الإتلاف (حالاته)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الإتلاف (توضيح).
تختلف الحالات التي يحصل فيها الإتلاف، ويمكن تصنيفها إلى عدة حالات هي:
إذا انفرد
المتلف ثبتت في حقه جميع
الأحكام و
الآثار التي ذكرناها سابقاً، بلا فرق بين أن يكون
مباشراً أو مسبباً، شريطة أن يكون
التلف مستنداً إليه.
إذا تعدّد المباشر لإتلاف واحد- كما لو حمل
جماعة رجلًا فألقوه في
بئر فمات أو حمل كلّ واحد منهم
سكيناً فغرزوه في جسم
شخص غرزة رجل واحد بحيث استند
الموت إليهم جميعاً- فإنّ أحكام الإتلاف وآثاره التي ذكرناها تتعلّق بالجميع، فإن كان ضمان
القيمة أو
الدية تعلّق بهم جميعاً وقسّط بينهم، وإن كان قصاصاً ثبت بحق
الجميع أيضاً، غاية
الأمر أنّ
الولي مخيّر بين أن يعمله فيهم جميعاً ويردّ
فاضل دية كلّ واحد عن جنايته على
أهله ، أو يعمله في بعض دون بعض ويردّ البعض الباقي الفاضل من دية المقتصّ منه عليه، ويكمّل
ولي الدم ما ينقص أو يعفو عن الجميع.
ولو استند الإتلاف إلى البعض دون البعض بحيث أخرجه بعض عن حال
استقرار الحياة وأجهز عليه الآخرون فالضمان على الجماعة الاولى
لاستناد الإتلاف إليهم.
وبهذا المعنى صرّح فقهاؤنا في كلماتهم في الأبواب الفقهية المختلفة مثل
الغصب و
القصاص و
الديات .
قال
المحقق الحلّي : «إذا اشترك جماعة في قتل واحد قتلوا به، والوليّ بالخيار بين قتل الجميع بعد أن يردّ عليهم ما فضل عن دية
المقتول فيأخذ كلّ واحد منهم ما فضل من ديته عن جنايته، وبين قتل البعض ويردّ الباقون دية جنايتهم وإن فضل للمقتولين فضل قام به الولي».
ونحوها عبارة
العلّامة الحلي في
القواعد .
وقال أيضاً: «يقتصّ من الجماعة في
الأطراف كما يقتصُّ في النفس، فلو اجتمع جماعة على
قطع يده أو قلع عينه فله
الاقتصاص منهم جميعاً بعد ردّ ما يفضل لكلّ واحد منهم عن جنايته، وله الاقتصاص من أحدهم ويردّ الباقون دية جنايتهم وتتحقّق
الشركة في ذلك؛ بأن يحصل
الاشتراك في
الفعل الواحد، فلو انفرد كلّ واحد بقطع جزء من يده لم يقطع يد أحدهما، وكذا لو جعل أحدهما آلته فوق يده والآخر تحت يده واعتمدا حتى التقتا فلا قطع في
اليد على أحدهما؛ لأنّ كلًاّ منهما منفرد بجنايته لم يشاركه الآخر فيها، فعليه القصاص في جنايته حسب».
وقال العلّامة الحلّي: «ولو اجتمع
المباشر مع مثله قُدّم
الأقوى . فلو جرحه حتى جعله كالمذبوح وقتله الثاني فالقود على الأوّل، ولو قتل من نزع أحشاؤه وهو يموت بعد يومين أو ثلاثة قطعاً فالقود على القاتل لاستقرار الحياة، بخلاف حركة
المذبوح ».
إذا اجتمع مباشر وسبب في الإتلاف قدِّم المباشر على السبب في الضمان وإن تعاونا وقصدا الاشتراك في الإتلاف.
قال المحقّق الحلّي: «إذا اجتمع
السبب والمباشر قُدِّم المباشر في الضمان على ذي السبب، كمن حفر بئراً في ملك غيره عدواناً فدفع غيره فيها إنساناً فضمان ما يجنيه
الدفع على الدافع».
وعلّق عليه
المحقّق النجفي بقوله: «لما عرفته من تقديم
المباشرة على
التسبيب الذي لم أجد فيه خلافاً بينهم، بل أرسلوه
إرسال المسلّمات في
المقام وفي القصاص والديات، بل عن
كشف اللثام الإجماع عليه».
لكنهم اشترطوا أن يكون المباشر أقوى من السبب دون العكس، ولذلك استثنوا المباشر
الملجأ والمكرَه و
الجاهل بالسبب وغير
المعتدي .
قال
الشيخ الطوسي : «ومتى اجتمعت مباشرة وسبب غير ملجئ فلا ضمان على
صاحب السبب».
ومثلها
عبارة القاضي ابن البراج .
و
المقصود بالسبب الملجئ ما إذا كان
صدور الإتلاف من المباشر بلا
اختياره وبالإلجاء من قبل السبب، فإنّ الإتلاف يستند حينئذٍ إلى السبب
حقيقة لا المباشر كما إذا دفعه على مال أو نفس فتلف المال أو
النفس فانّه يضمن
الدافع لا المدفوع، إلّا أنّه في باب
النفوس وردت
صحيحة عبد اللَّه بن سنان عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام في رجل دفع رجلًا على رجل فقتله، قال: «
الدية على الذي دفع على الرجل فقتله لأولياء المقتول»، قال: «ويرجع المدفوع بالدية على الذي دفعه»، قال: «وإن أصاب
المدفوع شيء فهو على الدافع أيضاً».
وهي تدلّ على
ضمان المدفوع أيضاً للدية، إلّا أنّه يرجع بها على الدافع فيستقر عليه. وقد أفتى به
السيد الخوئي في
تكملة المنهاج خلافاً للمشهور حيث حكموا بالدية على الدافع
ابتداءً كما في باب
الأموال .
وحملها بعضهم- كالسيد
الإمام الخميني في
تحرير الوسيلة - على أنّ الدفع اضطره إلى
الوقوع بحيث كان الفعل منسوباً إليه بوجه.
وأيضاً وقع
الاختلاف عند الفقهاء في
مسألة اخرى تكون من تطبيقات
المقام نتيجة ورود بعض الروايات فيها: وهي ما إذا ركبت
جارية جارية اخرى فنخستها جارية ثالثة فقمصت الجارية
المركوبة قهراً فصرعت
الراكبة وسقطت وماتت فإنّ الفعل
مستند إلى الناخسة دون
المنخوسة لكونها ملجأة، ومن هنا حكم بذلك بعض الفقهاء.
لكن ذهب الشيخ إلى أنّ الدية بينهما نصفين
عملًا برواية
الأصبغ بن نباتة
قال: قضى
أمير المؤمنين عليه السلام في جارية ركبت جارية فنخستها جارية اخرى فقمصت المركوبة فصرعت الراكبة فماتت فقضى بديتها نصفين بين
الناخسة والمنخوسة.
