إحياء الليل
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو
امتناع النوم بالليل
للاشتغال بالعبادة.
الإحياء هو جعل
الشيء حياً أي ذات
حياة ، و
الليل معروف.
وإحياء الليل
استعارة في
السهر وترك
النوم في جميع الليل أو أكثره، ولعلّ
المنساق منه ولو بحسب
النصوص الدينيّة خصوص ترك النوم
للاشتغال بالعبادة، فليس كل سهر إحياءً، بل لا يبعد
ادعاء عدم شمول الاحياء للسهر لكل
عبادة كتعلّم
الفقه و
الرباط و
الجهاد ونحوها، فيكون
كالتهجّد من هذه
الجهة ، وان كان التهجد أعم كما سيأتي.
وهو
القيام ليلًا إلى الصلاة،
قال
اللَّه تعالى: «يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ • قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا• نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا• أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ
الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ».
فإنّ ظاهر الآية أنّ
قراءة القرآن غير قيام الليل، قال
الطبرسي في
تفسير القيام: «إنّه
عبارة عن الصلاة باللّيل».
وقال
الأردبيلي : «أي قم الليل أيّها المزّمّل بالثياب وأعباء
النبوّة للصلاة في جميع الليل، أو إنّ القيام
كناية عن الصلاة باللّيل».
ولا يتوقّف تحقّقه على
استغراق جميع الليل أو أكثره، بل يتحقّق بقيام ساعة من
منتصفه إلى
طلوع الفجر، وإن كان
الأفضل وقت
السحر ؛ لما ورد في تفسير قوله تعالى: «وَ
الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ»
بالمصلّين وقت السحر،
ولما روي عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال: «من قام من آخر الليل... فتطهّر وصلّى
ركعتين وحمد اللَّه وأثنى عليه وصلّى على
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسأل اللَّه شيئاً إلّا أعطاه...».
إذن قيام الليل قد لا يكون مستغرقاً لأكثره، بخلاف إحياء الليل حيث يتحقّق
باليقظة تمام الليل أو أكثره.
وهو من
الهجود ، ويطلق على النوم والسهر، فهو من
الأضداد ،
يقال: هجد أي نام بالليل، وتهجّد إذا صلّى.
قال اللَّه تعالى: «وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً
مَحْمُوداً ».
ولا يكون إلّا بعد النوم كما صرّح به بعضهم.
فهو كالقيام أعمّ من الإحياء؛
لصدقه ولو بالقيام من النوم للعبادة في جزء من الليل، بخلاف الاحياء.
قال اللَّه تعالى: «وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً».
قال
الزمخشري في
الكشاف :
البيتوتة خلاف
الظلول ، وهو أن يدركك اللّيل، نمت أو لم تنم. وقالوا من قرأ شيئاً من
القرآن في صلاته وإن قلّ فقد بات
ساجداً وقائماً... إلى أن قال: والظّاهر أنّه وصف لهم بالاحياء كلّه أو أكثره، يقال: فلان يظلّ
صائماً ويبيت
قائماً ».
وقال الأردبيلي في
تأييد كلام الزمخشري: «والظاهر هو الظاهر، ولا يبعد تحققه بالأكثر في الليالي والليلة؛ إذ إحياء الكل بعيد، والخروج عن
العهدة مشكل، و
للعيون و
الزّوجات مثلًا حق كما يدل عليه بعض الأخبار».
.
وقال
الفيومي في تعريف البيتوتة: «ولا يكون إلّا مع سهر الليل، وعليه قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ...» ثمّ قال: وقال
الأزهري : قال
الفرّاء : بات الرّجل إذا سَهَر الليل كلّه في طاعةٍ أو
معصية ، وقال اللّيث: من قال بات بمعنى نام فقد أخطأ، أ لا ترى انّك تقول بات يرعى النّجوم، ومعناه ينظر اليها، وكيف ينام من يراقب
النجوم ».
وكيف كان، فلو فسّرت البيتوتة في
الآية بما ذكره
الكشاف و
المصباح فهي تطابق الإحياء في استغراقها الليل أو أكثره وتخالفه في عدم
اختصاصها بالعبادة، أمّا لو فسّرت بمجرد درك الليل ولو في بعضه كما في قوله تعالى: «وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ»
وكما في قول الفقهاء في البيتوتة الواجبة بمنى المتحققة حتى بالنوم فيها بعض الليل فتختلف البيتوتة عن الإحياء من هذه الجهة أيضاً.
