وللباطل إطلاقات عديدة في القرآن الكريم والعلوم المختلفة نتعرّض لها إجمالًا فيما يلي:
منها: إطلاق الباطل عند علماء البلاغة و المنطق ، ويراد به الكذب في الكلام .
ومنها: إطلاق علماء العرفان ، ويراد به ما سوى اللَّه سبحانه (ألا كلّ شيء ما خلا اللَّه باطل).
ومنها: إطلاق الباطل في القرآن الكريم، وإليك بعض الآيات المشعرة بذلك:
وإطلاقه على ما لا ثبات له ولا دوام وعلى الأمر الموهون وما يتسرّب إليه الفساد، وكلّ ذلك يستشعر من قوله تعالى: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ».
وهو ما يقابل الباطل و الفاسد في جميع المعاني المتقدمة، فيقال: صحّ البدن ، إذا جرت أفعاله مجرى الأفعال الطبيعية، وصحّت الصلاة، إذا حصل بها الامتثال وسقط الأمر، وصحّ العقد - كالنكاح و الطلاق ونحوهما-
إذا ترتّب عليه الأثر المطلوب، وصحّ القول ، إذا طابق الحقّ و الواقع .
وهو- لغة- بمعنى الهدر والفساد، و اصطلاحاً : إبطالالطاعة بالمعصية، فهو بالمعنى اللغوي مرادف للبطلان ، وبمعناه الاصطلاحي أخصّ منه.
قال الراغب : «حبط العمل على أضرب: أحدها: أن تكون الأعمال دنيوية فلا تغني في القيامةغناءً ... والثاني: أن تكون أعمالًا اخروية، لكن لم يقصد بها صاحبها وجه اللَّه تعالى... والثالث: أن تكون أعمالًا صالحة ولكن بإزائها سيّئات توفي عليها، وذلك هو المشار إليه بخفّة الميزان ».
اسم للفساد، وهو خروج الشيء عن الاعتدال ، قليلًا كان الخروج عنه أو كثيراً، ويضادّه الصلاح ، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامة .
والفاسد لدى الفقهاء مرادف للباطل كما هو كذلك بمعنى الفساد والبطلان، فيقال:
صلاة فاسدة وصلاة باطلة، ويقال: بيع باطل وبيع فاسد ونحو ذلك.
نعم، نقل الشهيد الثاني الفرق بين الفاسد والباطل وأنّ الباطل هو ما لم يشرّع بالكلّية كبيع ما في بطون الامّهات، والفاسد: ما يشرّع أصله ولكن امتنع؛ لاشتماله على وصف كالربا.
إلّاأنّه قال: إنّ «الحقّ أنّهم إن ادّعوا أنّ التفرقة شرعية أو لغوية فليس فيهما ما يقتضيه، وإن كانت اصطلاحية فلا مشاحّة في الاصطلاح».
ولكن في الاستدلالات والإطلاقات العامة قد يجتمعان وقد يفترقان كما يقال:
لحم فاسد و فاكهة فاسدة، ولم يعهد إطلاق الباطل عليهما، ويقال: كلام باطل ولا يقال: كلام فاسد، وقد يجتمعان كما في إطلاقات الفقهاء.
من الواضح في الفقه الإسلامي أنّ الباطل الذي يكون خلاف الحق سواء في العقائد أو في الأعمال، لا يجوز الإقدام عليه؛ لكونه عقيدةً فاسدة أو بدعة محرّمة، أو عملًا محظوراً شرعاً، وبهذا تندرج جميع المحرّمات الجوانحية و الجوارحية في هذا الباطل، فلا يجوز الإتيان بها.
ولا يقف الأمر شرعاً عند حدود حرمة فعل الباطل، بل لابدّ من إنكاره أيضاً، فإنكار المنكر والباطل ممّا يجب على كلّ مكلّف إذا توفّرت شرائطه كالعلم بأنّه منكر وغيره، فلو لم يعلم به أو علم به ولكنّه احتمل ارتكاب ذلك باجتهاد منه، فلا يعدّ منكراً ولا يجب إنكاره.
هذا فيما احتمل ارتداعه بإنكاره ولم يلزم منه الضرر ، وإلّا فلا يجب حينئذٍ.
لكنّ هذا فيما إذا كان المنكر من الامور الاعتيادية - كشرب الخمر و اللعب بالقمار أو ترك الحجاب ونحو ذلك- وأمّا لو كان المنكر ممّا يرجع إلى أساس الدين و نظام الإسلام، بحيث يعدّ عدم إنكاره و السكوت عليه موجباً لتصغير الإسلام و وهنه و تحطيم منزلة المتولّين لُامور الإسلام من العلماء ومراجع الدين و اتّهامهمبمداهنة الظالمين و الركوع و الركون إليهم، أو تضعيف اسس الإسلام لدى أفراد المجتمع ، فعندئذٍ يجب الإنكار، سواء احتمل الارتداع أم لم يحتمل ولحق به الضرر أم لا.
قال الإمام الخميني : «لو وقعت بدعة في الإسلام وكان سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب - أعلى اللَّه كلمتهم - موجباً لهتك الإسلام وضعف عقائد المسلمين ، يجب عليهم الإنكار بأيّة وسيلة ممكنة، سواء كان الإنكار مؤثّراً في قلع الفساد أم لا. وكذا لو كان سكوتهم عن إنكار المنكرات موجباً لذلك، ولا يلاحظ الضرر و الحرج بل تلاحظ الأهمّية ».
إحقاق الحقّ و إبطال الباطل من أهمّ الامور التي يلزم القيام بها، بل قد يكون واجباً ، خصوصاً الحقوق النوعية التامّة.