وذهب بعض الفقهاء
كالمفيد في
المقنعة و
ابن زهرة في
الغنية إلى
توزيع الدية على الثلاثة، أثلاثاً
عملًا بما ينقله المفيد في
الإرشاد : أنّ
عليّاً عليه السلام رفع إليه باليمن خبر جارية حملت جارية على عاتقها عبثاً ولعباً فجاءت جارية اخرى فقرصت الحاملة فقفزت لقرصها فوقعت الراكبة فاندقّت عنقها فهلكت، فقضى علي عليه السلام على القارصة بثلث الدية وعلى
القامصة بثلثها، وأسقط الثلث الباقي لركوب الواقصة عبثاً القامصة، فبلغ
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمضاه.
وأصحاب القول الأوّل لم يعملوا بالروايتين؛ لكونهما
خلاف القاعدة، ولضعف سنديهما، ولأنّهما وردتا في قضايا خارجية، فلعلّ في تلك الواقعة كان
التلف بنحو يستند إليهما أو إليهنّ، فإنّ هذا متصوّر، ومن هنا قال
ابن ادريس الحلّي بأنّ الدية على الناخسة إن كانت ملجأة للقامصة، وإن لم تكن ملجأة للقامصة فالدية على القامصة.
ومما يوجب ضعف المباشرة كون المتلِف مكرهاً.
قال المحقق الحلّي: «ولا يضمن
المكره المال وإن باشر الإتلاف، والضمان على من أكرهه؛ لأنّ المباشرة ضعفت مع
الإكراه فكان ذو السبب هنا [[]] أقوى».
وعلّق عليه المحقّق النجفي: «بلا خلافٍ أجده في شيء من ذلك».
وقد خصّص الفقهاء
استثناء المكرَه بما إذا كان المكرَه عليه إتلاف المال دون النفس كما يظهر واضحاً من عبارة المحقّق الحلّي المتقدّمة، وذلك لما اشتهر بينهم من عدم
التقيّة في الدماء.
لكن
السيّد الخوئي جعل المسألة من مصاديق قواعد
التزاحم .
وربّما قيّد الفقهاء الحكم بغير ذلك، والتفصيل راجع إلى بحث (إكراه).
ومما يوجب ضعف المباشرة أيضاً
الجهل و
الغرور . قال المحقّق الحلّي في
المختصر : «ولو جهل المباشر السبب ضمن المسبب كمن غطّى بئراً حفرها في غير ملكه فدفع غيره ثالثاً فالضمان على
الحافر على تردّد».
وعلّق عليه
ابن فهد الحلّي : «وجه
اختصاص الحافر بالضمان انّه فعل أوّل السببين فيحال بالضمان عليه، ولأنّ المباشرة ضعفت بالغرور وقوي السبب فيحال عليه. ويحتمل تضمين الثاني؛ لأنّه المباشر، و
الحوالة في الضمان عليه إذا جامع السبب».
كما علّق عليه
السيّد علي الطباطبائي : «بلا خلاف ظاهر إلّا من الماتن هنا فقد حكم به على تردّد، مع أنّه حكم به في
الشرائع كباقي
الأصحاب من غير تردّد؛ لضعف المباشر هنا بالغرور، وقد اشترط في تقديمه على السبب قوّته وهي مفقودة في
المفروض ».
لكن بعض فقهائنا المعاصرين ناقش في هذا المثال وأثبت
الضمان على كلٍّ من الدافع والحافر لاستناد القتل إلى الدافع ولما دلّ على
تضمين الحافر.
قال السيد الخوئي في تكملة المنهاج: «إذا كان أحد شخصين مباشراً للقتل والآخر سبباً له ضمن المباشر، كما إذا حفر بئراً في غير ملكه ودفع الآخر ثالثاً إليها فسقط فيها فمات فالضمان على الدافع إذا كان عالماً، وأمّا إذا كان جاهلًا فالمشهور أنّ الضمان على الحافر. وفيه إشكال، ولا يبعد كون الضمان على كليهما».
وعلّق عليه في
المباني : «أمّا في صورة العلم فلا خلاف بين الأصحاب في ضمان الدافع، ويدلّ عليه أنّ القتل مستند إليه دون الحافر، وما دلّ على ضمانه ( الحافر) لا يشمل هذه الصورة. وأمّا في صورة جهل الدافع بالحال فالمعروف و
المشهور بين الأصحاب بل يظهر من غير واحد منهم دعوى
الإجماع عليه أنّ الضمان على الحافر دون الدافع.
أقول: إن تمّ إجماع في المسألة فهو، ولكنّه غير تام حيث لا يحصل منه
الاطمئنان بقول
المعصوم عليه السلام. وعليه فلا يبعد أن يكون الضمان على كليهما معاً، أمّا الحافر فلإطلاق ما دلّ على ضمانه، وأمّا الدافع فلاستناد القتل إليه، فيكون داخلًا في القتل الشبيه بالعمد، والجهل بالحال لا يكون رافعاً لصحة استناد القتل إليه. ومن هنا لو دفع شخصاً إلى حفيرة طبيعية لا يعلمها الدافع فسقط فيها فمات أو دفعه إلى
بئر في ملكه لا يعلمها فلا شبهة في ضمان الدافع، ولا فرق بين ذلك وما نحن فيه».
ولكن
السؤال عندئذٍ عن كيفيّة تضمينهما معاً فهل يستقر الضمان على أحدهما المعيّن بحيث يرجع عليه الآخر إذا اخذت منه الدية أو لا يرجع عليه بل يسقط ضمانه أيضاً تلقائياً أو يجب على كلّ منهما نصف الدية؟ وكلّ هذه الفروض لا يمكن
المصير اليها، والواقع هناك فرق واضح بين حالة
انفراد المباشر فلا يقدح جهله في استناد الإتلاف إليه وبين حالة وجود
تسبيب بفعل مكلف آخر، فإنّ جهل المباشر أو غروره يوجب
اعتباره كالآلة المستغلّة من قبل فاعل السبب، فيكون الإتلاف مستنداً إليه عرفاً دون المباشر.
نعم في باب الأموال حيث إنّ نفس وضع
اليد على مال الغير بدون رضاه سبب
مستقل للضمان، فإذا تحقّق ذلك في حق المباشر، كما إذا ساق فرس الغير بدون رضاه فسقط في تلك الحفرة جاز للمالك
الرجوع على المباشر أيضاً، ولكنّه يرجع على السبب
لاستقرار الضمان عليه لكونه أقوى فيستند الإتلاف إليه.
ولعلّ من هذا الباب أيضاً قاعدة رجوع
المغرور على من غرّه بالضمان، كما إذا قدّم لضيفه طعاماً مغصوباً فأكله فإنّ للمالك أن يرجع على كلّ منهما، إلّا أنّه يستقر الضمان على الذي قدَّم
الطعام .
قال
الشيخ الطوسي : «إذا غصب طعاماً فأطعم رجلًا... فلا يخلو
الغاصب ... إمّا أن يقول: كل فيطلق... فهل يرجع
الآكل على الغاصب أم لا؟ قيل: فيه قولان، أحدهما: يرجع؛ لأنّه غرّه. والثاني: لا يرجع... والأوّل أقوى».
