهاون.
ثمّ إنّه بناءً على حرمة ترك جميع المستحبّات يكون تارك الجميع فاسقاً إن كان معصيةً كبيرةً، وإلّا فلا يكون فاسقاً إلّا إذا أصرّ عليه.
وأمّا بناءً على عدم الحرمة فقد صرّح بعض الفقهاء بأنّ ترك جميع المستحبّات وإن لم يكن محرّماً إلّا أنّه يوجب الخروج عن
العدالة ؛ لأنّه ينافي
المروّة .
قد يكون الفعل الواحد متعلّقاً للوجوب والاستحباب معاً ولكن باعتبارين كما في
غسل الجنابة - بناءً على استحبابه وعدم وجوبه كما هو
المشهور - فإنّه قد يجب للصلاة الواجبة بعد دخول وقتها- بناءً على وجوب مقدّمة الواجب- ولكن وجوبه غيري، ومع ذلك فهو مستحبّ باستحباب نفسي بناءً على استحباب الطهارات الثلاث.
وأمّا إذا كان غسل الجنابة لصلاة مندوبة فإنّه مستحبّ غيري، وهو واجب نفسي بناءً على وجوب غسل الجنابة مطلقاً، سواء كان لما يشترط فيه
الطهارة أو لا.
قد يقع
التزاحم بين المستحبّين بحيث لا يقدر المكلّف على الجمع بينهما في مقام الامتثال، مثل
الاشتغال بكسب المال الحلال أو طلب العلم غير الواجب الذي يكون مزاحماً مع المسير إلى الحجّ، أو إلى مشاهد
الأئمّة المعصومين عليهم السلام، أو السعي في قضاء حوائج
الإخوان المؤمنين، ونحوها من الأعمال المندوبة التي لا يقدر المكلّف على الجمع بينها وبين طلب العلم أو المال الحلال.
قال
المحقّق الخراساني عند تزاحم المستحبّين: «يحكم
بالتخيير بينهما لو لم يكن أهمّ في البين، وإلّا فيتعيّن الأهمّ وإن كان الآخر يقع صحيحاً حيث إنّه كان راجحاً وموافقاً للغرض».
وهناك من قال بعدم وقوع التزاحم في المستحبّات بمعنى أنّه لا مانع من فعليّة الأمر بها جميعاً مطلقاً؛ لعدم لزوم محذور من ذلك.
وتفصيل الكلام في محلّه.
قد يكون الدليلان متكفّلين لحكمين استحبابيّين، أحدهما متعلّق بالمطلق والآخر متعلّق بالمقيّد، كما إذا دلّ أحد الدليلين على استحباب زيارة
الإمام الحسين عليه السلام ، والآخر على استحباب زيارته مع الغسل. والمشهور بين الفقهاء والاصوليين هنا عدم حمل المطلق على المقيّد، بل حمل المقيّد على تأكّد الاستحباب، والأمر بالمطلق على الاستحباب من دون تأكّد. واستدلّ عليه بأنّ غالب المستحبّات تتعدّد بتعدّد مراتبها من حيث القوّة والضعف، وذلك قرينة على حمل المقيّد على
الأفضل والقويّ من الأفراد والمطلق على غيره.
ويرد عليه: أنّ مجرّد الغلبة لا يوجب ذلك بعد فرض أنّ دليل المقيّد قرينة عرفيّة على تعيين المراد من المطلق؛ لأنّ
الغلبة ليست على نحو تمنع عن ظهور دليل المقيّد في ذلك، كما أنّ غلبة
استعمال الأمر في الندب غير مانعة عن ظهوره في الوجوب و
رفع اليد عنه.
وقد وافق
السيّد الخوئي المشهور في عدم حمل المطلق على المقيّد فيما إذا تعلّق الأمر في دليل المقيّد بالقيد بما هو كما هو الغالب في باب المستحبّات، كما إذا دلّ دليل على استحباب
زيارة الإمام الحسين عليه السلام مطلقاً ودلّ دليل آخر على استحباب زيارته في أوقات خاصّة مثل ليلة الجمعة وأوّل ونصف رجب، ففي مثل ذلك لا يحمل المطلق على المقيّد، خلافاً لباب الواجبات؛ لأنّ الموجب لحمل المطلق على المقيّد في الواجبات هو
التنافي بين دليل المطلق والمقيّد، حيث إنّ مقتضى إطلاق المطلق ترخيص المكلّف في تطبيقه على أيّ فرد من أفراده شاء في مقام الامتثال، وهو لا يجتمع مع كونه ملزماً بالإتيان بالمقيّد، وهذا بخلاف ما إذا كان دليل التقييد استحبابيّاً، فإنّه لا ينافي إطلاق المطلق أصلًا؛ لفرض عدم
إلزام المكلّف بالإتيان به، بل هو مرخّص في تركه، فإذا لم يكن تنافٍ بينهما فلا موجب لحمل المطلق على المقيّد، بل لا بدّ من حمله على تأكد الاستحباب وكونه الأفضل.
ولكنّه لم يوافق
المشهور وذهب إلى حمل المطلق على المقيّد في حالات ثلاث اخرى لدليل المقيّد:
الاولى: ما إذا كان لدليل المقيّد مفهوم، كما إذا ورد في دليل: أنّ
صلاة الليل مستحبّة- وهي إحدى عشرة ركعة- وورد في دليل آخر: أنّ استحبابها فيما إذا أتى المكلّف بعد نصف الليل، ففي مثل ذلك لا بدّ من حمل المطلق على المقيّد؛ لأنّ دليل المقيّد ينفي الاستحباب في غير هذا الوقت من جهة دلالته على
المفهوم .
الثانية: ما إذا كان دليل المقيّد مخالفاً لدليل المطلق في الحكم، كما إذا دلّ دليل على استحباب
الإقامة في الصلاة، ثمّ ورد في دليل آخر النهي عنها في مواضع كالإقامة في حال الحدث، ففي مثل ذلك لا بدّ من حمل المطلق على المقيّد أيضاً؛ لأنّ ظاهر النهي في الدليل الثاني
الإرشاد إلى المانعيّة، وعليه فالحدث مانع عن الإقامة المأمور بها، ومرجع ذلك إلى أنّ عدمه مأخوذ فيها، فلا تكون الإقامة في حال الحدث مأموراً بها.
الثالثة: ما إذا كان الأمر في دليل المقيّد متعلّقاً بنفس التقييد لا بالقيد، كما إذا ورد في دليل: أنّ الإقامة في الصلاة مستحبّة، وورد في دليل آخر: فلتكن في حال
القيام - مثلًا- ففي مثل ذلك أيضاً لا بدّ من حمل المطلق على المقيّد؛ لأنّ الأمر في الدليل الثاني إرشاد إلى شرطيّة القيام للإقامة، فلا تكون الإقامة في غير حال القيام مأموراً بها.
وتمام البحث في ذلك موكول إلى
علم الأصول .
•
قاعدة التسامح في أدلة السنن ،
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۱۹۸-۲۱۰.