لا شكّ في
استحباب القيام في بعض الليل وخصوصاً آخره والاشتغال بالتهجّد والصلاة و
الاستغفار ونحوها طول
السنة ، كما دلّت عليها الآيات بوضوح، وقد مرّ بعضها.
وأمّا الإحياء بالاشتغال بها في جميع الليل أو أكثره وبالنسبة لجميع ليالي السنة فقد يحكم باستحبابه أيضاً؛
لإطلاق الأدلّة من الآيات والأخبار كقوله تعالى: «وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ...»
وقوله: «أَمَّنْ هُوَ
قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ...»
بناءً على شمولهما للاحياء في جميع الليل أيضاً، وقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في رواية
السكوني عن
الإمام الصادق عن آبائه عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «كل عين باكية يوم القيامة إلّا ثلاث أعين: عين بكت من خشية اللَّه، وعين غضّت عن محارم اللَّه، وعين باتت
ساهرة في سبيل اللَّه».
ورواية الصدوق
باسناده عن
جعفر بن محمّد عن
أبيه عن
علي عليه السلام : «أبشر من صلّى من الليل عشر ليله للَّه
مخلصاً ...
ومن صلّى ليلة تامّة
تالياً لكتاب اللَّه عز وجل راكعاً وساجداً وذاكراً اعطي من
الثواب ما أدناه يخرج من
الذنوب كيوم ولدته امّه... ويقول
الربّ تبارك وتعالى
لملائكته : يا ملائكتي انظروا إلى
عبدي أحيا ليله
ابتغاء مرضاتي، أسكنوه
الفردوس وله فيها مائة ألف
مدينة في كل مدينة جميع ما تشتهي
الأنفس وتلذّ
الأعين ولم يخطر على بال سوى ما أعددت له من
الكرامة و
المزيد و
القربة ».
وكذا ما روي من فعل
الأئمّة عليهم السلام من احياء أكثر الليالي من أوّلها إلى الصبح كما في رواية الصدوق باسناده عن
ابراهيم بن العباس عن
الإمام الرضا عليه السلام - في حديث- أنّه كان عليه السلام قليل النوم بالليل، كثير السهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصبح، وكان كثير
الصيام ...».
و
الأخبار في حالات
علي بن الحسين و
الباقر وسائر الأئمّة خصوصاً عليّاً عليه السلام كثيرة.
مضافاً إلى العمومات الواردة في أوصاف
الشيعة كقول علي عليه السلام حينما خرج ذات ليلة من
المسجد - وكانت ليلة
قمراء - فأمّ
الجبانة ، ولحقه جماعة يقفون
أثره فوقف عليهم ثمّ قال: «من أنتم؟» قالوا: شيعتك يا
أمير المؤمنين، فتفرّس في وجوههم ثمّ قال: «فمالي لا أرى عليكم سيماء الشيعة؟!» قالوا: وما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين؟ قال: «صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من
البكاء ، حدب
الظهور من القيام، خمص
البطون من الصيام، ذبل الشفاه من
الدعاء ، عليهم غبرة الخاشعين...».
ولكن مع ذلك كلّه يمكن القول بأنّ
استحباب الإحياء بالنسبة إلى جميع ليالي السنة وبالنسبة إلى جميع
المؤمنين غير ثابت، بل لعلّ
الثابت عدمه؛ إذ لم يثبت منهم عليهم السلام ترغيب عامّة
الناس على مثل ذلك- أي إحياء تمام الليل في عامّة الليالي- ضرورة
أدائه إلى
تعطيل نظام
المعاش ، وإلى
الرهبانيّة و
الاعتزال و
تضييع بعض الحقوق الواجبة، وهي منفيّة في
الشريعة ، بل في بعض الأخبار
النهي عن مثل ذلك بالخصوص، كما في قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه حينما بلغه أنّه يصوم فلا يفطر ويقوم فلا ينام: «لا تفعلنّ، نَم وقُم، وصم وأفطر، فإنّ لعينك عليك حقّاً، وإنّ
لجسدك عليك حقاً، وإن لزوجتك عليك حقاً».