والسيد علي الطباطبائي في
الرياض ناقش في الحكم بضمان المباشر أيضاً إذا كان أقوى بدعوى أنّ هذا لا يمنع عن تضمين السبب بعد وجود مقتضيه وجعل الإجماع هو
المخرج في الموردين، قال: «وإذا اجتمعا قدِّم المباشر، بلا خلاف ظاهر، بل ظاهرهم الإجماع عليه. وبه صرّح
المقدّس الأردبيلي ، قال: وكأنّه مجمع عليه، وذلك كما لو سعى إلى
ظالم بآخر فأخذ ماله أو فتح باباً على مال فسُرق، أو دلّ السرّاق إلى مالٍ فسرقوه فإنّ في جميع هذه المسائل يضمن المباشر الذي هو الظالم و
السارق دونه أي دون السبب، قالوا: لأنّه أقوى.
وفيه نظر، فإنّ القوّة لا تدفع الضمان عن ذي السبب بعد وجود ما يقتضي ضمانه أيضاً، وهو ما مرّ من حديث نفي
الضرر ، ولا
امتناع في الحكم بضمانهما معاً، وتخيّر المالك في الرجوع إلى أيِّهما شاء كالغصب، فلولا الإجماع الظاهر
المعتضد بالأصل لكان القول بضمانهما كترتّب الأيدي في الغصب في غاية الحُسن.
وعلى هذا نبّه خالي العلّامة (دام ظلّه) في
حاشيته على شرح
الإرشاد إلّا أنّ ظاهره- سلّمه اللَّه- المصير إليه أو
بقاؤه في
شباك التردّد من دون أن يقطع بما ذكره
الأصحاب ، ولعلّه لتوقّفه في فهم الإجماع وتردّده في قبول
حكايته من ناقله؛ لعدم قطعه به، وهو حسن، ولكن الإجماع ظاهر، فالمصير إلى ما ذكروه متعيِّن، إلّا مع قوّة السبب كالمكرِه و
الملقي للحيوان في المسبعة لو قتله السبع؛
لاتّفاقهم أيضاً على هذا
الاستثناء ، ولذا قالوا: لو أزال القيد عن فرس ونحوه فشرد أو عن عبد
مجنون فأبق أو قفص طائر فطار ضمن المزيل، ونفى
الخلاف في جميع ذلك في
المبسوط ، وعليه في ظاهر
التذكرة إجماع
الإمامية . ويُحتج لضمانه زيادة عليه بما مرّ من حديث نفي الضرر.
ويبقى الاشكال في الحكم بنفي الضمان عن المباشر لو كان، لثبوت ضمانه وإن ضعف بعموم على اليد، ولا مانع من
اجتماع الضمانين كما مرّ، ولكنّ المخرج عن هذا الإشكال كالمخرج عن الإشكال الأوّل بناء على
انعقاد الإجماع في الظاهر على
اختصاص الضمان بالسبب القويّ دون المباشر».
إلّا أنّ الظاهر من كلمات الفقهاء في مورد اجتماع المباشر والسبب أنّ
تضمين المباشر بضمان الإتلاف نشأ بسبب عدم
استناد الإتلاف إلى السبب واستناد الإتلاف إليه؛ إذ
المال قبل تدخُّل المباشر بأخذه أو سرقته أو تنفيره للفرس أو
العبد المجنون أو
الطائر غير تالف بعدُ عرفاً، والمتلفُ له عند
العرف هو المباشر، غاية
الأمر أنّ السبب صار سبباً وآلة بفعله. فقياس ضمان الإتلاف بضمان اليد و
تعاقب الأيادي في غير محلّه.
نعم، هذا لا يمنع عن جواز رجوع المالك في ضمان الأموال إلى السبب في المورد الأوّل والمباشر في المورد الثاني إذا تحقّق ضمان اليد فيهما أيضاً وهو يرجع بعد دفع
البدل إلى الآخر لكونه المتلِف، فيستقرّ عليه الضمان كما هو مقرّر في بحث تعاقب
الأيادي .
قال المحقّق الأردبيلي في اجتماع السبب والمباشر: «إنّ من
المعلوم عقلًا بل
نقلًا إسناد الفعل إلى
القريب دون
البعيد الذي هو سبب السبب وله مدخليّة ما في ذلك الشيء، وهو ظاهر، وكأنّه
مجمع عليه».
وعلّق المحقّق النجفي عليه: «وهو كذلك، بل لعلّ التضمين بما ذكروه من السبب الذي قد عرفت كونه من الشروط
باعتبار قربه إلى علّة التلف، فهو أقوى من غيره من الشرائط التي لها مدخلية في التلف أيضاً، إلّا أنّ القريب منها سمّوه بالسبب وجعلوا التضمين به. ولا ريب في أنّ المباشرة أقرب منه، بل السبب في
الحقيقة قد صار من آلات المباشر في مباشرته كقتله بالسيف والدفع في
البئر و
إلقائه على السكّين المنصوب مثلًا وإغراقه في الماء الذي وضعه الغير وهكذا... (ف) إنّ القوّة إذا كانت على وجه لا يسند الفعل إلّا إلى ذيها ترفع
الضمان عن السبب الذي ظاهر ما دلّ على التضمين به إنّما هو فيما إذا لم يكن معه مباشر قويّ».
ولو تعاون السبب مع المباشر في الإتلاف- كما لو نصب شخص
السكين ودفع آخر ثالثاً عليه فقتله، أو أمسك شخص بآخر ليجيء ثالث فيقتله- فقد يتصوّر
اشتراكهما في الضمان؛ لأنّهما مشتركان في الإتلاف.
لكن
الصحيح أنّ الضمان يتعلّق بخصوص المباشر للإتلاف دون غيره الذي أعدّ له السبب وإن عوقب
لإعداده السبب، لما ذكرناه من عدم تحقّق الإتلاف بفعل ذي السبب قبل فعل المباشر وتحقّقه بفعله.
قال المحقّق النجفي: «قد يشكّ في صورة ما لو قصدا الاشتراك في الإتلاف؛ بأن فعل ذو السبب سببه
لإرادة مباشرة الإتلاف من المتلِف، كما لو نصب سكّيناً في الأرض ليدفعه الآخر عليها مثلًا. مع أنّ التحقيق فيها أيضاً كون الضمان على المباشر الذي يسند الفعل إليه وإن كان ذلك مُعيناً له وصار فعله من المعدّات كما هو واضح بأدنى تأمّل في الفرق بين المعدّات القريبة والبعيدة. ولعلّه لذا قالوا في
القصاص : إنّه يحبس ذو السبب إلى أن يموت، والقصاص على المباشر».
وقدامى
الفقهاء وإن لم يبيّنوا ما ذكرناه بصورة قاعدة كلّية لكنّهم بيّنوه من خلال الأمثلة التي ضربوها لمثل هذه الحالة.
قال المحقّق الحلّي في
انضمام مباشر إلى السبب: «وفيه صور: الاولى: لو حفر واحد بئراً فوقع آخر بدفع ثالث فالقاتل الدافع دون الحافر، وكذا لو ألقاه من
شاهق فاعترضه آخر فقدّه نصفين قبل وصوله الأرض فالقاتل هو المعترض. ولو أمسك واحد وقتل آخر فالقود على القاتل دون الممسك لكن الممسك يُحبس أبداً. ولو نظر لهما ثالث لم يضمن لكن تسمل عيناه، أي تُفقأ».
