الانتزاع
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو
القلع و
استخراج الشيء.
أصله
النزع بمعنى
الجذب و
القلع . ومن هنا قيل: انتزع
الشيء فانتزع، أي اقتلعه فاقتلع. وانتزع
الرمح ، أي اقتلعه.
ويقال للرجل إذا استنبط معنى آية من
كتاب اللَّه عزّوجل: قد انتزع معنى
جيّداً .
ونزعه مثله، أي استخرجه.
واستعمل في لسان
الفقهاء في
المعنى اللغوي نفسه.
كما استعمل في لسان
الاصوليّين و
الفلاسفة مصطلح
العنوان الانتزاعي في معنى خاص، وهو العنوان الذي ينتزع من خارج
الذهن ولكنه لا يحكي
مقولة متأصّلة في
الخارج ، فهي تختلف من ناحية عن الامور
الاعتبارية المحضة
كالوجوب و
الحرمة و
الحدث و
الطهور ؛ لأنّها ليست منتزعة عن الخارج، وتختلف من
ناحية اخرى عن المقولات والعناوين
الحقيقية كالجواهر
والأعراض في الخارج من جهة أنّ تلك العناوين تحكي
اموراً واقعية متأصّلة في الخارج
كالتحتية و
الفوقية و
الكلّية و
الجزئية ونحوها، والتي قد تنتزع من امور
متباينة في
الحقيقة بل ومتضادة.
وهناك معنى آخر للأمر الانتزاعي، وهو ما يستفاد من دليل
الحكم بالتبع لا
بالأصالة و
ابتداءً ، كأن تستفاد حجّية
الأمارة من الأمر
باتّباعها، مثل: ما لو قال
الإمام الصادق عليه السلام : «صدّق
العادل ، أو خذ عنه معالم
دينك » الذي ينتزع منه حجّية خبر العادل
واعتباره عند الشارع،
أو ما يستفاد من الأوامر المتعلّقة
بالمركّبات الشرعية
كالصلاة و
الحجّ من الجزئية و
الشرطية و
المانعية لأجزائها
وقيودها، فإنّها امور وعناوين
مجعولة بالتبع ومنتزعة من تلك الأوامر و
النواهي .
وهو إمّا
مرادف للانتزاع
- كما عن بعض العلماء- أو أعم منه باعتبار أنّ الامور الاعتبارية منها: ما يحتاج إلى
المنشأ في اعتباره، وهو المسمّى بالامور الانتزاعية، ومنها: ما لا يحتاج إلى ذلك، وهو المسمّى بالاعتباريات أو الاعتباريات
المحضة .
أو
مباين كما عن بعض آخر،
وسيأتي تفصيل ذلك.
وهو
إبراز الاعتبار و
إظهاره ،
وقد يطلق على
نفس الاعتبار ؛ لأنّ
الإنشاء إيجاد اعتباري في قبال الإيجاد التكويني.
وقد يكون منشأً للانتزاع كما في انتزاع
البعث و
الزجر من إنشاء الأمر.
وهو المفهوم الفلسفي للانتزاع، وهو عملية ذهنية يقوم بها
العقل لصياغة مفهوم كلّي عن طريق
الصورة المحسوسة التي ترد الذهن القابل
للانطباق عليها.
يجري
البحث عن الانتزاع تارة في
الفقه واخرى في الاصول، أمّا في الفقه فليس للانتزاع بمعناه
الاصطلاحي حكم شرعي؛ لأنّه أمرٌ قهري يدور بين
الوجود و
العدم ، فلا يتعلّق به الحكم الشرعي.
وأمّا الانتزاع بالمعنى اللغوي الجاري على
ألسنة الفقهاء والذي هو بمعنى
القلع و
الأخذ ونحوهما، ففي نفسه قد لا يحكم بحكم خاص، ولكن إذا توقّف عليه استنقاذ حقّ من
استرداد عين أو مال أو
إثبات ذلك، فقد يكون جائزاً، بل ربما يكون واجباً كما قد يكون حراماً في بعض الأحيان، وإليك ذكر جملة من تلك الموارد:
ثمّة موارد في الفقه يحكم فيها بجواز انتزاع
العين أو
المال أو نحوهما من طرف آخر، ونذكر نماذج لها
بإيجاز هنا:
حيث يجوز لصاحب العين التي بيد غيره انتزاعها منه
قهراً إذا لم يكن له حقّ في وضع
اليد عليها
بإجارة أو غيرها، ولم يرضَ
بتسليمها طوعاً ما لم يثر بانتزاعه لها
فتنةً وإن لم يأذن الحاكم ولم يثبت عنده.