مضافاً إلى العمومات الواردة في
الاقتصاد في العبادة، كرواية
أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «مرّ بي أبي وأنا
بالطواف وأنا حدث وقد اجتهدت في العبادة، فرآني وأنا أتصابّ
عرقاً، فقال لي: يا جعفر يا بُنيّ إنّ اللَّه إذا أحبّ عبداً أدخله الجنّة ورضي عنه
باليسير ». ونحوها رواية الإمام الباقر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول اللَّه: «إنّ هذا
الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرهوا عبادة اللَّه إلى عباد اللَّه...» وفي رواية اخرى عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «لا تكرهوا إلى أنفسكم العبادة». وغيرها.
قال العلّامة في
التذكرة : «ولا يستحبّ
استيعاب الليل بالصلاة لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بلغه... وذكر الحديث الأوّل ثمّ قال: وآخر الليل أفضل من أوّله، قال اللَّه تعالى: «وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» و «وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ». وينبغي أن ينام نصف الليل ويصلى ثلثه وينام سدسه؛ لأنّه روي أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أحبّ الصلاة إلى اللَّه تعالى صلاة
داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه»».
وقد مرّت عبارة
المحقق الأردبيلي في البيتوتة وأنّ للعيون والزوجات حقاً.
ولكنّ الذي يسهّل الخطب أنّه لا تزاحم بين الواجبات والمستحبات، ولا بين أصناف المستحبات على كثرتها على ما هو المحقّق في
علم الاصول، فلا وجه للاشكال من هذه الجهة بعد
افتراض الإطلاق والشمول في أدلّة الاستحباب فيعمل كل أحدٍ بهذه المستحبات على قدر طاقته وبما لا يزاحم سائر الحقوق و
التكاليف . نعم، قد يستشكل في ثبوت الإطلاق في الآيات والأخبار السابقة و
دلالتها على استحباب الإحياء بالنحو المزبور؛ لقوّة
احتمال كونها بصدد بيان مطلوبية الإحياء في الجملة لا مطلقاً وبالجملة.
وكيف كان، فمن
المسلّم المصرّح به نصّاً وفتوى استحباب إحياء الليل من أوّله إلى الصبح بالنسبة لخصوص بعض اللّيالي، بحيث تعرف بليالي الإحياء ونتعرّض لأهمّها بما فيها من الأعمال فيما يلي، وهي:
قال اللَّه عز وجل: «
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ... سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ
الْفَجْرِ »،
وقال عزّ من قائل: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا
مُنْذِرِينَ • فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ
حَكِيمٍ ».
وهذه الآيات بنفسها كافية في الحكم باستحباب إحياء مثل هذه الليلة والاشتغال فيها بطولها بالاستغفار والعبادات وقراءة القرآن و
مناجاة ربّ الأرباب.
مضافاً إلى كثير من الأخبار في هذا المعنى فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من أحيا ليلة القدر حوّل عنه
العذاب إلى السنة القابلة».
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «من أحيا ليلة القدر غفرت له ذنوبه، ولو كانت ذنوبه عدد نجوم
السماء ومثاقيل
الجبال ومكاييل
البحار ».
وادعى
الشيخ الطوسي عدم
الخلاف في أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من
شهر رمضان، كما لا خلاف في أنّها في المفردات من العشر،
وقد حصرتها بعض الروايات في الليالي الثلاث الفرادى المشهورة. ومن هنا قال بعض الفقهاء: يستحبّ إحياء ليلة القدر بإحياء الثلاث؛
لمزيد
الاهتمام بإحياء ليلة القدر مع
إبهامها، ودلالة
القرائن على دخولها في الثلاث.
فقد روى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «اغتسل ليلة تسعة عشر من شهر رمضان، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، واجتهد أن تحييها...».
ويتأكّد إحياء ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين،
و
الأخيرة أخصّ وآكد،
فإنّها الليلة التي يرجى أن تكون ليلة القدر.
وعن
الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم... كان يوقظ
أهله ليلة ثلاث وعشرين، وكان يرشّ وجوه النيّام بالماء في تلك الليلة، وكانت
فاطمة عليها السلام لا تدع أحداً من أهلها ينام تلك الليلة، وتداويهم بقلّة الطعام، وتتأهّب لها من النهار، وتقول:
محروم من حرم خيرها».