ثمّ إنّ ذلك قد يكون في الامور الحسبية التي تكون من لوازم منصب الحاكم، وقد يكون في حكم القاضي ، وقد يكون ضمن خطبة بليغة، لمن يكون عالماً بمصالح الإسلام والمسلمين، شجاعاً صريحاً في إظهار الحقّ وإبطال الباطل حسب المقتضيات، مراعياً لما يوجب تأثير كلامه في النفوس».
الإقدام على الفعل الباطل مع العلم ببطلانه محرّم ويأثم فاعله لارتكابهالمعصية بمخالفة الشريعة؛ إذ البطلان وصف الفعل الذي يقع مخالفاً للشرع، بلا فرق بين العبادات و المعاملات ، ففي العبادات يحرم بطلان الصلاة على المشهور ،
هذا إذا لم يكن الفعل مستحباً وغير إلزامي ، فإنّ الإقدام عليه لا بقصد التشريع لا يحرم حينئذٍ.
وفي المعاملات يحرم التكسّب بالمحرّمات، أو ما يقصد منه الحرام ، أو غير ذلك ممّا هو محرّم فعله كالغيبة ، و سبّ المؤمن، وعمل الأصنام ، واللعب بالقمار ونحو ذلك.
هذا مع العلم به وعدم الاضطرار إليه، ومعه فقد يجوز ارتكاب الحرام؛ لأنّ الاضطرار من مسوّغات الحرام.
وأمّا الإقدام عليه جهلًا ، فإنّ الأصل بالنسبة إلى الجاهل في أفعاله أن يتعلّم ما هو محلّ ابتلائه من الأحكام في العبادات والمعاملات حتى سائر أعماله و تروكه ؛
لكي لا يقع في مخالفة الشريعة و الوقوع في التشريع المحرّم، فإذا أقدم على العمل ولم يستلزم أحد المحذورين فلا يكون فعله باطلًا ومحرّماً، ولا يستحقّ المؤاخذة على ترك التعلّم ؛ لأنّ وجوبه طريقي ولا يؤاخذ على ترك الواجب الطريقي، كما حقّق في علم الاصول .
وأمّا قوله سبحانه وتعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»
فإنّه غير ناظر إلى مجرّد ترك التعلّم، وإنّما هو التحذير بالنسبة إلى الوقوع في التشريع المحرّم، فما لم يلزم منه التشريع لا تشمله الآية الكريمة.
مضافاً إلى أنّ الجهل و النسيان من الأعذار الشرعية، فقد يعذر إذا لم يستند إلى تقصير منه، كما تدلّ عليه النصوص التي منها: حديث الرفع المعروف: «رفع عن امّتي تسعة أشياء الخطأ والنسيان...
وما لا يعلمون...»،
لا يتصوّر شرعاً تصحيح العمل الباطل إذا كان البطلان بمعنى الفساد، فلو أتى بعمل باطل في العبادات أو عمل في الأثناء عملًا يبطل العبادة، فلا ينقلب صحيحاً، فلو نوى العمل رياءً أو ارتكب الرياء في الأثناء بطل ولم ينقلب صحيحاً؛ لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه، أو قطع نيّة العبادة حين الاشتغال بالعبادة، أو أخلّ بركن من أركانها أو شرط من شرائطها عملًا، فقد أبطل بذلك العبادة ولا تصحّح، بل يجب عليه الإعادة فيما يقبل الإعادة أو القضاء فيما لو كان مأموراً به.
نعم، قد يجب على العامل إتمام العمل الفاسد للتعبّد به شرعاً، كما في الحجّ الفاسد حيث امر بإتمامه، ولكنّه يجب عليه الحجّ صحيحاً من العام القادم.
لكن إذا فهم الفقيه من الأدلّة أنّ البطلان معلّق على عدم الإتيان بفعل متأخر أمكن الحكم بتصحيح العمل الباطل ولو شأناً و اقتضاءً ، لكنه مجرّد تعبير .
وكذا فيما إذا كان البطلان بمعنى عدم النفوذ والتأثير كما في المعاملات و العقود و الإيقاعات من البيع و الإجارة والنكاح والطلاق، فلو أخلّ بركن من أركان البيع أو شرائطه فإنّه يبطل، ولا يمكن تصحيحه إلّا فيما دلّ الدليل عليه، كما في البيع الفضولي إذا لحقته إجازة المالك، أو ما هو مشروط بنحو الشرطالمتأخّر ، وقد صحّحنا الشرط المتأخّر عقلًا، ولحقه الشرط في ظرفه، فقد يصحّح حينئذٍ المعاملة ويتمّ تأثيره ونفوذه.
وكذا لا يصحّح الباطل بتقادم الأيّام و الأزمان أو بحكم الحاكم، فلا ينقلب صحيحاً إذا مرّ عليه أعوام و سنين - مثلًا- كما اتّفق من تصرّف الجائرين في أموال الناس تحت ذرائع فتح الشوارع والطرق وغير ذلك من دون رضاهم و طيبة أنفسهم.
وكذا حكم الحاكم فإنّه لا ينقلب الباطل صحيحاً، فلو تمّت شرائط القضاء عند الحاكم من إقامةالبيّنة العادلة وحكم الحاكم وفقاً لموازين القضاء، وكان المدعي يعلم ببطلانه أو علم الحاكم بذلك، فلا ينقلب الواقع بذلك عمّا هو عليه من البطلان، فلا يجوز لمن حكم له التصرّف في المحكوم به بأيّ نحو من أنحاء التصرّف، وعلى القاضي إعلام خطأ قضائه.