ويلحق بالعين
الدين الحالّ أيضاً إذا كان
المدين منكراً أو
مقرّاً مماطلًا، وأمّا المقرّ
الباذل فلا يجوز الأخذ منه بدون تعيينه
لتخيّره في جهات
القضاء .
حيث يجوز بيع
العبد الجاني خطأً ويضمن
المولى أقلّ الأمرين من قيمته وأرش
الجناية . ولو امتنع فللمجني عليه أو وليّه انتزاع العبد فيبطل
البيع .
يجوز للمالك انتزاع
السلعة من المفلّس إذا لم تزد زيادة متّصلة. وقيل: يجوز وإن زادت.
إذا طلبت
الامّ اجرة الرضاع أكثر من
المتعارف فيجوز
للأب انتزاع الطفل وتسليمه إلى
مرضعة اخرى.
إذا كان
الولد حيّاً في بطن امّه
الميّتة انتزع بشقّ بطنها من غير
خلاف بين علمائنا.
لو كان
الملتقط للصبي
فاسقاً قيل: ينتزعه
الحاكم من يده ويدفعه إلى
عدل ؛ لأنّ
حضانته استئمان ولا
أمانة للفاسق. ولكن ذهب
المحقّق الحلّي إلى أنّ
الأشبه أنّه لا ينتزع.
وكذا الكلام فيما لو التقطه من لا
استقرار له في موضع
التقاطه - كالرحّل من
الناس - لأنّه لا يؤمن من
ضياع نسبه.
هل يجوز لليد
السابقة انتزاع العين من اليد
اللاحقة؟
استشكل
العلّامة الحلّي في ذلك؛
للتعارض بين
استصحاب ملك السابق وبين الحكم بملكية الملتقط.
وتفصيله في محلّه.
يجب الانتزاع في بعض الحالات كما في الموارد التي توجب ضياع الحقّ ويلزم
الإجحاف بالآخرين فيها، كما إذا لزم من
بقاء المال على حاله
تضييع حقّ
الورثة الضعاف، فيجب انتزاع نصيب
الصبي و
المجنون و
الغائب .
وكما إذا أصدق
المرأة من المال
الحرام ، فيجب انتزاعه منها ويعوّضه بمال
حلال .
وكذلك انتزاع المال من الغاصب أو المستولي بغير حقّ عليه مع مطالبة المالك، حيث يجب على الحاكم إرجاع المال إلى أصحابه.
لا يجوز انتزاع مال
المسلم منه بغير حقّ، كما لا يجوز انتزاع ما يملكه
الذمّي و
الكافر -
كالخمر و
الخنزير - وكذا ما يأخذه
المخالف .
ولا يجوز الانتزاع من ذي اليد
بدعوى غيره من غير
بيّنة .
وكذا لا تنتزع
الأمانة من العبد بعد
التحرير .
و
الضابط الكلّي في ذلك هو أنّ
الأصل عدم انتزاع مال الغير إلّامع قيام دليل مرخّص.
تعرّض الاصوليّون للانتزاع في جملة من المباحث نشير إلى أهمّها
إجمالًا فيما يلي:
تقدّم تعريف
العنوان الانتزاعي عند الاصوليّين و
الفرق بينه وبين العناوين الاعتبارية والعناوين
المتأصّلة الحقيقية.
وقد نسب
المحقّق النائيني إلى
الشيخ الأنصاري أنّ
العلاقة بينهما هي علاقة
الترادف ؛
ولعلّه لأنّ المفاهيم الاعتبارية والانتزاعية وجميع مقولة
الإضافات .
بل وكذلك
الارتباطات التي اشتهرت أنّها اعتبارات صرفة،
منشؤها اعتبار من بيده الاعتبار- وإن لم تكن في
التحقّق - كالأعيان الثابتة والأعراض المتأصّلة- لها تحقّق خاص بحيث يمكن أن يشار إليها، وذلك معنى انتزاعها،
لا أنّ
النفس تخلق شيئاً بلا حقيقة له ولا
واقعية -
كالتخيّلات الصرفة- فحقيقة الفوقية شيء واقعي يتحقّق في
نفس الأمر عند تحقّق منشئها، ولو لم يكن في
العالم لاحظ يلحظها ويدركها العقل عند تحقّقها، ولذا لا ينتزعها من غير منشئها.
وكذا
الملكية فإنّها
أولوية واقعية للمالك
بالتصرّف في ملكه كيفما يشاء ولو لم يكن لاحظ يلحظها ومعتبر يعتبرها.