وروي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «من أحيا ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان وصلّى فيها مائة ركعة وسّع اللَّه عليه معيشته في الدنيا، وكفاه أمر من يعاديه، وأعاذه من
الغرق و
الهدم و
السرق ، ومن شر
السباع ...».
هذا، ويظهر من بعض الأخبار أنّ إحياء الليالي الثلاث الفرادى مطلوب بحدّ ذاته، مع قطع
النظر عن كون
تعظيمها وإحيائها لمجرد احتمال أن تكون واحدة منها ليلة القدر.
قال
السيّد ابن طاوس : «وجدت في الأخبار أنّ كلّ ليلة من هذه الثلاث ليال المذكورة، فيها
أسرار للَّه جلّ جلاله، وفوائده لعباده
مذخورة ».
فمن ذلك ما روي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «
التقدير في ليلة تسع عشرة، و
الإبرام في ليلة احدى وعشرين، و
الإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين».
وتفصيل
الكلام بذكر الأقوال في تعيين ليلة القدر وما ورد فيها من الأعمال متروك إلى محلّه.
تعدّ العشر الأواخر من شهر رمضان أفضل ليالي الشهر،
وهي أفضل أوقات
الاعتكاف ،
فيستحبّ إحياؤها و
المداومة على العبادات فيها، كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك.
فقد روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل العشر الأواخر ضربت له قبّة شعر وشدّ المئزر».
وعنه عليه السلام قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل العشر الأواخر شدّ المئزر، واجتنب
النساء ، وأحيى الليل، وتفرّغ للعبادة».
صرّح جماعة من الفقهاء باستحباب إحياء تلك الليلتين بفعل الطاعات من
الصلاة والدعاء و
الذكر ونحوها.
وقد ورد في فضل إحيائها والعبادة فيها أخبار، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «من أحيا ليلة
العيد لم يمت قلبه يوم تموت
القلوب ».
وفي رواية
غياث بن ابراهيم عن جعفر ابن محمّد عن أبيه عليهما السلام قال: «كان علي ابن الحسين عليهما السلام يحيي ليلة عيد الفطر بالصلاة حتى يصبح، ويبيت ليلة
الفطر في المسجد».
وفي رواية
الحلبي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في فضل إحياء ليلة
الأضحى لمن بات
بمزدلفة - «وإن استطعت أن تحيي تلك الليلة فافعل؛ فإنّه بلغنا أنّ أبواب السماء لا تغلق تلك الليلة لأصوات المؤمنين، لهم دويّ كدويّ
النحل ، يقول اللَّه عزّ وجلّ ثناؤه: أنا ربّكم وأنتم عبادي أدّيتم حقّي، وحقّ عليّ أن أستجيب لكم، فيحطّ تلك الليلة عمّن أراد أن يحط عنه ذنوبه، ويغفر لمن أراد أن يغفر له»،
إنّ
رجباً شهرٌ عظيم
البركة ، والأخبار بفضله كثيرة،
فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «إنّ رجباً شهر اللَّه
الأصمّ ، وهو شهر عظيم، وإنّما سمّي الأصم لأنّه لا يقاربه شيء من
الشهور حرمة وفضلًا عند اللَّه...».
وأمّا إحياؤه فقد روي عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «... ومن أحيا ليلةً من ليالي رجب أعتقه اللَّه من النار، وقبل
شفاعته في سبعين ألف رجل من المذنبين...»،
وهذا عامّ لجميع لياليه. إلّا أنّه نصّ على إحياء ليلتين من لياليه بالخصوص:
الاولى: أوّل ليلة من رجب، قال ابن طاوس: «إنّ هذه الليلة موسم جليل
المقام جزيل
الإنعام ، أراد اللَّه جلّ جلاله من عباده أن يطيعوه في
مراده بإحيائها بعباداته وطلب
إسعاده و
إنجاده و
إرفاده و
هباته ».
وعدّها
ابن فهد الحلّي من ليالي الإحياء الأربع.
وما روي عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه: «كان يعجبه أن يفرغ نفسه أربع ليالٍ من السنة: أوّل ليلة من رجب، وليلة
النحر، وليلة الفطر، وليلة النصف من
شعبان ».
الثانية: ليلة النصف من رجب، فإنّ فضلها عظيم ومحلّها شريف، فينبغي إحياؤها بالعبادة، كما صرّح به في
الإقبال وغيره.
وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «من صام
أيّام البيض من رجب أو قام لياليها ويصلي ليلة النصف مائة ركعة يقرأ في كل ركعة قل هو اللَّه أحد عشر مرات فإذا فرغ من هذه الصلاة استغفر سبعين مرّة رفع عنه شرّ أهل السماء وشرّ أهل الأرض، ثمّ ذكر كثيراً من الثواب فقال:وذلك كلّه لمن صام البيض من رجب وقام لياليها وصلّى هذه الصلاة وذلك على اللَّه يسير».
قال
الشيخ المفيد : «هذه الليلة من الليالي المشرّفات المعظّمات، اللواتي جعلن علامات لنزول الخيرات والبركات».
وقد صرّح بعضهم باستحباب إحياء هذه الليلة بالصلوات والأدعية،
وجعلها في الاقبال من الليالي الأربع التي تحيى بالعبادات.
ودليله بعض الأخبار، كما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «من أحيا ليلة العيد وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب».
وروي: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان لا ينام ثلاث ليال:... وليلة النصف من شعبان...،
فكان يحييها بعبادة اللَّه عز وجل بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن.
كما كان يحييها
الإمام زين العابدين عليه السلام بذلك وبالاستغفار، فعن
زيد بن علي عليه السلام أنّه قال: كان علي بن الحسين عليهما السلام يجمعنا جميعاً ليلة النصف من شعبان، ثمّ يجزّئ الليل أجزاء ثلاثة، فيصلّي بنا جزءاً، ثمّ يدعو فنؤمّن على دعائه، ثمّ يستغفر اللَّه ونستغفره، ونسأله الجنّة حتى ينفجر الفجر.
وفي رواية سئل الباقر عليه السلام عن فضل ليلة النصف من شعبان، فقال: «هي أفضل ليلة بعد ليلة القدر، فيها يمنح اللَّه تعالى العباد فضله، ويغفر لهم بمنّه، فاجتهدوا في
القربة إلى اللَّه فيها، فإنّها ليلة آلى اللَّه على نفسه أن لا يردّ
سائلًا له فيها ما لم يسأل معصية، وإنّها الليلة التي جعلها اللَّه لنا
أهل البيت بازاء ما جعل ليلة القدر لنبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم، فاجتهدوا في الدعاء و
الثناء على اللَّه...».
قد عدّها
الكفعمي في مصباحه في زمرة ليالي الإحياء السبع.
وروي في فضل إحيائها أيضاً أخبار، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «من أحيا ليلة
عاشوراء فكأنّما عبد اللَّه عبادة جميع الملائكة، وأجر العامل فيها كأجر سبعين سنة».
وما رواه في
المستدرك عن مسار الشيعة للمفيد أنّ من زاره- يعني
الحسين عليه السلام - يوم عاشوراء وبات عنده ليلة عاشوراء حتى يصبح حشره اللَّه تعالى
ملطّخاً بدم الحسين عليه السلام في جملة
الشهداء .
وقد أحيا مولانا الحسين عليه السلام هو وأهل بيته وأصحابه هذه الليلة بالصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن.
ففي رواية المفيد في
الإرشاد أنّه قال
لأخيه العباس عليه السلام : «إن استطعت أن تؤخّرهم إلى
الغدوة وتدفعهم عنّا
العشية لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي احبّ الصلاة له وتلاوة كتابه والدعاء والاستغفار».
فباتوا تلك الليلة ولهم دويّ كدويّ النحل، بين قائم وقاعد وراكع وساجد.
قال المفيد في
المقنعة : «اعلم انّ اللَّه تعالى فضّل ليلة
الجمعة ويومها على سائر الليالي والأيّام- إلّا ما خرج بالدليل من ليلة القدر- فشرّفهما وعظّمهما وندب إلى الزيادة من أفعال الخير فيهما».
وقد ورد في الأحاديث الشريفة
الحثّ و
الترغيب على إحياء هذه الليلة:
فعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إنّ للجمعة حقّاً و
حرمة ، فإيّاك أن تضيّع أو تقصّر في شيء من عبادة اللَّه و
التقرّب إليه بالعمل الصالح وترك
المحارم كلّها، فإنّ اللَّه يضاعف فيه
الحسنات ، ويمحو فيه
السيّئات ، ويرفع فيه
الدرجات ، قال: وذكر أنّ يومه مثل ليلته، فإن استطعت أن تحييه بالصلاة والدعاء فافعل، فإنّ ربّك ينزل في أوّل ليلة الجمعة إلى السماء
الدنيا يضاعف فيه الحسنات، ويمحو فيه السيّئات، وأنّ اللَّه واسع كريم».