وقد ورد بهذا الحكم بعض الروايات، منها: ما رواه السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «أنّ ثلاثة نفر رفعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام واحد منهم أمسك رجلًا وأقبل الآخر فقتله والآخر يراهم، فقضى في صاحب
الرؤية أن تسمل عيناه، وفي الذي أمسك أن يسجن حتى يموت كما أمسكه، وقضى في الذي قتل أن يقتل».
وهي تؤكد على أنّ المباشر هو القاتل، ولذلك كان
القود عليه، إلّا أنّها زادت عقوبتين اخريين على
الممسك والمطّلع. وقد أفتى به فقهاؤنا بلا
خلاف فيه.
نعم، حكم بعض الفقهاء باشتراك المباشر مع السبب في الضمان في باب
الديات في
مسألة معروفة بمسألة «الزبية» وهي حفيرة تحفر للأسد إذا تساقط فيها عدة أشخاص
نتيجة جذب كلّ منهم الآخر.
قال في
الشرائع : «لو وقع أحد في زبية الأسد فتعلّق بثان وتعلّق الثاني بثالث والثالث برابع فافترسهم
الأسد ففيه روايتان:
إحداهما: رواية
محمّد بن قيس عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «قضى
أمير المؤمنين عليه السلام في الأوّل فريسة الأسد وغرم
أهله ثلث الدية للثاني، وغرم الثاني لأهل الثالث ثلثي الدية، وغرم الثالث لأهل الرابع الدية كاملة».
والثانية: رواية
مسمع عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام «أنّ علياً قضى أنّ للأوّل ربع الدية، وللثاني ثلث الدية، وللثالث نصف الدية، وللرابع الدية كاملة، وجعل ذلك على
عاقلة الذين ازدحموا».
والأخيرة ضعيفة الطريق إلى مسمع فهي إذاً ساقطة، والاولى مشهورة لكنّها حكم في واقعة.
ويمكن أن يقال: على الأوّل الدية للثاني
لاستقلاله بإتلافه، وعلى الثاني دية الثالث، وعلى الثالث دية الرابع لهذا المعنى، وإن قلنا
بالتشريك بين مباشر
الإمساك والمشارك في
الجذب كان على الأوّل دية ونصف وثلث، وعلى الثاني نصف وثلث، وعلى الثالث ثلث دية لا غير».
وعلّق عليه في
الجواهر بقوله: «إلّا انّه واضح الضعف، ضرورة قوّة تأثير الممسك على وجه لا يشاركه الجاذب، ضرورة كونه كالمباشر والسبب بعد عدم
الإلجاء في الإمساك على وجه يكون متولداً من فعله، وإلّا لكان الضمان عليه خاصّة، فتعيّن العمل بالوجه الأوّل مع فرض طرح
الخبر المزبور، لكن قد عرفت عدم داعٍ إلى طرحه بعد صحة سنده و
اعتراف غير واحد بعمل
الأصحاب به، فليس إلّا
المخالفة للُاصول التي لا تقتضي
الطرح كما في نظائر ذلك
واللَّه العالم ».
وقال في تكملة المنهاج: «إذا وقع من شاهق أو في بئر أو ما شاكل ذلك فتعلّق بآخر ضمن ديته، وإذا تعلّق الثاني بالثالث ضمن كلّ من الأوّل والثاني نصف دية الثالث، وإذا تعلّق الثالث بالرابع ضمن كلّ من الثلاثة ثلث دية الرابع، وإذا تعلّق الرابع بالخامس ضمن كلّ من الأربعة ربع دية الخامس، وهكذا...
نعم، يستثنى من ذلك ما إذا وقع في
زبية الأسد فتعلّق بالآخر وتعلّق الثاني بالثالث والثالث بالرابع فقتلهم الأسد ضمن أهل الأوّل ثلث دية الثاني، والثاني ثلثي دية الثالث، والثالث تمام دية الرابع».
وعلّله في
مباني التكملة : «بأنّ موت الثالث مستند إلى فعل كليهما
الجاذب والممسك؛ لأنّ الأوّل لو رفع اليد عن الثاني لم يقع الثالث وكذا لو رفع الثاني اليد عن الثالث فبطبيعة الحال كان وقوعه مستنداً إلى فعل كليهما».
وهذا معناه تشريك السبب مع المباشر في الضمان، إلّا أنّ هذا غير واضح في تمام فروض المسألة، وإن كان قد يتحقّق بحيث لو رفع كلّ منهم يده لم يسقط الباقون. و
تفصيل ذلك يراجع فيه مصطلح (ديات).
إذا اجتمع سببان أو أكثر للإتلاف، كما لو حفر شخص بئراً في طريق الغير ووضع آخر حجراً عنده فجاء ثالث فعثر بالحجر ووقع في البئر فاذا كان أحدهما
متعدياً دون الآخر كما إذا حفر في ملكه فوضع الثاني حجراً عنده فعثر صاحب الدار به فسقط في البئر فلا
إشكال في ضمان المتعدّي
لاستناد الاتلاف إليه، وأمّا مع تساويهما في
العدوان وعدمه فظاهر عبارات بعض الفقهاء أنّ الضمان يقع على المتقدّم منهما بلحاظ زمان
إحداث السببين، وأمّا مع
اتحادهما في الزمان فيشتركان في الضمان كما لو وُضع
الحجر وحُفر البئر في وقت واحد.
قال العلّامة الحلّي رحمه الله: «ولو تعدّد السبب فالضمان على المتقدّم منهما إن ترتّبا، كما لو حفر شخص بئراً في محلٍّ عدواناً ووضع آخر حجراً فيه فعثر
إنسان بالحجر فوقع في البئر فالضمان على واضع الحجر؛ لأنّه السبب المؤدّي إلى سبب الإتلاف، فكان أولى بالضمان؛ لأنّ المسبّب يجب مع حصول سببه فيه، فوضع الحجر يوجب التردّي. أمّا لو انتفى
الترتيب فالضمان عليهما، كما لو حفر ووضع الحجر معاً فإنّ الضمان عليهما».
فإنّ نحو بيانه للترتيب وعدم الترتيب بين السببين وجعله وضع الحجر سبباً للتردّي لا
العثور به يوحي
بإرادة التقدُّم و
التأخر في زمان إحداث السببين لا
تأثيرهما وإن تضمّن نحو عرضه للمثال و
تعليله للضمان ما يدلّ على أنّ المناط على التقدّم في التأثير. وظاهر بعضها الآخر وقوع الضمان على المتقدّم منهما بلحاظ زمان التأثير.
قال
الشهيد الثاني في
اجتماع السببين: «إن اتّفقا في وقت واحد اشتركا في الضمان؛ لعدم
الترجيح ، وإن تعاقبا فالضمان على المتقدّم في التأثير؛
لاشتغاله بالضمان أوّلًا، فكان أولى وهو سبب السبب فيجب وجود المسبّب عنده».