وكذلك
الزوجية هي أمر في نفس الأمر و
ارتباط معنوي يستتبع
الحسن و
القبح حتى ادّعي وجودها في
الحيوانات ؛ لمشاهدة
آثارها، وكيف يدّعى أنّ
أمثال ذلك ممّا اجتمع العقلاء على تخيّله عند منشئه
؟! وفي مقابل هذا
القول ذهب المحقّق النائيني ومن تبعه إلى أنّ الامور الانتزاعية تباين الامور الاعتبارية؛ لأنّ
وعاء الانتزاع
مغاير لوعاء الاعتبار، وذلك لأنّ للشيء في الموجودات الواقعية
المنحازة - كالجواهر والأعراض- وجوداً
أصيلًا مستقلّاً، وكذا الامور الاعتبارية- كالملكية والزوجية- لها
وجودات مستقلّة أصيلة في عالمها وعالم
الاعتبار .
وهذا بخلاف
الوجود في الامور الانتزاعية، فإنّه لا يتصوّر فيها وجود إلّا وجود منشأ انتزاعها، وأنّ وجوده وجود للأمر الانتزاعي، فلا تقرّر لها في
الخارج فالفارق بينهما جذري لا يختلط أحدهما بالآخر؛ لأنّ الامور الاعتبارية لها تأصّل في الوجود في عالمها، بخلاف الامور الانتزاعية؛ إذ لا وجود لها إلّابوجود منشأ انتزاعها.
هذا، وقد صاغ
المحقّق الأصفهاني هذا
المضمون بصياغة اخرى، وهي أنّ الموجودات الخارجية تقع على قسمين:
أحدهما: ما له وجود
ومطابق في العين، ويعبّر عنه بالموجود بوجود ما بحذائه، كالجواهر وجملة من الأعراض، حيث إنّ وجودها يكون بوجود ما يحاذيها خارجاً وفي عالم العين.
ثانيهما: ما لم يكن كذلك، بل كان من
حيثيات ما له مطابق في العين ويعبّر عنه بالموجود بوجود منشأ انتزاعه، ومنه مقولة
الإضافة .
ويقابلهما الاعتبارات الذهنية من الكلّية والجزئية
والنوعية و
الجنسية والفصلية، فإنّ معروضها الامور الذهنية لا العينية.
ومقصوده من الاعتباريات الذهنية الامور الاعتبارية في اصطلاح
علم المنطق .
وهناك مصطلح للاعتباريات عند الاصوليّين وهي الامور
الوضعية التي تتحقّق
بالإنشاء و
الجعل كالملكية والزوجيّة و
الطهارة والحدث، والامور الانتزاعية تفترق عن الامور الاعتبارية بهذا المصطلح، بأنّ المصحّح لاعتبار الامور الاعتبارية هو الجعل والإنشاء، فما لم يكن هناك جعل فلا وجود للمعتبر.
وهذا بخلاف الامور الانتزاعية، حيث إنّ المصحّح للانتزاع فيها ليس الجعل بل هو قهري واقعي حاصل في
موطنه اللائق به.
وربما يوسّع في الانتزاعي فيعم الاعتباريات بالمصطلح
المنطقي؛ لأنّها معانٍ منتزعة من معان
ذهنية، كما ربما يوسّع في الاعتباري فيعم الانتزاعيات الخارجية لتقوّمها بالاعتبار.
بل ربما يوسّع في الانتزاعي والاعتباري فيعم
الماهيات جميعاً، فيقال:
الماهية انتزاعية اعتبارية- في قبال
أصالة الوجود - فهي منتزعة من الوجود الخاص وجوده به بالعرض.
وعلى أيّة حال فالامور الانتزاعية كما تنتزع من
الأشياء الخارجية كذلك تنتزع من الامور الاعتبارية أيضاً، فكما أنّه إذا ترتّب وجود شيء على شيء آخر في الخارج تنتزع من هذا
الترتّب مقولة
السببية والمسببية لهما، كذلك
الحال في الامور الاعتبارية، فإذا جعل المولى حكمه مترتّباً على شيء، كما إذا قال: من حاز ملك بترتيب الملكية على
الحيازة ، أو قال: من مات فما تركه
لوارثه، بترتيب ملكية
الوارث على موت المورّث، أمكن أيضاً انتزاع
علاقة السببية بين هذين الأمرين، فيقال: إنّ الحيازة سبب لملكية
الحائز وموت المورّث سببٌ لملكية الوارث للتركة في
الجملة .
وبهذا
البيان يعلم أنّ هناك أربعة امور:
الأوّل: الامور
المتأصّلة الخارجية
كالجواهر والأعراض.
الثاني: الامور الاعتبارية
الوضعية التي يقع أمرها بيد
جاعلها .