وعن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّه تعالى لينادي كلّ ليلة جمعة من فوق
عرشه من أوّل الليل إلى آخره: أ لا عبد
مؤمن يدعوني
لآخرته ودنياه قبل طلوع الفجر فأُجيبه؟ أ لا عبد مؤمن يتوب إليّ من ذنوبه قبل طلوع الفجر فأتوب عليه؟ أ لا عبد مؤمن قد قتّرت عليه رزقه فيسألني الزيادة في
رزقه قبل طلوع الفجر فأزيده واوسّع عليه؟ أ لا عبد مؤمن
سقيم يسألني أن اشفيه قبل طلوع الفجر فاعافيه؟ أ لا عبد مؤمن
محبوس مغموم يسألني أن اطلقه من حبسه قبل طلوع الفجر فاطلقه من حبسه واخلّي سربه؟ أ لا عبد مؤمن
مظلوم يسألني أن آخذ له
بظلامته قبل طلوع الفجر فأنتصر له وآخذ له بظلامته؟» قال: «فما يزال ينادي بهذا حتى يطلع الفجر».
قال الشيخ في مصباحه: «إن قدر على إحيائها فعل، وإلّا بحسب ما استطاع».
ثمّ إنّ هناك بعض الليالي لم يرد نصّ بإحيائها، إلّا أنّه قد وردت أخبار بفضل العبادة فيها على نحو العموم، أو ذكرت لها أعمال خاصة قد لا تلازم الإحياء، ولكن عدّها بعض في ليالي الاحياء، كأوّل ليلة من محرّم حيث عدّها الكفعمي في
المصباح من ليالي الإحياء السبع،
وروى فيها السيّد في الإقبال عدّة أعمال- من دعوات أو صلوات أو عبادات- أهمّها عدّة صلوات بكيفيّات مختلفة.
وهناك بعض الليالي نسب بعض
أهل السنة إلى الشيعة أنّها من ليالي الإحياء عندهم ولم يثبت كونها كذلك على
الخصوص حيث لم ترد بها رواية، كليلة
المبعث حيث حكي عن
ابن بطوطة انّه قال: هذه الليلة تعرف عند الشيعة بليلة المحيا، وليلة
الغدير حيث قال
الزمخشري في
ربيع الأبرار : «إنّ ليلة الغدير معظّمة عند الشيعة محياة فيهم بالتهجّد».
ولعلّ المراد
حكاية عمل عامّة الناس من الشيعة لا نقل
الفتوى .
حيث كان
الغرض من الاحياء التقرّب إلى اللَّه تعالى بالعبادات المنصوصة وغيرها، فينبغي لمن غلبه النوم أو كان مريضاً ولا يقدر على الاحياء أن يكون في نومه متقرّباً إلى اللَّه تعالى برعاية
آداب النوم في الظاهر، و
إصلاح نيته في
الباطن ، بحيث لا يكون نومه نوم
الغافلين ؛ فإنّ هذا
المقدار أقلّ ما يمكن تدارك فضل الاحياء به.
قال السيد بعد ذكر أعمال الاحياء: «وإن غلبك النوم فليكن نومك على نيّة التقرب إلى
العظمة الالهيّة؛ لتستعين به على
النشاط والإقبال على زيادة العبادات للأبواب الربانيّة، فإذا عملت على هذا
النظام تكون قد ظفرت باحياء تلك اللّيلة على
التّمام ، إن شاء اللَّه جلّ جلاله».
وقال في موضع آخر: «فإن غلبك النوم بغير
اختيارك حتى شغلك عن بعض عبادتك ودعائك وأذكارك، فليكن نومك لأجل طلب
القوّة على العبادة كنوم أهل
السعادة ، ولا تنم كالدّوابّ على العادة، فتكون
مُتلفاً بنوم الغافلين ما ظفر به مَن أحياها من
العارفين ».
الموسوعة الفقهية، ج۷، ص۱۵۳-۱۶۵.