وجاء في عبارات اخرى
التعبير بالأسبق في
الجناية ، قال المحقّق الحلّي: «لو اجتمع سببان ضمن من سبقت الجناية بسببه، كما لو ألقى حجراً في غير ملكه وحفر الآخر بئراً، فلو سقط العاثر بالحجر في البئر فالضمان على
الواضع . هذا مع
تساويهما في
العدوان ، ولو كان أحدهما عادياً كان الضمان عليه. وكذا لو نصب سكّيناً في بئر محفورة في غير ملكه فتردّى
إنسان على تلك السكّين فالضمان على الحافر ترجيحاً للأوّل. وربّما خطر بالبال التساوي في الضمان؛ لأنّ التلف لم يتمحّض من أحدهما، لكن الأوّل أشبه».
وقال الشهيد الثاني: «إذا اجتمع سببا
هلاك فصاعداً قدّم الأوّل منهما، والمراد به
الأسبق في الجناية وإن كان حدوثه متأخراً عن الآخر؛ لأنّه المهلِك إمّا بنفسه أو بواسطة الثاني، وقد تحقّقت نسبة الضمان إليه قبل الآخر فيستصحب، كما لو حفر بئراً في محلّ عدوان أو نصب سكّيناً ووضع آخر حجراً فعثر بالحجر ثمّ وقع في البئر أو كان السكّين في البئر فأصابته بعد وقوعه فالضمان يتعلّق بواضع الحجر لما ذكر، ولأنّ
التعثّر هو الذي ألجأه إلى الوقوع في البئر أو على السكين، فكان كما لو أخذه وردّاه في البئر أو ألقاه على السكّين. وهذا كما لو كان في يده سكّين فألقى عليه رجل إنساناً فإنّ الضمان والقصاص على الملقي، ولا فرق بين وضع الحجر قبل حفر البئر وبعده وكذا وضع السكّين.
وفي
المسألة احتمالان آخران...أحدهما: وهو تساوي السببين في الضمان؛ لأنّ
التلف حصل منهما، وكلاهما متعدٍّ، فلا يرجّح الأوّل بالسبق. والثاني:
ترجيح السبب
الأقوى كما لو كان السكّين قاطعاً موجباً فيختص الضمان بناصبه. و
الأشهر الأوّل. هذا إذا كانا متعدّيين، فلو اختصّ أحدهما بالعدوان اختصّ بالضمان، كما لو حفر بئراً أو نصب سكّيناً في ملكه ووضع المتعدّي حجراً فعثر به أو انعكس بأن حفر المتعدّي البئر في ملك غيره ووضع
المالك الحجر فإنّ الضمان على المتعدّي في الصورتين. أمّا الاولى فواضح؛
لاجتماع العدوان والتقدّم. وأمّا الثانية
فلانتفاء العدوان عن المالك الموجب لانتفاء الضمان، فيختصّ بالسبب الآخر المتعدّي. ويجيء على احتمال
الاشتراك وجوب نصف الجناية على المتعدّي وسقوط النصف كما لو هلك بالمتعدّي والسبع».
و
المستظهر من هذه العبارات أنّ المشهور تضمين السبب الأسبق حدوثاً أو تأثيراً في الجناية. وفي قباله ذهب بعض الفقهاء إلى تضمين صاحب السبب المتأخر؛ لأنّه السبب الذي حصل به الإتلاف، والأوّل لم يتسبّب فيه.
قال
الفاضل الهندي : «وأمّا إن تعدّى أحد بوضع الحجر وآخر بحفر البئر فالضمان على واضع الحجر كما في
المبسوط و
المهذب و
التحرير ، فانّه كالدافع. ولا يبعد القول بضمان المتأخر منهما، فإنّ وضع الحجر قرب البئر بمنزلة
الدفع لا مطلقاً».
كما ذهب فقهاء آخرون إلى اشتراك الأسباب المتعددة مع التساوي في العدوان في ضمان واحد.
قال
المحقّق الأردبيلي بعد تعرّضه لقول المشهور في المثال المتقدّم: «وفيه تأمّل، فإنّ الأوّل ما أثّر تأثيراً تامّاً مستقلًاّ؛ إذ المفروض بل
المعلوم أن لو لم يكن البئر لم يمُت العاثر فكيف يكون الضمان عليه فقط؟! على أنّهم يصرّحون بأنّه إذا جرح اثنان أحدهما سابق والآخر لاحق به وأثّرا جميعاً فمات بهما- وإن كان الأوّل بحيث لو كان وحده كان قاتلًا- كلاهما قاتل وضامن، فينبغي أن يكون في مثالنا كذلك
بالطريق الأوّل».
وقال
المحقق النجفي بعد نقله عبارتي العلّامة الحلي والشهيد الثاني المتقدمتين أوّلًا: «لا يخلو كلامهما من خفاء في
الجملة ، والذي ذكره غيرهما أنّه يقدّم الأوّل في الجناية وإن تأخّر حدوثه عن الآخر. وربما احتمل
ترجيح الأقوى، كما لو نصب سكّيناً في البئر المذكور، وقد يحتمل قوياً تساوي السببين؛ لاشتراكهما في التلف الحاصل خارجاً، وانّه لو لا الحجر لم يحصل التردّي في البئر، كما أنّه لو لا البئر لم يؤثّر
العثور بالحجر تلفاً، بل لو فرض كون كلُّ من السببين متلفاً لو استقل إلّا أنّهما اشتركا فيما تحقّق في الخارج من التلف يتجه أيضاً فيه الاشتراك في الضمان».
وقال السيد الخوئي في تكملة منهاج الصالحين: «لو اجتمع سببان لموت شخص كما إذا وضع أحد حجراً- مثلًا- في غير ملكه وحفر الآخر بئراً فيه فعثر ثالث بالحجر وسقط في البئر فمات فالأشهر أنّ الضمان على من سبقت جنايته، وفيه إشكال. فالأظهر أنّ الضمان على كليهما.
نعم، إذا كان أحدهما متعدّياً- كما إذا حفر بئراً في غير ملكه- والآخر لم يكن متعدّياً- كما إذا وضع حجراً في ملكه- فمات العاثر بسقوطه في البئر فالضمان على المتعدّي».
وعلّق في مباني التكملة على ضمان كلا السببين: «الوجه في ذلك هو أنّه لا
دليل على ما هو
الأشهر بين الأصحاب عدا ما قيل: من أنّه يستصحب
أثر السبب الأوّل، وبه يرجّح على السبب الثاني.
وفيه: أنّه لا مجال
للاستصحاب أصلًا ، حيث إنّه لا أثر للسبب الأوّل قبل السبب الثاني، بل هو
مستند إلى كليهما معاً، فالنتيجة أنّ نسبة الضمان
بالاضافة إلى كلا السببين على حدّ سواء، فلا وجه لترجيح السابق جناية على اللاحق كذلك».