الثالث: الامور الاعتبارية
الذهنية أو المنطقية.
الرابع: الامور الانتزاعية، وهي
واقعية بمنشأ انتزاعها لا بنفسها وذاتها، وهي على
قسمين :
أ- ما كان منشأ انتزاعها الامور المتأصّلة الخارجية.
ب- ما كان منشأ انتزاعها الامور الاعتبارية.
قسّم الاصوليّون الأحكام
المجعولة من قبل
المشرّع إلى قسمين:
وهي الامور الوضعية التي يجعلها المشرّع مباشرة كالملكية والزوجية و
الوجوب و
الحرمة .
وهذا
النوع من الأحكام تكون
اعتبارية بالمصطلح الاصولي.
أي التي ينتزعها العقل والذهن من
الأحكام الاعتبارية المجعولة
بالأصالة ، كالجزئية والشرطية والسببية و
الصحّة و
البطلان ، وهي أحكام انتزاعية؛ لأنّها عناوين تنتزع من
الأمر بأجزاء
المركّب وقيوده، أو من ترتيب حكم على
موضوع أو شرط ونحو ذلك، فليست هي أحكاماً وضعية، بل كسائر العناوين الانتزاعية تكون واقعية بواقعية مناشئ انتزاعها.
إلّاأنّ منشأ انتزاعها حكم اعتباري مجعول؛ ولهذا يقال عنها بأنّها أحكام مجعولة
بالتبع، أي بتبع جعل منشأ انتزاعها.
وقع
الاختلاف بين الاصوليّين حول
إمكان إجراء
الأصل العملي من
استصحاب أو
براءة عن الحكم الانتزاعي إذا أصبح
مشكوكاً، كما إذا شكّ في جزئية
السورة الكاملة في
الصلاة، فهل يمكن
إجراء أصل البراءة عنها كما نجريه عن الوجوب أو الحرمة المشكوكين، وكما إذا شكّ في وقوع خلل في الصلاة، فهل يمكن إجراء استصحاب
بقاء صحّتها؟ أو شكّ في سببية
الغليان للحرمة في
العصير الزبيبي فهل يمكن إجراء استصحاب بقاء السببية الثابتة في حال العنبية أم لا يمكن ذلك؟
ذهب بعض الاصوليّين إلى
جريان الأصل العملي في
الأحكام الانتزاعية؛ لأنّ
الشرط في جريان الأصل العملي عن حكم أن يكون أمر وضعه ورفعه بيد
الشارع بما هو شارع، وهذا
محفوظ في الأحكام الانتزاعية؛ لكونها بيد الشارع وضعاً
ورفعاً بتبع جعل منشأ انتزاعها، ولا دليل على لزوم كون الشيء مجعولًا للشارع
مستقلّاً حتى يجري فيه
الأصل .
ولكنّ
الصحيح أنّه لا معنى لجريان الأصل العملي عن الأحكام الانتزاعية، لا لما ذكر من كونها غير مجعولة وليست بيد الشارع لكي يقال بأنّها مجعولة بالتبع،
فإنّ هذا الشرط- أي كون الشيء مجعولًا- ليس شرطاً في جريان الاصول، كيف؟ ونحن نجري الاستصحاب في الموضوعات الخارجية كبقاء
حياة زيد وبقاء
شهر رمضان وغيره، وهي ليست مجعولة أصلًا حتى بالتبع، بل لأنّ الحكم
الثابت بالأصل العملي إنّما هو حكم ظاهري
تنجيزي أو
تعذيري للحكم الواقعي الشرعي.
فلابدّ وأن يكون مصبّ الأصل العملي- سواء كان مجعولًا أو موضوعاً خارجياً- ممّا يترتّب على
إثباته أو
نفيه تنجيز أو تعذير ووظيفة عملية في مورد الشكّ، وليس هو إلّاالحكم الشرعي أو موضوعه، فإنّ المنجّزية و
الجري و
الوظيفة العملية إنّما تترتّب- إثباتاً ونفياً- على
إحراز الحكم المجعول شرعاً صغرىً وكبرى- أي موضوعاً ومحمولًا- وما عدا ذلك من الامور ليس موضوعاً للتنجيز والتعذير.
ومنها الأحكام الانتزاعية؛ فإنّها ليست
المنجّزة والمعذّرة، وإنّما المنجّز والمعذّر منشأ انتزاعها، وهو المجعول الشرعي موضوعاً وحكماً.
و
تفصيل ذلك يطلب من علم الاصول.
الموسوعة الفقهية، ج۱۷، ص۳۷۹-۳۸۷.