والظاهر من عبارات الفقهاء أنّ نظرهم إلى موارد اشتراك السببين في حصول التلف وحصول الاتلاف بهما خارجاً، وأمّا إذا كان بنحو بحيث كان أحد السببين لا دخل له في التلف الحاصل وإن كان لو لا السبب الآخر لكان يحصل به التلف فلا ضمان عليه، كما إذا ألقاه من
شاهق ولكن شخصاً آخر كان مترصّداً لقتله برميه
بالسهم فرماه به في هذه الحالة وقتله فإنّ قتله الحاصل غير مستند إلى إلقائه من شاهق قطعاً فالقاتل هو
الرامي بالسهم فحسب، وهذا واضح.
إذا انضم إلى المتلف مباشرة حيوان فإن كان وجود
الحيوان اتفاقياً فلا ضمان عليه، كما إذا ترك
الأسير في
الشارع فاتفق أن جاء ذئب وافترسه، وإن كان غالبياً كمن ألقى
إنساناً إلى
السبع أو في
مسبعة أو في فلاة يغلب فيه الحيوان
المفترس فافترسه فالضمان كاملًا عليه، بلا فرق بين أن يكون المضمون هو
القيمة أو الدية أو
القصاص .
وإن كان هلاكه
بالسراية من جرحه ومباشرة
الحيوان له اتفاقاً كما لو جرح شخصاً وانتهشته حيّة بنحو يكون كلًاّ من
الجرح و
النهش مؤثّراً في موته، ولم يكن جُرحه هو السبب في تغلّب الحيّة عليه فيقسّم الضمان بين أسباب الإتلاف ويُعَدّ هو في جملتها ليناله من الضمان نصيبه من الإتلاف.
قال المحقّق الحلّي في مراتب الإتلاف:
«المرتبة الثالثة: أن ينضمّ إليه
مباشرة حيوان، وفيه صور:
الاولى: إذا ألقاه إلى
البحر فالتقمه
الحوت قبل وصوله فعليه القود؛ لأنّ
الإلقاء في البحر
إتلاف بالعادة. وقيل:
لا قود؛ لأنّه لم يقصد إتلافه بهذا النوع، وهو قويّ. أمّا لو ألقاه إلى الحوت فالتقمه فعليه القود؛ لأنّ الحوت ضارٌّ بالطبع فهو كالآلة.
الثانية: لو أغرى به
كلباً عقوراً فقتله فالأشبه القود؛ لأنّه كالآلة. وكذا لو ألقاه إلى أسد بحيث لا يمكنه
الاعتصام فقتله سواء كان في مضيق أو برّية.
الثالثة: لو أنهشه حيّة قاتلًا فمات قتل به، ولو طرح عليه حيّة قاتلًا فنهشته فهلك فالأشبه وجوب القود؛ لأنّه مما جرت
العادة بالتلف معه.
الرابعة: لو جرحه ثمّ عضّه
الأسد وسرتا لم يسقط القود، وهل يردّ
فاضل الدية؟
الأشبه نعم، وكذا لو شاركه
أبوه أو اشترك عبد وحرٌّ في قتل عبد.
الخامسة: لو كتفه وألقاه في أرض مسبعة فافترسه الأسد
اتفاقاً فلا قود، وفيه الدية».
قد يحصل
تقابل في الإتلاف بين المتلفين بأن يورد أحدهما
التلف على الآخر بنفس العلّة التي يرد بها التلف عليه من الطرف الآخر، وذلك مثل حالات
التصادم أو
التدافع أو
التجاذب المؤدّية إلى الإتلاف في المال أو النفس.
والقاعدة في هذه الحالة أن ينظر إلى كلّ متلف وما يتسبّب به من التلف بصورة مستقلّة عن الآخر، بلا فرق في ذلك بين أن يكون المتلف مالًا أو نفساً، وتترتّب على ذلك أحكامه، فقد يكون بعض المتلفين
متعمّداً للإتلاف والبعض الآخر غير متعمّد بل مجبر عليه، كما في اصطدام
السفينتين إذا تعمّد أحد المتلفين صدم سفينته بسفينة الآخر وعدم المجال للآخر
للتخلّص، فإنّ ضمان خسارة كلتا السفينتين تكون في مال
المجبِر المتعمِّد؛ إذ ما ورد من الإتلاف عليه ورد بفعله وضمان ما أتلفه بفعله في ماله، وما أورده على الغير مضمون له بقاعدة الإتلاف لمال الغير. وكذا ضمان
النفوس من القصاص والدّية يثبت عليه.
وقد يكون جميع المتلفين غير متعمّدين للإتلاف فيضمن كلّ واحد ما يسبّبه للآخر من التلف، لكنه لا يضمن جميع التلف الحاصل له بل نصفه؛ إذ
المفروض أنّ التلف المتقابل حصل بسبب مشترك بين المتلفين فينصف نصفين: نصف السبب يكون من فعل من ورد عليه التلف نفسه والنصف الآخر من فعل الآخر، وضمان النصف الأوّل يذهب عليه هدراً، وأمّا النصف الثاني فيكون مضموناً على الآخر. وكذا الحال فيما لو كان جميع المتلفين متعمدين.
قال الشيخ الطوسي: «إذا اصطدم
فارسان فماتا فعلى عاقلة كلّ واحد منهما نصف دية صاحبه والباقي هدر إذا كان ذلك
خطأ محضاً ... دليلنا: أنّ ما ذكرناه مجمع على لزومه لهم، وما زاد عليه ليس عليه دليل، و
الأصل براءة الذمة ... ولأنّهما إذا اصطدما فماتا فقد مات كلُّ واحد منهما من صدمته وصدمة صاحبه، فصار موت كلّ واحد منهما بفعل اشتركا فيه، فما قابل جنايته على نفسه هدر، وما قابل جناية صاحبه عليه مضمون، فوجب على
عاقلة كلّ واحد منهما نصف دية صاحبه، كما لو جرح كلّ واحد منهما صاحبه وجرح نفسه فماتا، فما فعله في نفسه هدر، وما قابل فعل صاحبه فيه مضمون كذلك هاهنا».
وقال المحقق الحلّي: «إذا اصطدم حرّان فماتا فلورثة كلٍّ منهما نصف ديته، ويسقط النصف وهو قدر نصيبه؛ لأنّ كلّ واحد منهما تلف بفعله وفعل غيره. ويستوي في ذلك الفارسان و
الراجلان والفارس والراجل، وعلى كلّ واحد منهما نصف قيمة فرس الآخر إن تلف بالتصادم، ويقع
التقاصّ في الدية، وإن قصد القتل فهو عمد».
لكن لا بدّ من
استثناء التلف الحاصل في المال
بالاصطدام من غير تحكّم صاحبه به و
تفريطه في حفظه، كالدوابّ والسفن إذا اصطدمت ببعضها فتلفت؛ لعدم صدق الإتلاف وعدم
انتساب التلف إلى المالكين، فهذا كالتلف السماوي، فالمعيار بصدق الإتلاف و
انتسابه ، فإذا كان منتسباً إليهما معاً كانا مشتركين فيما حصل على كلّ منهما فيضمنان نصف
الخسارة الواقعة على الآخر ويكون النصف الآخر هدراً لكونه بفعله، وإن كان منتسباً إلى أحدهما فقط للتفريط أو
التعدّي كان عليه تمام خسارة المصدوم الآخر. كلّ ذلك على القاعدة، وقد دلّت عليها بعض الروايات الخاصة أيضاً. وبهذا المعنى وردت كلمات فقهائنا أيضاً.
قال الشيخ الطوسي: «إذا اصطدمت السفينتان من غير تفريط من
القائم بهما في شيء من أسباب التفريط بريح فهلكتا وما فيهما من
المال و
الأنفس أو بعضه كان ذلك هدراً، ولا يلزم واحداً منهما لصاحبه شيء».
وقال المحقق الحلّي: «ولو كانا عبدين بالغين سقطت جنايتهما؛ لأنّ
نصيب كلّ واحد منهما هدر وما على صاحبه؛ لأنّه فات بتلفه، ولا يضمن المولى».
و
الوجه في عدم ضمان المولى أنّ جناية
العبد في رقبته.
وقال أيضاً: «لو اصطدمت سفينتان بتفريط القيّمين وهما مالكان فلكلّ منهما على صاحبه نصف
قيمة ما أتلف صاحبه. وكذا لو اصطدم
الحمّالان فأتلفا أو أتلف أحدهما. ولو كانا غير مالكين ضمن كلّ واحد منهما نصف السفينتين وما فيهما؛ لأنّ التلف منهما والضمان في أموالهما سواء كان التالف مالًا أو نفوساً. ولو لم يفرّطا بأن غلبتهما الرياح فلا ضمان. ولا يضمن صاحب السفينة الواقفة إذا وقعت عليها اخرى، ويضمن صاحب
الواقعة لو فرّط».
وقال السيد الخوئي في
مباني تكملة المنهاج : «لو اصطدم حرّان
بالغان عاقلان قاصدان ذلك فماتا اتفاقاً ضمن كلّ واحد منهما نصف
دية الآخر، ولا فرق في ذلك بين كونهما
مقبلين أو
مدبرين أو
مختلفين ».
والظاهر أنّ تقييد ذلك بقصد الاصطدام من أجل
الاحتراز عما إذا لم يكونا قاصدين للاصطدام، ولكنه حصل خطأً فيكون القتل خطأً محضاً، فتكون نصف الدية على عاقلة كلٍّ منهما.
وقال أيضاً: «لو تصادم فارسان فمات
الفرسان أو تعيّبا فعلى كلّ واحد منهما نصف قيمة فرس الآخر أو نصف الأرش، هذا إذا كان الفارس مالكاً للفرس، وأمّا إذا كان غيره ضمن نصف قيمة كلّ من الفرسين لمالكيهما، هذا كلّه إذا كان التلف
مستنداً إلى فعل الفارس، وأمّا إذا استند إلى أمر آخر
كإطارة الريح ونحوها مما هو
خارج عن
اختيار الفارس لم يضمن شيئاً، ومثله ما إذا كان الاصطدام من طرف واحد أو كان التعدي منه فانّه لا ضمان حينئذٍ على
الطرف الآخر، بل الضمان على المصطدم أو المتعدي، ويجري ما ذكرناه من
التفصيل في غير الفرس من المراكب سواء كان حيواناً أم
سيارة أم
سفينة أم غيرها».
ومن تطبيقات المسألة ما ذكره الفقهاء أيضاً- مبنياً على ما تقدم- من انّه إذا اصطدم فارسان فمات أحدهما دون الآخر ضمن الآخر نصف دية
المقتول والنصف الآخر منها هدر؛ لأنّه مستند إلى فعله، فلا يكون ضمانه على الآخر، إلّا انّه ورد في رواية عن
أبا الحسن موسى عليه السلام قال: «قضى
أمير المؤمنين عليه السلام في فارسين اصطدما فمات أحدهما فضمن الباقي دية
الميت ».
وقد طرحها الفقهاء
باعراض المشهور وأنّها شاذة لا عامل بها، وحملها بعضهم على ما إذا كان
الموت مستنداً إلى الباقي فقط ولم يكن لفعل الميت دخلٌ فيه.
لو أمر غيره بعمل لا على وجه
المجانية كان ضامناً لُاجرته؛ لأنّ عمل الغير مال
محترم ، ويكون صدوره بأمره وطلبه نحو
استيفاء له واتلاف فيضمنه الآمر، وهذا لا خلاف فيه عندهم إلّا من ناحية ما إذا قصد
العامل التبرّع حيث ذهب بعضهم إلى عدم
الاستحقاق في هذه الصورة وإن كان من قصد الآمر
إعطاء الأجرة كما ذهب إليه
السيد اليزدي في
العروة الوثقى .
وأمّا إذا أمره بإتلاف ماله من
الأعيان الخارجية كما إذا قال له: ألق متاعك في
البحر ، فهل يضمن بذلك قيمة ذلك المال إذا كان على وجه الضمان كما إذا قال:
وعليَّ ضمانه في خصوص ما إذا كان من أجل دفع ضرر وخوف أو غرض عقلائي في الإتلاف، أو مطلقاً؟ قولان:
المشهور الأوّل. واختار بعضهم- كالسيد الخوئي- الثاني.
قال الشيخ الطوسي: «إذا قال لغيره ألق متاعك في البحر وعليّ ضمان قيمته صحّ ويكون ذلك بدل ماله ويكون غرضه
التخفيف عن السفينة و
تخليص النفوس».
قال المحقق الحلّي: «لو قال ألق متاعك في البحر لتسلم السفينة فألقاه فلا ضمان، ولو قال: وعليّ ضمانه ضمن دفعاً لضرورة
الخوف ، ولو لم يكن خوف فقال ألقه وعليّ ضمانه ففي الضمان تردّد أقربه أنّه لا يضمن، وكذا لو قال: مزِّق ثوبك وعليّ ضمانه أو اجرح نفسك، لأنّه ضمان ما لم يجب، ولا
ضرورة فيه».
وقال العلّامة الحلّي: «ولو أشرفت السفينة على
الغرق فقال الخائف على نفسه أو غيره: ألقِ
متاعك في البحر وعليّ ضمانه ضمن دفعاً للخوف. ولو لم يقل: وعليّ ضمانه، بل قال ألقِ متاعك لتسلم السفينة فألقاه فلا ضمان، ولو لم يكن خوف فقال: ألقه وعليّ ضمانه
فالأقرب عدم الضمان، وكذا لا ضمان لو قال: مزّق ثوبك وعليّ ضمانه».
مفسراً عبارة المحقق الحلّي المتقدّمة: «الضمان إنّما يجب على
الملتمس بشرطين: أحدهما: أن يكون
الالتماس عند خوف الغرق، فأمّا في غير حال الخوف فلا يقتضي الالتماس الضمان سواء قال: على أني ضامن أم لم يقل كما لو قال اهدم دارك أو مزّق ثوبك، أو اجرح نفسك ففعل. هذا هو
الأظهر في الحكم، بل ادّعى عليه الشيخ في
المبسوط الإجماع ولكن
المصنف (المحقق الحلّي) تردّد في الحكم عند عدم الخوف. ووجه
التردّد من عدم
الفائدة والإجماع المدّعى وكون الضمان على خلاف
الأصل ، وإنّما ترك العمل به مع الخوف للمصلحة فيبقى الباقي، ومن عموم الأمر
بالوفاء بالعقود وهو عام، إلّا ما خصّه الدليل، ولا مخصّص هنا. وهو ضعيف؛ لوجود المخصّص».
وقال
المحقق النجفي : «ولو لم يكن خوف وإن كان فيه نفع من خفّة السفينة ونحوها فقال: ألقه وعليّ ضمانه ففي الضمان تردّد، من الأصل، وعدم دفع ضرورة الخوف، ونفي
الخلاف الآتي، ومن عموم
المؤمنون عند شروطهم، وقاعدة الغرور، و
عموم الوفاء بالعقود، بناء على أنّ المفروض منه أقربه أنّه لا يضمن، وفاقاً للشيخ و
القاضي والفاضل وولده والكركي وغيرهم، بل عن المبسوط نفي الخلاف فيه، أو حكايته كما في
كشف اللثام ، بل في
المسالك عنه الإجماع عليه. وكذا لو قال: مزِّق ثوبك وعليّ ضمانه أو اجرح نفسك وعليّ أرشه؛ لأنّه ضمان ما لم يجب، ولا ضرورة فيه يشرع الضمان لهما، والمباشر أقوى من السبب، بل عن المبسوط قيل: لا خلاف فيه أو نفي الخلاف
لاختلاف النسخ، كما عن
الإيضاح و
جامع المقاصد القطع بعدم الضمان مع الخلوّ عن
النفع بالكلّية، بل في
القواعد وكشف اللثام ومحكيّ الإيضاح
اعتبار عدم
اختصاص فائدة الالقاء لصاحب المتاع في الضمان على القول المزبور وإلّا بطل؛ لأنّه فعل ما هو واجب عليه لمصلحة نفسه، فلا يستحقّ به عوضاً كما لو قال
للمضطر : كل طعامك وأنا ضامن. ولكن احتمل غير واحد الضمان عملًا
بإطلاق الفتاوى ومعقد الإجماع أو نفي الخلاف وغير ذلك مما عرفت، وهو قويّ جدّاً. وفي التحرير بنى
الاحتمالين عليهما فيما إذا اشترك الخوف بينه وبين غيره فقال: يحل له الأخذ إن لم يسقط الضمان هناك بالنسبة، ولا يحلّ إن اسقطناه».
وقال
السيد الحكيم : «إنّ
إلقاء المتاع إذا كان يترتب عليه فائدة عقلائية من خفة السفينة وحسن سيرها فتقطع
المسافة البعيدة في مدّة قليلة، وكان المتاع بحيث يحسن بذله في
سبيل الفائدة عند العقلاء جاز لصاحبه إلقاؤه بلا
عوض وجاز
التعويض عليه من
ركبان السفينة أو من بعضهم. وإذا كان لا يترتب عليه فائدة عقلائية لم يُجز الإلقاء مع الضمان وبدونه. وكذلك في مثل اهدم دارك ومزّق ثوبك واجرح نفسك فانّه إذا كان يترتب فائدة عقلائية على كلّ واحد من الامور المذكورة جاز فعله بلا عوض ومع العوض، ويكون ذلك من قبيل
إعابة السفينة لصاحب
موسى عليه السلام وإذا لم يترتّب عليه فائدة لم يجز مع الضمان وبدونه. وإذا أمره آمر على شرط الضمان فالضمان
باطل ؛ لأنّه تعويض على
الحرام و
تضييع المال، ولا يبعد أن تكون هذه الصورة مورد القول بالمنع ومورد الإجماع عليه. ولذا قال في محكيّ الإيضاح: لو خلا عن الفائدة بالكلّية لم يصح قطعاً».
قال في تكملة المنهاج: «لو قال لآخر: الق متاعك في
البحر لتسلم السفينة من
الغرق و
الخطر وكانت هناك
قرينة على
المجانية وعدم ضمان الآمر فألقاه المأمور فلا ضمان على الآمر، ولو أمر به وقال: وعليّ ضمانه ضمن إذا كان الإلقاء لرفع الخوف ونحوه من الدواعي العقلائية، وأمّا إذا لم يكن ذلك ومع هذا قال: ألق متاعك في البحر وعليّ ضمانه
فالمشهور على أنّه لا ضمان عليه بل ادعي الإجماع عليه، وفيه
إشكال ، و
الأقرب هو الضمان، وقد علّله
بالسيرة العقلائية الجارية على ضمان من أمر غيره باتلاف ماله لا مجاناً وهي مطلقة، لا
اختصاص لها بما إذا كان هناك غرض عقلائي في الإتلاف».
المعروف أنّ ترك
إنقاذ من يمكن إنقاذه
كالغريق أو
الجائع أو
العطشان بدفع
الطعام إليه لا يوجب الضمان؛ لأنّه لا يوجب
انتساب التلف إليه لا مباشرة ولا تسبيباً.
قال المحقّق النجفي: «إذا قصر من لزمه
الإلقاء فلم يلق حتى غرقت السفينة فعليه
الإثم لا الضمان، كما لو لم يطعم صاحب الطعام
المضطر حتى هلك وإن طلبه منه.
وكذا كلّ من تمكّن من
خلاص إنسان من
مهلكة فلم يفعل أثم ولا ضمان؛ للأصل وغيره كما نصّ عليه في
المسالك وغيرها.
لكن عن
التحرير : أنّه لو اضطرّ إلى طعام غيره أو شرابه فطلبه منه فمنعه إيّاه مع
غنائه عنه في تلك الحال فمات ضمن
المطلوب منه؛ لأنّه
باضطراره إليه صار أحق من
المالك وله أخذه قهراً فمنعه إيّاه عند طلبه سبب هلاكه. قال: وهو مشكل، ضرورة عدم مقتضٍ للضمان من
مباشرة أو تسبيب أو غيرهما من
الأفعال التي رتّب
الشارع عليها الضمان، وليس ترك حفظه من
الآفات منها وإن وجب عليه ذلك، لكنه وجوب شرعي يترتّب عليه
الإثم دون الضمان. ومنه ترك
إنقاذ الغريق و
إطفاء الحريق ونحوهما وإن كان مقدوراً عليه، بل التروك جميعها لا يترتّب عليها ضمان إذا كان علّة
التلف غيرها وهي شرائط، ومنه ما نحن فيه. بخلاف
الحبس عن الطعام مثلًا حتى مات جوعاً ونحوه من الأفعال كما تقدمت
الإشارة إليه في كتاب الغصب، والمفروض في
المقام ليس إلّا تركاً لما وجب عليه من إلقاء المال
الصامت أو الحيوان غير الإنسان مقدمة لحفظ الإنسان فلا يترتّب عليه ضمان، فتأمّل جيداً».
هذه هي أهم الحالات التي ذكرها الفقهاء في كتبهم للإتلاف حاولنا أن نبيّنها بمقدار ما يتناسب والبحث تاركين
التفصيل في كل حالة إلى موطنها.
الموسوعة الفقهية، ج۳، ص۲۵۸-۲۸۲.